شعراؤنا المدللون مؤسسو أدب اللامعقول

الشيء الوحيد الذي لا يغفر للشعراء هو أن يزروا بالشعر فلا يبدعون فيه

TT

هل يصح ان الدلال يفسد الشاعر ويشحذ القريحة؟ حتى النحويون (الصارمون القساة الذين لا تأخذهم في الخطأ لومة لائم، ولا يجاملون أحدا ولا يغفرون هفوة لغوية صغيرة وسلطوا اسياف قواعدهم على رقاب العباد وكبلوا ألسنتهم بقل ولا تقل) رضخوا للشعراء فأباحوا لهم وحدهم ما لم يجوزوه لغيرهم، وسموا ذلك (ضرورات) اي ان هناك مسوغات تملى على الجميع، بأمر من اللغويين ومن الشعر في اقدم امثلته وبتشجيع من المتلقين قبول ما يفعل الشعراء من مجازر لغوية وفكرية.

وتلك الضرورات اللغوية ـ الشعرية جرت الى احوال شتى عند الشعراء، لا تحصى، منها ضرورات متوهمة اجتماعية ونفسية كأن يبيح الشاعر لنفسه الصدق الفني (الكذب) والمبالغة في النفاق (المديح) والاغراق في الذات والتيه في محاسنها (الفخر) مما يعمق نرجسيته فتصبح مرضا معيقا للابداع وتودي به الى الاصطناع والمبالغة.

ومن الضرورات الشعرية، مثالا لا حصرا، تأنيث المذكر وتذكير المؤنث وقصر الممدود ومد المقصور وتحريك الساكن وتسكين المتحرك وصرف ما لا ينصرف ومنع الصرف عن المنصرف، حتى ان الشعراء يستطيعون حذف جزء من الكلمة فحار هي حارث ومال هي مالك وصاح هي صاحبي الخ.. الخ.

وقد استثمر تقي الدين الحموي هذه الضرورات طلبا للاعطية، فدراهم ممنوعة من الصرف، لغة، لانها من منتهى الجموع (مفاعل ومفاعيل) وللشاعر وحده ان يصرفها، وقد خلع الحموي هذا الحق الشعري على الممدوح الذي لم يصرفها من خزائنه، ليصرفها ويقدمها اليه:

قد منعتم صرف الدراهم عني

ولكم في الورى هبات كثيرة

وأنا شاعر وفي شرع نظمي

صرفها جائز لأجل الضرورة

لماذا يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره؟ اذا كانت الاوزان وما اليها ادت الى الضرورات فإن فريقا من شعراء اليوم لجأوا الى قصيدة النثر هربا وخلاصا من تلك الضرورات وما يشبهها.

وكان الفرزدق اخطأ يوما في شعر واحتج اللغويون فجابههم بصرخة مدوية: «علينا ان نقول وعليكم ان تؤولوا»، فهل كان شعراء العصور الغابرة نخبة عليا مبرأة من الاخطاء او مسوغة اخطاؤها؟ تدل بمواهبها على العالمين فتحظى بالتيه عليهم، لا حسيب ولا رقيب، حتى صار الشاعر لكثرة دلاله يلقب بـ(الدالولاء) ولا سيما اذا ادعى براءة الطفولة او اراد ان يظل في مرحلة الفطام لا يشب عن الطوق خوف ان يفقد طقوس الدلال المترفة. والقضية تربوية اولا، يقول البوصيري:

والنفس كالطفل إن تهمله شب على

حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

هكذا اهمل الشعراء فنشأوا على حب الرضاع ولم ينفطموا وعلى الرغم من ذلك تطلعوا الى «حنو المرضعات على الفطيم»، فهل للدنيا ان تقوم بدور الأم لهؤلاء الاطفال الذين لا يكبرون، يقول ابو نواس:

