محاورات في الأدب والسياسة ودعوات للتسامح

يعرف العالم الآن انعطافة خطيرة قد تغرق الإنسانية في بربرية جديدة

TT

ولد الكاتب الكوبي كابيليو ايستيفيز Cabilio Esteves، في هافانا عام 1954. وقد بدأ سيرته الإبداعية كرجل مسرح، حيث كان مستشاراً للعديد من الفرق المسرحية في بلاده، بعدها انتقل إلى كتابة الشعر والقصص القصيرة. وقد حظيت روايته الأولى: «هذه المملكة هي لك»، التي صدرت عام 1997، بتقدير النقاد وإعجابهم، ونالت جائزة النقد الكوبي عام 1999، ثم جائزة افضل كتاب في فرنسا عاما بعد ذلك. وقد صنعت هذه الرواية، التي قورنت بأعظم الأعمال الروائية التي عرفها القرن العشرون، شهرة الكاتب عالمياً. ففيها أبرز براعته اللغوية، وتمكنه من الفن السردي، بجميع أساليبه وتعقيداته. كما انه اظهر معرفة عالية بالفلسفة وبالمسائل المتعلقة بالميتافيزيقا خصوصا. ويقول ايستيفيز: «إذا لم يكن هناك جمال، فإنه من المستحيل أن يكون هناك أدب!». لذا هو عرف في روايته المذكورة كيف يتعامل مع مسألة العلاقة بين الأدب والسياسة. فبالنسبة له، عوض أن نحكم على الوضع في كوبا بأنه جيّد أو سيئ، علينا بالأحرى أن نرى أنه شيء مقدر. لذا، لا بد من تقبله، وعلى هذا المستوى تجب معالجته أدبياً.

وفي روايته الجديدة: «القصور المتباعدة»، يصوّر بدقة الحنين تجاه عالم ضائع. وتدور الأحداث داخل مسرح متداع، على وشك الانهيار. ولعله اختار ذلك لأن المسرح هو بامتياز المكان الذي تلتقي فيه اليوتوبيا بالانهيار الأخلاقي والمادي للمجتمع. وبطل الرواية الذي يدعى فيكتوريو في الأربعين من عمره. وهو يسقط في هاوية الفقر المدقع، بعد أن يتمّ طرده من الشقة التي يسكنها. وخلال بحثه عن سكن، يلتقي شخصيتين أساسيتين: الساقطة سلمى، والممثل الكوميدي العجوز دون فوكو. ومع هذين، هو يكون مجموعة صغيرة من الفقراء المتعطشين للجمال، الحالمين بقطعة من الخبز مغموسة في زيت الزيتون وقدح شراب. حولهم، كانت هافانا تنهار ببطء تحت وطأة الحصار الطويل والمرير، وربما لهذا السبب لم يخطئ النقاد حين شبهوا ايستيفيز ببالزاك وهو يصور باريس القرن التاسع عشر.

* الناقد الكلاسيكي والكتاب المحدثون

* عرف الناقد الفرنسي جان بيار ريشار الذي عمل سنوات طويلة استاذا في جامعة السوربون كمختص في الآداب الكلاسيكية وكعاشق كبير لها، كما انه ألف أطروحة ضخمة عن الشاعر الفرنسي الكبير ستيفان مالارميه لا تزال الى حدّ هذه الساعة مرجعا أساسيا لدارسي وعاشقي عالمه الشعري الذي يتميز بالغموض والإبهام، لكنه وهو في سن الثمانين اختار أن يكتب عن كتاب محدثين هم بيار بارغونيو وبيار ميشون وايف بيشيه ودومينيك باربريس، لكن لماذا هذا الاختيار؟.. عن هذا السؤال يجيب الناقد العجوز قائلا: «لأمد طويل، كتبت عن الشعراء المحدثين لكي أتنفّس قليلا، لكن بعد التقاعد، توفر لي كثير من الوقت فأخذت أقرأ الكتب الجديدة وأتعرف من خلال المناقشات على الأدباء المحدثين. وجاك دريدا هو الذي ساعدني على اكتشاف بارغونيو وميشون وآخرين. أما ايف بيشيه فهو يسكن بالقرب من فيليب جاكوتات (شاعر فرنسي معروف)، وهو يمتلك الكثير من الخصال التي فتنتني، فهو بنّاء ومن أبناء الجنوب الفرنسي، وبالنسبة لدومينيك باربريس أقول انها تسكن في العمارة المواجهة لبيتي، وقد أحبّت الدراستين اللتين خصصتهما لها». ويضيف بيار ريشار قائلا: «أحب أن اساعد كاتباً أو شاعراً ناشئاً على أن يكون معروفاً ومنتشراً، وعندما أفعل ذلك، أشعر أني قدمت له خدمة جليلة، إذاً ماذا ينفع أن تدعو الناس إلى قراءة كورناي او راسين؟».

