حيرة الكاتب الفلسطيني وأسئلة الكتابة

من غير الممكن صوغ نظرية أو مبدأ يعين كيفية أن نكتب في ظروف سياسية أو اجتماعية معينة

TT

* الكاتب الفلسطيني شأنه شأن جل الكتاب، لا بد له من مجابهة سؤال «كيف نكتب»

* وصل الأمر بالبعض الى حد اعتبار ورود مفردات من قبيل «وطن» أو «شعب» أو «فلسطين» دلائل أدب حماسي مرذول سمير اليوسف سؤال «كيف نكتب؟» هو السؤال الذي لا يبرح يؤرق حياة كل كاتب حريص على انشاء علاقة وثيقة بين ما يكتب والعالم. بل انه السؤال الذي يكون حضوره أو غيابه مقياس أهمية ما يكتب ومدى صلته بالعالم. فإذا ما حدث ان كل عالم الكاتب المعنيّ هو من قبيل ذاك الذي لا سبيل فيه الى الفصل ما بين الخاص والعام، أو ما بين الشخصي والسياسي، أو حيثما تحتل الحادثة السياسية موقع الصدارة فيه، وتستأثر مجرياتها بالخبر الأهم والأبرز، أمسى سؤال «كيف تكتب؟» من الإلحاح بحيث يكاد يلازم فعل الكتابة ملازمة تامة.

والكاتب الفلسطيني، شأنه في ذلك شأن جل الكتَّاب من أبناء الأقوام والمجتمعات التي ابتلت بمشكلة سياسية مديدة أو حروب متواصلة أو غير ذلك من النائبات التي ما انفكت تلم ببلدان العالم الثالث، لا مناص له من مواجهة هذا السؤال وإلا فسرعان ما سيقع رهينة «سوء الاعتقاد». وإذا ما عدنا الى الكثير من الادب الفلسطيني الذي بدا مع انطواء الايام ضئيل القيمة، ان لم نقل معدومها، أيقنا ان مرد ذلك الى غياب هذا السؤال.

وفي ضوء الأمل بحلّ المشكلة الفلسطينية، وقيام الدولة واستعادة المجتمع لأسس استقراره، خبت شعلة هذا السؤال على نحو خاص في غضون الأعوام القليلة الماضية ترقبا لما سيأتي. ولكن مع اندلاع الاضطرابات في الأراضي الفلسطينية من جديد، فإنه لا بد لهذا السؤال من ان يطرح نفسه بقوة ثانية.المشكلة ان سؤالا كهذا لن يحظى بإجابة نظرية وافية الآن، كما لم يحظ بها من قبل. وسبب ذلك بسيط للغاية، اذ لا اجابة كهذه ممكنة. فمن غير الممكن صوغ نظرية أو مبدأ يعين كيفية الكتابة الأوفق ازاء حادثة أو ظرف طارئ ما. وحظ محاولة للاجابة على هذا السؤال من النجاح لن يكون أوفر من حظ العديد من المحاولات السابقة التي سعت الى ارساء ما يشبه قوانين ثابتة في سبيل ادب يفلح في عقد الصلة المنشودة مع العالم. وليس بخاف على أحد أي ضرر ألحقته بالأدب دعاو تقوم على تعيين مهمة الكاتب والأمور التي يتوجب عليه الانشغال بها وكيفية الكتابة عنها.