وقيان كأنها أمهات

عاطفات على بنيها حواني

مطفلات وما حملن جنينا

مرضعات ولسن ذات لبان

ملقمات اطفالهن ثديا

ناهدات كأحسن الرمان

فما اسعد هؤلاء الاطفال، ولا يمل ابو نواس البحث عن الأم الحانية، في اي مكان يحويه يحبو الى الرضاع وقد مسه ظمأ دائم وسغب مزمن:

قطر بُل مربعي ولي بقرى

الكرخ مصيف وأمي العنب

ترضعني درها وتلحفني

بظلها والهجير يلتهب

وقمت احبو الى الرضاع كما

تحامل الطفل مسه السغب

واستمر نزق الشعراء ودلالهم حتى العصر الحديث فادعى نزار قباني، أمام امرأة، ان الرجال ليسوا سوى اطفال:

لم تستطيعي بعد ان تتفهمي

ان الرجال جميعهم اطفال

ولا يمكن ان نلومها فهي غير قادرة ان تدلل وتهدهد طفلا ذا حجم كبير كنزار فتناغيه وتداعبه بأغاني الترقيص ليغفو ويهجع او تطبق ما يريد الجواهري منها:

احمليني كالطفل بين ذراعيك

احتضانا ومثله دلليني

واذا ما سئلت عني فقولي

ليس بدعا اغاثة المسكين

لست أما لكن بأمثال هذا

شاءت الامهات ان تبتليني

ويقول المعري ان سنين طويلة مضت واكتهل ولكنه لم يبلغ الفطام بعد:

مضت وقد اكتهلت وخلت اني

رضيع ما بلغت مدى الفطام

ويتمني شاعر ان يكون صبيا مرضعا نائحا لأنه رأى امرأة تحمل طفلا تشبعه قبلا اذا بكى:

يا ليتني كنت صبيا مرضعا

تحملني الذلفاء حولا اكتعا

اذا بكيت قبلتني اربعا

فلا ازال الدهر ابكي اجمعا

الا نرثي بعد كل ما ورد في الشعر القديم لحال شعراء معاصرين لا يجدون امامهم سوى الحليب المصنع، يقول رشدي العامل:

آه من عشق يترك لذع الخمر وطعم الموت أليفين / على شفة احرقهم الوجد/ وآه من ولد شاب ولم يفطم بعد/ وآه من زمن يجمع وجه المقتول وكف القاتل/ فوق سرير النسيان.

والبياتي تنتهي رحلته قبل ان يبدأها: لو كان البحر مدادا للكلمات/ لصاح الشاعر يا ربي نفد البحر/ وما زلت على شاطئه احبو، الشيب علا رأسي/ وأنا ما زلت صبيا لم ابدأ بعد طوافي ورحيلي.

واورث الدلال الشعراء امراضا وادواء واحوالا مرفوضة ومعيقة للتجريب والنماء في الفكر وتميز الشخصية والتفرد بالمنحى الانساني الخاص، وما دامت اخطاؤهم اللغوية وغيرها تغتفر، فهم المدللون المسكوت عنهم الحقيقيون، خوفا وهلعا من شتائمهم الموزونة المقفاة، فليفعلوا ما يشاؤون وليطروا محاسن انفسهم بما لا نقبله من غيرهم. انهم المؤسسون لأدب اللامعقول لا يتورعون عن المبالغة المقيتة حصولا على مال او ضياع، فابن هانئ الاندلسي يقول للمعز لدين الله الفاطمي:

لا تسألن عن الزمان فإنه

في راحتيك يدور كيف تشاء

وتتخذ المبالغة احوالا، بشار بن برد يقول وكان ضخم الجسم عريض المنكبين يصلح ان يكون مصارعا:

إن في برديَّ جسما ناحلا

لو توكأت عليه لانهدم

وهو لم يستطع ان يحمي نفسه من ميتة شنيعة، وكان يردد:

إذا ما غضبنا غضبة مضرية

هتكنا حجاب الشمس أو تمطر الدما

وبيت عمرو بن كلثوم مشهور لايغاله في اللامعقول: «إذا بلغ الفطام لنا صبي»، ومن مبالغات الشعراء قول الأعشى:

لو أسندت ميْتا الى صدرها

عاش ولم ينقل الى قابر

وللوأواء الدمشقي:

لو أنها خاطبت ميْتا لكلمها

وقام من قبره شوقا يلبيها

والنساء في الشعر يجترحن المعجزات، ينهضن الميت من رقدته، ويعدن الشباب الى الفانين وبلحظ فاتك يختفي اللون الابيض ويزول الشيب وتعتدل القامة وتقوم طقوس الفرح، يقول الطغرائي:

وأغيد لو خاصرته في سجوفه

لرد مشيب العارضين شبابا

فهل تبتدع المبالغة في وصف الحبيب المعجزات؟ وهل المرأة واهبة الحب بقادرة ان تحكم كرتنا الارضية الجميلة وتعكس دورانها طبقا لمحاور ما تهوى وما تريد؟ اسألوا الشعراء الذين حملوها اوصافا لا تعهدها الا في قصائدهم التي لا تقرأها.

ومما يورثه الدلال النرجسية، ومن يحب نفسه كثيرا يعجز ان يجد محبوبا، فإن توهم انه احب فما ذاك الا حبّه لذاته، وهذا يفسر لنا عمليات حب فاشلة لا تحصى، وقسوة تقع بين أناس يفترض ان يحب احدهم الآخر، ويأتي أنسي الحاج بالنرجسية ونقيضها: وتعود دورة الحياة والموت/ وانا سيد الحياة/ وانا المشفق على الموت/ وانا قمر الشعر/ وانا وطن السكر/ وانا ثأر الغفران/ وفي ترابي المخمر بالسر والحرية/ سأحتضن برحمتي المجنونة/ جميع الذين قتلوني.

وصنو النرجسية الأنانية، وتتفرع عنهما مساوئ: الحسد والغيرة والحقد والنقمة وتصل احيانا الى التنكيل والاجرام، واشبعنا الحكماء، عبثا، اقوالا توصينا ان نشارك الآخرين همومهم. والأنانية بلوى ولكن صاحبها لا يستتر، ويكشف عنها شعراء ولا يحسون حرجا، يقول ابن بطلان المتطبب الراهب:

إنما دنياي نفسي فإذا

تلفت نفسي فلا عاش احد

ليت ان الشمس بعدي غربت

ثم لم تطلع على أهل بلد

لماذا نريد ان تفنى الدنيا ويزول البشر إذا حضرنا الموت؟ أليس لدينا بينهم أحباب وأصحاب؟ حتى الغرباء لا يستحقون منا الأمنية الخائبة، وأظن ان هذا الضرب من الشعر نزوة ودلال لا يطاق ولا نرتضي لأبي فراس قوله:

معللتي بالوصل والموت دونه

إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر

أو ما قرره لسان الدين بن الخطيب: «وحققت إنيتي وهي كنز»، أو قول الربيع بن خيثم:

لنفسيَ أبكي لست أبكي لغيرها

لنفسيَ من نفسي عن الناس شاغل

الشيء الوحيد الذي لا يغفر للشعراء ان يزروا بالشعر فلا يبدعون فيه. ماذا نفعل؟ لندع الشعراء يسرحون ويمرحون. انهم أمراء الكلام. ولهم ان يبالغوا، بقدر، وان يتدللوا، بحدود، وان يخرجوا على السياق في اللغة وغيرها، شيئا ما، وان يعدوا ذلك ضرورة لا مناص منها، ما داموا يبدعون لنا ما يخفف عنا وطأة الحياة على ان لا يكونوا سادة أدب اللامعقول بعد اليوم وان لا يشوهوا الحقائق، وان لا يمدحوا احدا، فأوزان الكرة الارضية وقوافيها اضطربت من كثرة الدوران.