لا تعمر المدن الفاضلة إلا اذا حكم الفلاسفة او تفلسف الحكام

نظريات أفلاطون والفارابي وإخوان الصفا ظلت حبرا على ورق رغم كثافة حركات التغيير والتنوير

TT

المدينة الفاضلة مثل المرأة الفاضلة، البحث عنها في اسواق المتعة والفساد مضيعة للوقت والجهد، ولأمر لا يصعب تفسيره تنتعش الافكار المثالية وتنشط خطط البحث عن المدن الفاضلة في ازمنة الفساد السياسي والاخلاقي. وكان عصر اخوان الصفا أو اذا شئنا التحديد العصر الذي كتبوا فيه رسائلهم لتقويم المعوج من أحوال الدنيا، عصر الفساد الكامل، وسفح الانحدار الأخير الذي تتغير عند منعطفاته الدول والقيم والاحوال.

وقد جرت عادة النثر والشعر ان يسجلا بدقة شكل ازمنة الفساد حين تسود الرشوة والمحسوبية ويعشعش الظلم ولا يصل الى الحكم الا كل مفسد وفاسد، وفي زمن اخوان الصفا وصف شاعر قريب منهم هو ابن لنكك زمنه بالخلو من الاحرار الحقيقيين ولم يجد غير صفة «قرود» ليطلقها على ولاة عصره الذين ألزموه داره اختيارا، فلماذا يخرج الانسان ان كان سيجد امامه «المواكب القردية» التي استولى اصحابها على السلطة بالرشوة والاحتيال واستمروا فيها بالظلم والفساد:

مضى الأحرار وانقرضوا وبادوا

وخلفني الزمان على علوج

وقالوا قد لزمت البيت صبرا

فقلت لفقد فائدة الخروج

لمن القى اذا ابصرت فيهم

قرودا راكبين على السروج

ومن حسن حظ ذلك الشاعر ان التلفزيون لم يكن قد تم اختراعه في عصره والا لاقتحم عليه القرود عزلته في مخدعه، كما يحصل في العصور الحديثة التي تحتاج اكثر من غيرها الى تجديد الرسالة الاساسية لاخوان الصفا الرامية الى تغيير الانظمة السياسية بالحكمة والمعرفة، فحين يتنور الناس، ويتثقفون يصعب حكمهم بالخزعبلات والسياط والاجهزة الخفية والعلنية.

وأغلب الآراء ـ بالاذن من الدكتور فؤاد معصوم صاحب آخر كتاب موسوعي عن تلك الجماعة السرية ـ ان كتاب الرسائل هم الجيل الثاني من الحركة القرمطية الذي شهد انهيار الكفاح المسلح وتشتت الحزب القرمطي وهزائمه في سورية، والعراق والجزيرة العربية، فانكفأ الجيل الثاني على نفسه واخترع اسلوبا جديدا في النضال السلمي يضرب فيه السلطة في مقتل دون ان تسيل في الشوارع الدماء.

وعلى هذا الرأي من القدماء والمحدثين كثر اشهرهم القفطي والالوسي واحمد زكي باشا وعبد الفتاح عليان وعمر فروخ والبير نادر ومن المستشرقين ماسينيون وبندلي جوزي وبروكلمان وكلهم يرجحون باشكال شتى الاصل القرمطي المتنور (الجيل الثاني) الذي اعقب جيل الصراعات والحروب والدماء وانتج تلك الرسائل، اما زمن كتاب الرسائل فأدق من حدده الفقيه ابن تيمية الذي يفترض ان الرسائل كتبت في الحقبة السادسة من القرن الرابع الهجري (حقبة موت المتنبي) وتحديدا بين 353 و357 للهجرة وكلها استنتاجات مستقاة من الرسائل وحواشيها.

* جواب الامتاع

* وبهذا التحديد الدقيق لا نستغرب ان يكون بعض من كتبوا الرسائل من معاصري ومعاشري ابي حيان التوحيدي. فحين سأله عنهم الوزير ابن سعدان في مطلع الحقبة السابعة من القرن الرابع الهجري كان جوابه جاهزا ودقيقا في «الامتاع والمؤانسة».

وقبل ان نقرأ نص التوحيدي وهو العمدة في معرفة زمن الرسائل وكاتبيها لا بد من الاشارة الى ان حفظ المستشرقين والمعاصرين ـ بمن فيهم ايفانوف وكازانوفا ـ قللوا من احتمالات أن تكون رسائل اخوان الصفا من وضع أئمة الحركة الاسماعيلية في طور ما بعد سلمية اي في مرحلتهم الافريقية التي «سبقت الدولة الفاطمية» ومع ذلك دأب باحثون اسماعيليون معاصرون على نسبة الرسائل الى أئمتهم ومنهم سليم هشي ومصطفى غالب وعارف تامر. واذكر انني بعد نشر كتاب ـ ثلاثية الحلم القرمطي ـ تلقيت من الاخير ـ رحمه الله ـ رسالة كلها تأنيب وتبكيت وشتائم ودعاء بالخذلان والخسران وسأنشر تلك الرسالة ذات يوم كمثال على تحكم التعصب العقائدي والطائفي بالبحث العلمي وهي مسألة لا يجب ان تستشري ولا تجوز بأي حال من الاحوال لانتهاكها ابسط قواعد البحث القائمة على الحياد والحرية.