* المجازر ضد الهنود الحمر حسب لاس كازاس

* يعتبر كتاب «تاريخ الهنود الحمر»، الذي ألفه بارتولومي دي لاس كازاس (1484 ـ 1566)، الذي كان شاهداً على الغزو الإسباني لبلدان اميركا اللاتينية، من أهم الكتب التي تتناول بالدراسة مرحلة مهمة من تاريخ المنطقة المذكورة. وقد اختار لاس كازاس ان يكون إلى جانب ضحايا الغزو، أي الهنود الحمر، بعد سلسلة من التجارب والرحلات والاكتشافات. وكان لا يزال مراهقاً حين شاهد كريستوف كولومبس يبحر بحثاً عن أقصر الطرق البحرية للوصول إلى الهند. وقد جعله ذلك الحدث يحلم هو ايضاً بأن يبحر في يوم من الأيام إلى بلد بعيد، وعند وصوله إلى اميركا في عام 1502، قرّر في البداية أن يستقر هناك ليجمع ثروة. غير أن المظالم التي عاينها والتي كان يسلّطها الغزاة البيض على السكان المحليين، أي الهنود الحمر، دفعته إلى التخلي في عام 1515 عن الخدم الذين كانوا يعملون عنده. وفي ما بعد حاول جاهدا اصلاح اوضاع الهنود الحمر، غير ان جميع محاولاته باءت بفشل ذريع، ولم تلق دعوته الى ذلك أيّ صدى لا عند ملك اسبانيا ولا عند السلطات الدينية العليا في بلاده. وعندئذ انكب على دراسة تاريخ هذا الشعب الذي سوف يتعرض خلال القرون التالية الى العديد من المجازر والمذابح. وفي النهاية، كانت النتيجة صدور كتاب ضخم بـ 2000 صفحة يروي ملاحم الشعب المذكور والنكبات والفواجع التي تعرض لها منذ وصول كريستوف كولومبس الى الاراضي الاميركية. وقد اعتمد لاس كازاس في ذلك على العديد من الوثائق النادرة والثمينة منها مثلا يوميات كولومبس خلال رحلته الطويلة والعجيبة، كما اعتمد على شهادات بعض صانعي الاحداث التي اعقبت ذلك. وهو يذكر ان الاسبان الذين كانوا مسلّحين جيداً، اكتشفوا حال وصولهم إلى الاراضي الاميركية، انه بإمكانهم ان يحصلوا على الثروة بأسهل الطرق، وفي أقصر وقت، وذلك بتحويل الهنود الحمر إلى عبيد في خدمتهم. ولأنهم لم يلقوا معارضة شديدة وعنيفة من جانبهم، فإنهم باتوا يعتقدون أن حياة هؤلاء وموتهم أصبحا بأيديهم. ويروي لاس كازاس تفاصيل المجزرة التالية التي عاش وقائعها عن كثب: ذات صباح توقف الجنود الاسبانيون بالقرب من جدول ليتناولوا فطورهم، وبعد ان شحذوا سيوفهم جيداً، واصلوا سيرهم. وعند وصولهم إلى إحدى القرى، اعترضهم الهنود الحمر وراحوا يحدقون فيهم وعلى ملامحهم الدهشة والاستغراب، لأنهم لم يشاهدوا قبل ذلك قط كائنات على تلك الصورة، وعلى تلك الهيئة. فجأة أشهر أحد الجنود سيفه ثم راح يمزق اجساد الهنود الحمر، ولم يلبث الجنود الآخرون أن حذوا حذوه. وفي النهاية، كان هناك «جدول من الدماء يتدفق كما لو أن جزارين ذبحوا العديد من الأبقار». ويقول لاس كازاس ايضا، بأن الجندي الاسباني عادة ما يتلهى بفتح بطن هندي احمر، وعندما يسقط هذا الاخير على الارض وامعاؤه في يديه، يقترب منه القسّ الاسباني الشاهد على قتله ليحدثه عن العقيدة الكاثوليكية!.

