أدب سوداني عربي بلسان إنجليزي

ليلى أبو العلا تبرز وجهاً ثقافياً منيراً للسودان غير الوجه الذي يعكسه الإعلام الغربي

TT

بثت محطة «راديو فور» في هيئة الإذاعة البريطانية حلقات مسلسلة من رواية الكاتبة السودانية ليلى أبو العلا «المترجمة». وكانت عدة برامج ادبية في «البي. بي. سي». قدمت قصصاً قصيرة لهذه الكاتبة التي اكملت تعليمها في السودان، ثم رحلت الى اسكتلندا لتقيم فيها عدة سنوات، هي سنوات التلاقح الثقافي والتخصيب الأدبي الذي انجب روايتها «المترجمة» وعدداً وافراً من القصص القصيرة التي لفتت انظار المهتمين بالحركة الادبية في اسكتلندا، وفي بريطانيا عموماً، وكذلك انظار المهتمين بتطور الحركة الأدبية الافريقية الانجلوفونية، اذ نالت جائزة بوكر الافريقية للقصة عام 2001، واحتفت بها الاوساط اللندنية ايما احتفاء.

ان هذا التميز في تقديري نتاج تزاوج غير مباشر، بل ربما غير مقصود، بين ثقافة عربية وبيئة ثقافية انجلوفونية، احاطت بتجربة ليلى الأدبية. لو شئت ان تقارن، اليك الطهطاوي حين زار باريس في القرن التاسع عشر، عاد منها ليكتب لنا بالعربية كتابه «الإبريز»، ثم بعده طه حسين حين كتب عن سنواته الفرنسية بالعربية، او توفيق الحكيم في عظائم انتاجه من قصص ومسرحيات و«عصفور شرقه». ثم اليك يحيى حقي و«قنديل أم هاشم»، بعد تجربة باريس والاحتكاك بثقافة غربية. وفوق هؤلاء جميعا الطيب صالح حين تناول اصطدام الشرق والغرب من منظور سوداني في رواية «موسم الهجرة الى الشمال».

لم يكن في كل هذه النماذج تزاوج بين الثقافتين او اللغتين الانجليزية والعربية، بالقدر الذي شاب تجربة ليلى أبو العلا، فخرجت الينا بأدب سوداني عربي بلسان انجليزي.

في الجانب الآخر، تكون المقارنة ايضا لصالح تجربة ليلى الأدبية. انظر الى الكاتبة المصرية أهداف سويف وروايتها «خارطة الحب». تكتب اهداف سويف بانجليزية رفيعة، لا تكاد تشتم رائحة مصرية في اسلوبها وقاموسها اللغوي، ولا اريد ان اظلمها في هذا التحليل، ولكن اعمالها تكاد تكون اكثر النماذج قرباً وشبهاً بأعمال ليلى ابو العلا.

اما من ناحية المعنى والمحتوى، فإن لليلى أبو العلا تناولا متفردا لمسائل التماس الثقافي وحركة القيم المتباينة واختلاف العادات وتزاحم التضاد قي القيم الدينية، المعتقدات والممارسات، لأناس قادمين من مجتمعات شرق اوسطية او افريقية او اسيوية، يتأزمون جراء هذا التماس. وتأخذنا ليلى في اسلوبها ومبناها الفكري في حركة موازية للتطورات السياسية التي تجتاحنا اليوم، سواء قبل 11 سبتمبر أو بعدها. ولا تفصح ليلى صراحة برأي في كل هذا الذي يجتاحنا ولكنها تضع اصبعا لخلل ما في تحاور بين اي اطراف ينتمون لثقافة متباينة، بعد ان اوشك العالم ان يختزل نفسه في قرية متناهية في الصغر. لا ينبغي ان تعلو ثقافة فوق اخرى، ولا ان تنحني ثقافة امام ثقافة اخرى، كما لا يجب ان تقصي الثقافات بعضها الآخر، بل الأوجب ان تدفعنا ثورة الاتصالات والمعلوماتية الى المزيد من التقارب والتمازج الخلاق، بعيدا عن ممارسات الغطرسة الثقافية التي تتمادى فيها بعض المجموعات بما يصل الى حدود الاذلال الثقافي ـ ان جاز التعبير ـ لمجتمعات لها كل الحق في ان تستظل بتعايش سلمي ثقافي يحفظ كياناتها ولا يهددها بالفناء أو الافناء.