والآن الى نص التوحيدي الذي طال انتظاره وقد اسلفنا الى ان جمال الدين القفطي سبق القدماء الى اكتشاف هذا النص الذي جاء جوابا في «الامتاع والمؤانسة» على سؤال لابن سعدان وزير صمصام الدولة ابن عضد الدولة البويهي الذي لا نعرف ان كان سؤاله لوجه الفكر والعلم ام موصى به من قبل استخباراته التي عجزت عن اختراق تلك الحركات السرية التنويرية.

يقول ابو حيان شارحا فلسفة اخوان الصفا وكاشفا عن اسماء بعض كاتبيها وذلك في جوابه لابن سعد الذي كان يبدأ ليالي الامتاع والمؤانسة مطلع كل ليلة بسؤال يحدد سير الحديث والمسامرة:

«حدثني عن شيء هو أهم من هذا اليّ واخطر على بالي اني لا أزال اسمع عن زيد ابن رفاعة قولا يريبني، ومذهبا لا عهد لي به، وكناية عما لا احقه واشارة الى ما لا يتوضح شيء منه بذكر الحروف وبذكر النقط، ويزعم ان الباء لم تنقط من تحت واحدة الا لسبب والتاء لم تنقط من فوق اثنتين الا لعلة، والألف لم تعجم الا لغرض واشباه هذا. واشهد منه في عرض ذلك دعوى يتعاظم بها، ويتنفخ بذكرها فما حديثه وما شأنه وما دخلته، فقد بلغني يا أبا حيان انك تغشاه وتجلس اليه وتكثر عنده ولك معه نوادر معجبة، ومن طالت عشرته لانسان صدقت خبرته، وامكن اطلاعه على مكمن رأيه وخافي مذهبه. فقلت : ايها الوزير انت الذي تعرفه قبلي قديما وحديثا بالاختبار والاستخدام وله منك الامرة القديمة والنسبة المعروفة. فقال: دع هذا وصفه لي: فقلت: هناك ذكاء غالب وذهن وقاد ومتسع في قول النظم والنثر مع الكتابة البارعة في الحساب والبلاغة وحفظ ايام الناس وسماع المقالات وتبصر في الآراء والديانات وتصرف في كل فن اما بالشدو الموهم او بالتوسط المفهم، واما بالتناهي المفخم. قال: فعلى هذا ما مذهبه؟ قلت: لا ينسب الى شيء ولا يعرف برهط لجيشانه بكل شيء وعليائه بكل باب ولاختلاف ما يبدو من بسطته ببيانه وسطوته بلسانه وقد اقام بالبصرة زمانا طويلا وصادف بها جماعة لاصناف العلوم وانواع الصناع، منهم ابو سليمان محمد بن معشر البستي، ويعرف بالمقدسي وابو الحسن علي بن هارون الزنجاني وابو احمد المهرجاني والعوفي وغيرهم. فصحبهم وخدمهم وكانت هذه العصابة قد تألفت بالشعر وتصافت بالصداقة واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهبا زعموا انهم قربوا به الطريق الى الفوز برضوان الله، وذلك انهم قالوا ان الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل الى غسلها وتطهيرها الا بالفلسفة، لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، وزعموا انه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية، فقد حصل الكمال وصنفوا خمسين رسالة في جميع اجزاء الفلسفة، وافردوا لها فهرسا وسموه رسائل اخوان الصفا وكتموا فيها اسماءهم وبثوها في الوراقين.

* رسائل الإخوان

* وخالف آخرون التوحيدي في عدد الرسائل فقيل انها 52 على عدد اسابيع السنة وقيل بل 56، ويضيف بعضهم ملخصا لكل ما جاء فيها في الرسالة المختصرة المعروفة باسم الرسالة الجامعة التي حققها وقدم لها المرحوم عارف تامر ونشرها تحت عنوان «جامعة الجامعة» وركز في تقديمه لها على الآراء التي تخدم وجهة نظره على طريقة «لا تقربوا الصلاة...» بمعنى انه كان يأخذ عبارة واحدة ويفسرها بما يخدم الفكرة التي تلبسته معزولة عن سياقها فان ينص «ماكدونالد» على ان الرسائل كانت موجودة في «قلعة الموت» وان يقرر «ديفروميري» ان راشد الدين سنان بن سليمان كان يقرأها لا يعني الموافقة على نسبتها لأئمة الاسماعيلية لانها ومنذ القرن الرابع صارت موجودة وبكثافة في كافة المكتبات المعروفة للشخصيات المثقفة وقد تلقفتها النخب الفكرية كما يليق بأي حدث ثقافي كبير لم تقف ضده الدولة ولم تمنعه ولم تطالب باحراقه او تحرض الجماهير على شنق وخوزقة كاتبيه.

