المجهول والمعلوم وأدعياء المعرفة

لماذا يتبجح الإنسان بما لا يعرف ولماذا يخشى «لا أدري» ونصف العلم كلمة «لا أدري»

TT

د. جلال الخياط نظل في الشواطئ، لو حددنا الى أي مدى أوغل الانسان في اكتشاف مجاهل هذا الكون، ولما تعدينا الخطوة الأولى أو الخطوتين في طريق آلاف الآلاف من المفاوز التي لا تحد، فما معنى ان يتبجح انسان بأنه عالم نحرير، حتى ان كان اسمه مجرداً او مسبوقاً بحرف (الدال) مكتوباً بكل أبجديات العالم ولغاته؟ هل وصل الانسان الى الذروة حقاً في مجال الخطوة او الخطوتين اللتين قطعتهما البشرية، علماً؟

معاهد الدنيا، صغيرها وكبيرها، محاولة لاخضاع المجهول للمعلوم، كل كياناتها ومؤسساتها لو تجمعت وشكلت مدناً من الاهرامات لما تعدت حدود الخطوة الثانية. أنشئت لتجنبنا الجهل، وما زلنا فيه سادرين، نمجد عافية الاغفاءة الذهنية الدائمة. وفوق كارثة الجهل المرافق للبشرية يأتي ادعياء العلم فيزيدون جهل الجهال جهلاً، والجهل، ان لم تتح ظروف للانسان ان يتخلص منه ليس بسبة، ولكن أتعس ما في مدعي العلم تصورهم انهم بلغوا من المعرفة نهايتها القصوى وقممها المتناهية، وان ليس هناك أمر في هذه الدنيا يخفى عليهم، وقد تبيح لهم أحوال ان يطوقوا ذوي العقول بهذا الغباء المدمر، وتصل بهم الرقاعة ان يعدوهم اصحاب نقص خطير في المعرفة والنضج وربما يوجهونهم كما يفعلون مع الصبية.

من الناس من لا يطيق ان تعرف شيئاً لا يعرفه، تراه اذا ما قلت قولاً، حتى ان كان عابراً، اعاده وأيده بتكرار (نعم)، وكــــأنه هـمّ بقوله ولكنك خذلته فسبقته، وهو عنه بمنأى، لا وشيجة له به، لذا لا نعجب للشعراء حين يقررون ان العقلاء يعيشون في شقاء وهم ونكد وان الأغبياء ينعمون في هناء دائم، يقول المتنبي:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ ويقول:

أفاضلُ الناس أغراض لذا الزمنِ يخلو من الهم أخلاهم من الفطنِ أدعياء العلم ملأى بهم الأزمنة، فلماذا ينسب الانسان الى نفسه ما لا قبل له به؟ ولمَ يرتدي مسوح العارفين وهي براء منه؟ وكيف يخشى الانسان لا أدري؟ ونصف العلم كلمة لا أدري، قالت الحكماء. ومن ترك لا أدري أصيبت مقاتله. والشواهد كثيرة على من كان هزْأة حين أوحى انه يدري ما لا يدري وفي ذلك يقول أبو نواس:

فقل لمن يدعي في العلم فلسفةً عرفت شيئاً وغابت عنك أشياءُ ويقول ابو بكر بن دريد:

جهلتَ فعاديتَ العلوم وأهلها كذاك يعادي العلم من هو جاهلهْ ومن كان يهوى ان يُرى متصدراً ويكره لا أدري أصيبت مقاتله ولا يفتقر صالح بن شيرداد الى الصراحة والجرأة:

حمار في الكتابة يدَّعيها كدعوى آل حرب في زيادِ فدعْ عنك الكتابة لست منها ولو غرَّقت ثوبك بالمدادِ وليس آفة العلم النسيان، ولكن مقتله في هؤلاء الادعياء. وان يرى انسان نفسه في خضمهم، حتى يقودوه أحياناً الى الجهل قسراً والى التغابي تجنباً او تطبعاً أو السكوت المطبق كرهاً او غصباً او خوفاً، ومن الغريب ان يهيمن الجهل الحاجب للعقل والمعرفة، الكثرة ذاك وقلة هذا؟ أو ان العملة الرديئة طاردة دائماً غير مطاردة. يقول المعري:

لما رأيتُ الجهل في الناس فاشياً تجاهلت حتى ظُنَّ أني جاهلُ فواعجبا كم يدَّعي الفضل ناقص ووا أسفاً كم يظهر النقص فاضلُ وقدر لمن وهب شيئاً من علم ان يتواضع حتماً وان يعاني الجهل وأصحابه ومصيبته فيهم وغربته عندهم وان يدفع ضريبة وجودهم فادحة من ذوب فكره وشعوره ونزعاته وطموحه، ومن كرامته احياناً، ولعل أبا الطيب في مقدمة من أضناه وأضواه جهل المدعين:

ومن البلية عذل من لا يرعوي عن غيه وخطاب من لا يفهمُ ويبحث عن الغبي المدرك لغبائه فلا يجده:

كدعواك كل يدعي صحة العقلِ ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهلِ وعليه يوصي بالاعراض عن مواكب الأدعياء والمدعين:

وأتعبُ من ناداك من لا تجيبه وأغيظُ من عاداك من لا تشاكلُ وما التيه طِبي فيهمو غير انني بغيض اليَّ الجاهل المتعاقلُ ويقول أبو الفتح الحاتمي:

اذا كنت ذا علم وماراك جاهلُ فأعرض ففي ترك الجواب جوابُ وان لم تصب في القول فاسكت فانما سكوتك عن غير الصواب صوابُ ويؤيده ابو تمام:

وذي خطل في القول يحسب انه مصيب فما يلممْ بما هو قائلهْ عبئت له حلماً وأكرمت غيره وأعرضت عنه وهو بادٍ مقاتلهْ وغريب ان يقرر الطغرائي انه عرف أسرار الخليقة والعلوم كلها:

اما العلوم فقد ظفرت ببغيتي منها فما احتاج ان أتعلما وعرفت أسرار الخليقة كلها علماً أنار لي البهيم المظلما وهذا خلاف ما يقوله حيص بيص:

ومن كان علم النفس مما يسره فاني امرؤ يا طالما ساءني علمي وخلاف ما يراه الشافعي:

كلما أدبني الدهـ ـر أراني نقص عقلي واذا ما ازددت علماً زادني علماً بجهلي ان الجهل والغباء لا يمكن التخلص منهما، فلولاهما لما أدركنا معنى العلم والمعرفة، ولا ذكاء ان لم يقابله غباء، فلنهتم، مضطرين، بهذا الجانب التعيس من البشر ولنعمل جميعاً على حصره والتقليل من نسبته وان لا نتيح لأصحابه ان تكون لهم الكلمة والفعل المؤثر والهيمنة على اصحاب العقول، واقصى ما يمكن ان يصل اليه غباء، شقاء، ان يتمناه ذكي ليعيش في حبور، فهل نقر قول ابن المعتز:

وحلاوة الدنيا لجاهلها ومرارة الدنيا لمن عقلا أو نتفق مع المعري في قوله:

غلب الجهل منذ كان على الخلـ ـق وماتت بغيظها الحكماءُ ولشاعر:

من تحلَّى بغير ما هو فيه فضحته شواهد الامتحانِ ولآخر:

لكل داء دواء يستطب به الا الحماقة أعيت من يداويها وهذا كله دفع احمد الصافي النجفي الى ان يقول:

كلُ يقلد غيره بجهالةٍ وأشدهم جهلاً يسمى أعلما ذا جاهل غِرُّ يقلد جاهلاً ولعلني في الجهل أعظم منهما ويلخص المتنبي المسألة كلها ببيت يصلح ان يكون شعاراً: وليس يصح في الأفهام شيء اذا احتاج النهار الى دليلِ