تعالج ليلى ابو العلا في قصصها نماذج لاشخاص في مجتمعات الغرب، ليسوا زواراً عابرين أو طلابا مبعوثين، ولكنهم اناس زرعوا انفسهم في بيئة ثقافية غربية، فيهم من لفظه مجتمعه القادم منه، ومنهم من اقام لسنوات ودخل منظومة المجتمع البريطاني وما بقي بينه ووطنه الأم سوى ذكريات بعيدة هي أوهن من شعرة معاوية.. فيهم نماذج سودانية ايجابية واخرى سلبية، ثم نماذج اخرى بريطانية فيها السلبي ومنها الايجابي، وكذلك نماذج لأناس اخر من العالم الثالث يأخذون جميعا مكانهم في اعمال ليلى..

وقدمت هيئة الاذاعة البريطانية في نوفمبر 2001 قصة قصيرة من اجمل قصصها وهي باسم «ماجد»، عن سوداني وزوجته البريطانية التي اقترن بها، هو بقصد ضمان الاقامة وترتيب جواز سفر مريح، وهي بقصد البحث عن رجل تحتمي به لتربية اطفالها من زوجها الذي انفصل عنها بعد ان اعتنقت الاسلام، لتكتشف ان زوجها ـ ويا للتناقض ـ مدمن خمر!

ذهبت ليلى ابو العلا الى المانيا وسويسرا في رحلة نظمها لها ناشر روايتها في المانيا، دعاية للكتاب الذي صدر باللغة الالمانية، فجالت انحاء المانيا وقرأت نماذج من اعمالها الادبية في المنتديات الثقافية في ثماني مدن المانية، ثم عرجت الى سويسرا حيث قرأت نماذج من قصصها في المنتدى العربي هنالك، ونالت اعجابا منقطع النظير، ولقيت ـ لمفاجأتها ـ اهتماماً من قبل كثير من السودانيين، بكتاباتها وبنشاطها الأدبي في سويسرا.

طلب منها الناشر الألماني ان تهدي اسهاماً مالياً منه وباسمها لجهة أدبية سودانية تستحق الدعم والمساندة المادية، فرشحت لهم مجلة «نفاج»، هذه المجلة البكر التي يرعاها مركز عبد الكريم ميرغني بين أم درمان في السودان ولندن. وقرأت ليلى ابو العلا مقتطفات من عدد المجلة الثاني على جمهور في المانيا وسويسرا، تعريفا بأدب الأطفال في السودان واحتفى الجمهور معها بهذه المجلة الرائعة التي تعمل على ربط أطفال السودان المقيمين في الخارج بوطنهم الأم.

إن ليلى أبو العلا سفارة ثقافية مكتملة الأركان والمعالم، تقدم لوطنها بعضا من نفسها وروحها. تحمل اعمالها رسالة عميقة ونافذة: ان العربي المسلم يحمل هم انتمائه، لا يجرفه الدخول الى منظومة المجتمع الغربي، ولكنه يجاهد ان يبرز تفرده وتميز ثقافاته ومعتقده في تعايش حقيقي وسعي للتفاهم لا للاختلاف، للتحاور لا للتصادم.. حري بنا ان نقرأ، نحن العرب والسودانيين بوجه خاص، كيف تكتب عنا ولنا هذه السيدة القابعة بعيداً عنا الآن، في اندونيسيا برفقة زوجها الذي يقيم خبيراً لدى شركة نفطية هناك. حري بنا أن نسمع صوتها وهي تحدثنا.. وان كتبت باللغة الانجليزية، الا ان الترجمة تقربها الينا.. اعرف انها الآن بصدد نشر ترجمة روايتها الأولى «المترجمة» الى اللغة العربية، وقد انجزها الخاتم عدلان، وكان ينبغي ان يسبق نشر الترجمة العربية للرواية نشرها باللغات الاسبانية والبرتغالية والالمانية. ولكننا تأخرنا قليلا في ان نعيرها أذناً صاغية وعيناً لماحة. هلا قرأنا لها ثم ان نفكر بعدها في ايلائها التكريم اللائق، فهي الصوت الأدبي السوداني الأول والمقيم بالخارج الذي ولج الى المجتمعات الأدبية الغربية بقوة، وبانجليزية رصينة، وقال للعالم، ان للسودان وجهاً ثقافياً منيراً غير ذلك الوجه الذي درج الاعلام الغربي على رميه بكل قبيح.

* ديبلوماسي وكاتب سوداني مقيم في لندن