* عقلية براغ

* ينتسب الكاتب التشيكي ايفان كليما البالغ الآن من العمر 72 عاما، إلى عائلة مثقفة من أرقى عائلات براغ. ولأنه يهودي، فإنه امضى أزيد من سنة في أحد المعسكرات النازية قبل أن يحرره الجيش الاحمر الروسي وذلك عام 1945. وهو يقول إنه قرأ سراً خلال فترة الأسر تلك، ديكنز وهوميروس وجول فارن، بعدها انتسب إلى كلية الآداب في براغ، وأصبح صحافياً. وعندئذ اصطدم بجهاز الرقابة الذي كان قوياً في ظل النظام الشيوعي. وهو يقول: «على الأدب أن يرفض أن يتم استعماله من أجل غرض ما. هناك بالطبع أوضاع خاصة يجد الأدب نفسه مجبراً على أن يكون أداة نضال مثلا، وذلك حين يتم غزو بلد من قبل جيش اجنبي، أو حين يتعرض شعب ما الى مظالم أو يجد نفسه ضحية للاستبداد والإرهاب».

وفي روايته «حب وقذارة»، يتحدث ايفان كليما عن وضعه الخاص من خلال كاتب يصبح عامل تنظيف بعد ان تم القضاء على «ربيع براغ» وذلك عام 1968، ويساعده عمله ذاك على اكتشاف مدينته ـ براغ ـ التي كان يعتقد انه يعرفها جيداً قبل ذلك. وفي عام 1990، اصدر ايفان كليما كتاباً صغيراً حمل عنوان: «محاورة في براغ»، وفيه يتحاور مع الكاتب الاميركي فيليب روت حول العديد من القضايا المتعلقة بالأدب والسياسة والتاريخ والفلسفة. وفي مجموعتيه القصصيتين «شهر العسل» و«نداء الغريب»، يتحدث عن الحب الجنوني الذي لا يؤدي في النهاية إلا إلى اللاشيء. وفي واحدة من هذه القصص وعنوانها: «البيت الابيض»، هو يروي قصة حب بين شابة عمياء تعزف على الكمان، وشاب ثري يرتاد المجتمع المخملي. وفي هذه القصة، نقرأ الفقرة التالية: «غالباً، الوحدة فقط هي التي تدفع الناس نحو الحب، وفي الحقيقة هم دائماً يتردّدون بين الحرية والوحدة، لكن في جميع الحالات، هم يخسرون حريتهم، لكن من دون ان يتمكنوا من التخلص من وحدتهم».

وعن الحقبة الشيوعية، والمظالم التي تعرضت لها خلالها الشعوب والنخب المثقفة، يقول ايفان كليما: «ما عشناه نحن كأشخاص وكمجموعات كان خارج كل تصور عادي وبإمكانه أن يُضلّلنا، ومدفوعين بضرورة استخلاص العبر من تجربتنا المرة تلك، نحن نخشى أن نرتكب اخطاء قاتلة بإمكانها ان تؤدي بنا الى التهلكة عوض ان تقربنا من العدالة ومن الحرية اللتين نحن بحاجة أكيدة إليهما. وفي ذاتها، لا تستطيع تلك التجربة القصوى التي عشناها ان تقود الى الحكمة، ونحن لا نتوصل إلى ذلك الا بعد ان نتخذ المسافة الضرورية لمعاينة ما نحن عشناه حقاً».

* الأسس الفلسفية للتسامح

* «الأسس الفلسفية للتسامح»، عنوان كتاب جديد للفيلسوف الفرنسي ايف شارل زاركا الذي هو في نفس الوقت استاذ في جامعة السوربون، ومدير للمركز الوطني للبحوث الاجتماعية. وعن الهدف من هذا الكتاب هو يقول: «الشيء الأساسي الذي حثني على تأليف هذا الكتاب هو هذه الصراعات القاتلة والنزاعات العنيفة التي نعيشها راهناً والتي لها اسباب اثنية ودينية وثقافية، واعتقد ان العالم يعرف الآن انعطافة خطيرة سوف تعمّق التناقضات والصراعات والنزاعات وتغرق الانسانية في بربرية جديدة». ولكن هل هناك مخرج من هذا الوضع الخطير؟، على هذا السؤال يجيب ايف شارل زاركا قائلا: «ان مصطلح التسامح الذي ساعد على تخطي الحروب الدينية التي عرفتها اوروبا خلال القرن السابع عشر، يمكن ان يساعدنا ايضا على تخطي صدام الثقافات وربما الحضارات ايضا. وهذا ممكن في رأيي، لكن شرط ان نعيد التفكير في هذا المصطلح على ضوء القضايا والمشاكل التي يواجهها العالم راهنا والمتمثلة في أزمة السيادة لدى بعض البلدان، وعودة الحافز الديني والعولمة على المستوى الاقتصادي. واعتقد ان التسامح لا بد ان يجيب عن السؤال الأساسي التالي: «كيف ننقذ فكرة الإنسانية دون ان ننكر التأكيدات المتعلقة بالهوية التي تخترقها والتي تبدو احيانا وكأنها تدمرها وتحولها إلى فتات؟».