خلاصة القول انه لا يمكن الاجابة على هذا السؤال من خلال تزويد الكاتب بما يشبه ارشادات عملية ينبغي اتباعها، أو كوصفة طبية. وان محاولة كهذه لن تسفر عن انتاج اعمال ادبية افضل شأنا من تلك التي لا تنتبه الى مثل هذا السؤال اصلاً. فمن يقبل على الكتابة من دون تريث وإمعان تفكير بما وكيف سيكتب، أي كمحض استجابة لما يعتمل في نفسه من انفعالات تثيرها الاحداث الجارية لن يفلح في احسن الاحوال سوى في التعبير عن نقمة أو غضب ليس هو في حقيقة الأمر الا بمثابة تعويض نفسي عن العجز بإتيان الفعل. كذلك الأمر بالنسبة الى من يتبع تعاليم ووصايا محددة. فهو انما يستجيب استجابة آلية، وان ليس لانفعالات، وانما لقوانين، خير ما تثمره انتاج سبق انتاجه.وها هو ناقد فلسطيني تدفعه حوادث الاسابيع الماضية وما رافقها من كتابات الى الاجابة عن هذا السؤال، فلا يأتي الا بما هو نقيض الاجابة المنشودة. فهو ينطلق محذراً من شيوع ما ينعته بالقصائد الحماسية والمقالات النارية وغير ذلك من أشكال القول الذي «لا يصمد لفحص التاريخ ورهان الأيام»، وهو يذكرنا بظاهرة القصائد «الحجرية» التي راجت خلال أعوام الانتفاضة السابقة، التي لم يبق منها، بعد ما لا يزيد على عقد ونيف من السنين، اثر يذكر، فلقد انقضت مع انقضاء الحوادث نفسها.

ولا ريب في ان الناقد المعني محق في ما يذهب اليه. فليس هذا من امارات ادب يزعم الرقي الى مستوى المهمة التي ينيط نفسه بها. غير انه إذ يحذر وينهي عن تكرار الظاهرة السابقة، فهو لا يتورع عن تقديم وصفة لكيفية الكتابة، داعياً، من حيث لا يدري على الأرجح، الى انتاج ادب لن يكون أصلح من الانتاج الذي ينهي عنه. فمن جهة أولى، يفترض الناقد بداهة ضرورة الكتابة عما يجري. وهو الداعي الى التريث وإمعان التفكير قبل الكتابة، تراه لا يتوانى عن تبني الاسم الاعلامي الذي أطلق على حوادث الاسابيع الماضية. فيسلم بأنها «الانتفاضة الثانية» أو «انتفاضة الاقصى» جرياً على ما عمدت اليه وسائل الاعلام، ومما هو نتاج لحظة الحادثة. وكذلك تراه يتبنى الصفة التمجيدية الملازمة لتسمية كهذه. ونحن نجد في تبني كاتب، ينهي هو نفسه عن الاكتفاء بالقشور دون اللباب، اسماء وصفات الخبر اليومي تناقضاً لا يُنكر.

من جهة ثانية، فإن الناقد يستند الى جملة من الأحكام والفرضيات العامة التي هي نفسها تسوغ شيوع القصائد الحماسية التي يحذر من شيوعها. بل انه يتوسل ضربا من الانشاء لا يختلف عن لغة القصائد المرذولة بحسب تقديره. فهو يقرر مثلاً، وبجرة قلم، ان المثقف العربي اعتاد ان يكون «منفعلاً لا فاعلاً»، وبالروح نفسها يعتبر وعود السلام كاذبة، بل ان السلام برمته كاذب. ثم ينعت الشعب الاسرائيلي بأسره بأنه «شعب احترف الخداع والكذب والمراوغة ونقض كل المواثيق». وبذا فإنه ينطلق من التعميم البسيط الى النفي المطلق فإلى القول العنصري. وهل تظن ان قصائد «الحجارة» تحتاج الى أركان أفضل من هذه تبررها وتسوغ رواجها؟

ويبلغ ناقدنا النبيه هذا ذروة تبريره لما يحذر منه ويستنكره، من خلال الانشاء المنبري الذي يتوسله. ودونك مثال على ذلك: «لكن شلال الدم الذي بقع الأرض وسال على الشاشات وتساقطت قطراته الطاهرة من ثنايا الكلمات يدعو المثقفين العرب الى استلهام مثال الانتفاضة، الى الحفر في الحياة الثقافية العربية على ما يصل هذه الثورة الجماهيرية بأخواتها من الثورات التي أدرجت العرب في كتاب التاريخ المضيء..».