لقد فعلت الرسائل فعلها في عصور الفساد والانحدار والانحطاط لأن الاغلبية كانت تتطلع الى الخروج من ذلك التخلف وتبحث كمؤلفي الرسائل عن مدينة فاضلة او شبه فاضلة بعد ان تعهرت المدن كلها، وجار واوغل في الظلم ولاتها وحاكموها.

والفساد السياسي والاخلاقي مثل رأس المال لا وطن له ولا طائفة لذا طال جميع الطوائف والاحزاب، فحتى الذين يرون رائحة تشيع في الرسائل يتندرون بفساد القاضي المرتشي مروان بن ابي السائب الذي وصفه ابن الجوزي في المنتظم نقلا عن ابن سكرة:

ان شئت ان تبصر اعجوبة

من جور احكام ابي السائب

فاعمد من الليل الى صرة

وقرر الامر مع الحاجب

حتى ترى مروان يقضي له

على علي بن ابي طالب

وفي هكذا عصور تصبح المدينة الفاضلة ملجأ اخلاقيا وحلما جماعيا كل دور اخوان الصفا ومعاصرهم الفارابي انهم صاغوا بلغة مفهومة وجعلوا منه هدفا لكل مقهور ومظلوم ونقطة الضعف الاساسية ان مدينتهم الفاضلة ليست قابلة للتطبيق فهي وباعترافهم من خارج طيف هذا الكوكب وترابه:

«لا ينبغي ان يكون بناء هذه المدينة في الارض حيث تكون اخلاق سائر المدن الجائرة ولا ينبغي ان يكون بناؤها على وجه الماء لانه يصيبها من الامواج والاضطراب ما يصيب اهل المدن التي على السواحل والبحار ولا ينبغي ان يكون بناء هذه المدينة في الهواء مرتفعا كي لا يصعد اليها دخان المدن الجائرة فتكدر اهويتها، وينبغي ان تكون مشرفة على سائر المدن ليكون اهلها يشاهدون حالات اهل سائر المدن في دائم الاوقات وينبغي ان يكون اساس هذه المدينة تقوى الله كي لا ينهار بناؤها، وان تشيد على الصدق في الاقاويل والتصديق في الضمائر..».

ان افلاطون اوضح من اخوان الصفا في معالجة نظم الحكم الجائرة فعنده والافلاطونية كلها «اما.. أو» فإما ان يتولى الفلاسفة مقاليد الامور او تحدث معجزة حقيقية تحول الحكام الى فلاسفة.

ولم تحدث هذه ولا تلك فلا الفلاسفة حكموا، والا الحكام تفلسفوا، وظلت المدن الجائرة تمارس جورها، بعيدا عن الفضيلة والعدالة والمساواة رغم كثافة حركات التنوير والتغيير والغريب ان اخوان الصفا الذين اعطوا الاولوية للتربية والقوانين في رسائل اخرى جاؤوا الى المدينة الفاضلة ونسوا الاساس القانوني والتربوي الذي يمنع الظلم والفساد، فالتربية تشذب اخلاق الناس والقوانين تردعهم وحاكميهم من التعدي على ما لا تقره قوانين المدن الفاضلة التي لا يحكمها الا اصحاب فكر ومصداقية ولا تتحقق الا بحكم الفلاسفة او تفلسف الحكام.

وربما كان التوحيدي صاحب نص الكشف عنهم من ادق نقادهم ايضا فهو القائل عن الرسائل «... فيها خرافات وكنايات وتلزيقات وقد غرق الصواب فيها لغلبة الخطأ عليه» وربما لهذه الاسباب لم تطبق وظلت حبرا على ورق.

ومهما قيل في نقد هذه الجماعة واساليبها ورسائلها يظل لها بعد كل ناقد ومنقود فضيلة الحفاظ على حلم العدالة والمساواة. وما ذاك الانجاز بالقليل على دروب انسانية رغبت منذ بدايتها بوضع ميزان العدل مكان سيوف الجهل فعجزت الى حين، لكنها لم تسمح رغم الكوارث والهزائم لذلك الحلم بالانهيار، فانهارت دول وانظمة وايديولوجيات وعقائد وظلم الحلم الانساني بالعدالة السياسية والاخلاقية ينتقل ناصعا مشعا من يد الى اخرى بانتظار ان يأتي وقت يطبقه وظرف يحققه كرمى لملايين الارواح التي ازهقت على مدار العصور دفاعا عن هذا الحلم الانساني البهي.