ونحن لا نشك بإخلاص دعوة الكاتب هذه، غير اننا، في الوقت نفسه، لا يمكن ان نُغفل حقيقة ان اللغة التي يستخدمها هنا ليست الا من لغة القصائد المنبرية التي تزدري وتستنكر. فلماذا اذن، يُحل لنفسه ما يحرّم على غيره؟ أليس هو من يعيب القصائد والمقالات التي لا تستلهم من الانتفاضة الا «صورتها من الخارج من دون تأمل للظاهرة وذهاب الى أبعد من أنيتها وقراءة عمقها الانساني؟». فلماذا تراه يستند الى ما تستند اليه هذه القصائد والمقالات من أحكام سياسية ومقتضيات جمالية؟

الاجابة ببساطة، لأن الناقد المعني لا يستجيب إلى «هبة» واحدة، بحسب تعبيره، وإنما الى هبتين: الأولى ذات هم سياسي «جماهيري»، والثانية ذات هاجس جمالي نخبوي الطابع.

الأولى ظاهرة صريحة. فهو طالما انه يعتبر ما يجري بمثابة «هبّة جماهيرية ضد سنوات الوهم الذي ولده سلام كاذب» فمن المنطقي ان يستجيب، هو نفسه قبل غيره، الى كتابة ما يعادل هذه «الهبّة». فالحوادث اذ توصف بكونها هبّة، لا تحتاج إلا الى ادب من الطبيعة ذاتها. ولقد استجاب الكاتب الى هذه الهبوب على خير وجه. أما الثانية فغير ظاهرة ومواربة. فالهم الجمالي الذي يدفعه الى النهي عن كتابة ادب حماسي ومنبري، انما يصدر عن دراية، بل صلة وثيقة، بما يجابه به الشعر المنبري النزعة من استخفاف وازدراء. ومثل هذا الموقف غالباً ما يأخذ شكل الحملة، أو «الهبّة» التي يشنها الوسط الثقافي على أي شعر سياسي حماسي النزعة باسم استقلالية الشعر عن شؤون السياسة، أو باسم طهارة المقتضيات الجمالية للقصيدة عن الهم العام وقد بغ الأمر بالبعض إلى حد اعتبار ورود مفردات من قبيل «وطن» أو «شعب» أو «جماهير» أو «فلسطين» بمثابة دلائل على اندراج العمل المعني في سياق الادب الحماسي المرذول.

وما محاولة صاحبنا الناقد الاّ مما ينم عن سعي لكسب رصيدي دعوتين، الأولى تستوي على اساس الاستجابة التلقائية لما يجري من حوادث باسم حتمية مؤازرة الكاتب أو المثقف «للجماهير»، والثانية تنطلق من التحذير من مغبة الكتابة غير المتأنية بما يسفر عن ظهور ادب حماسي لا يدوم. وإن في ذلك وحده ما يبطل مسعاه.

ولئن سبق وقلنا بأن إجابة لسؤال «كيف تكتب؟»، تكون اشبه بوصفة طبية، ستبوء بالفشل لا محالة، فإن محاولة الناقد المذكور انما تنجلي عن فشلين اثنين. فهو يزعم الانتباه الى السؤال المقصود خشية رواج ادب لا يدوم اثره، غير انه سرعان ما ينتهي الى تدبيج مقالة تحفل بكل مقومات ومظاهر ذلك الادب. فمحاولة الاجابة عن هذا السؤال انما يطلقها ذعر لديه من شيوع ادب عابر الاثر، لذا فإنها لا تكون أكثر من ذريعة لاستجابة انفعالية. الى ذلك فإن ما تتمخض عنه محاولته انما هو مثال صارخ للادب الذي تحذر من شيوعه.

بمعنى انه حصيلة استجابة لما تثيره الانتفاضة من مشاعر.

المحقق ان اجابة عن هذا السؤال لا تتم الا من خلال عملية الكتابة نفسها، وليس كعملية سابقة ومرشدة. والكتاب الذين افلحوا في الاجابة على هذا السؤال إجابة الملهم، لم يقيض لهم فعل ذلك من خلال استجابة آلية لمشاعر الغضب والنقمة التي تثيرها الحوادث في نفوسهم، ولا من خلال استجابة للخوف من شيوع ادب رديء، وانما من خلال اعمال ادبية تسوق اجابتها بمعزل عن الوصايا والاحكام الجاهزة والشائعة. وهي لهذا توصف بانها أعمال ريادية وروائع ادبية.