أوهام أجمل من الحقائق في ملحمة العشق الإنساني

قصائد ومواقف متشابكة ومترابطة منذ شهرزاد وعصر جميل بثينة إلى أيام روميو شكسبير ومجنون أراغون

TT

«الأذن تعشق قبل العين أحياناً»...

وما ضر بشار غفر الله له لو وضع الأنف مكان الاذن، فكل من يعيد النظر في ملحمة العشق الانساني وهم كثر من أهل العلم، يجعلون الرائحة ضربة الحب الأولى، فالانسان يعشق من «أول شمة» لا من أول صوت رخيم أو نظرة، وبعد الشم يصبح درب اللثم معبداً.

وما عن «ايف سان لوران» «ولا كريستيان ديور» ولا «شانيل» يحكي العلماء بل عن رائحة النضارة الانسانية التي توقظ كل غرائز التقبل والاستعداد للحب، فالرائحة الأصلية ـ الطبيعية للشخص هي الأساس والبقية تفاصيل من كيمياء الحب التي ليس من الضروري ان تعرفها، فكل حب يدخل المختبرات يفسد وان جمدوه تحت الصفر بألف درجة.

وما كان محمد بن عبد الله بن نمير يحكي عن الرائحة الأصلية حين قال:

تضوع مسكاً بطن نعمان اذ مشت

به زينب في نسوة خفرات

بل عن العود، ودهنه حين تنضجه مجامر الهند، فيملأ الدنيا بالعبق، والكون بالشبق، ويتركك بين خيارين، إما ان تعشق... أو تحب، والثانية أخف من الأولى في مراتب الغرام التي تتدرج كالعطور من الأخف الى الأشد ثقلاً، فالأعنف الى ان تصل الى رائحة تسكرك، وعما حولك تغيبك وتلهيك، وذاك طريق اللاعودة فما أحد وصل الى تلك المدارج من رقي الهوى، وعاد طبيعياً كحالته الأولى قبل ان تلطمه بحنان الأمهات رائحة موعود بها منذ الأزل، فالعشاق صناع أوهام أجمل من الحقائق وتلك ميزتهم الكبرى.

انه جميل ذاك العاشق الغرنوق الذي ألح على ذلك المعنى، وطرقه، واعاده، فالعشاق لا يرضون بأقل «من أزل الى ابد»، لذا تراهم اكثر الناس استخداماً لتعابير الأبدية ومصطلحاتها، وما جميل بثينة الا التجلي العربي لذلك الولع بتصوير حب بحجم «فورإيفر» وهي تشكل كوناً كاملاً أكبر من حياة وأبعد من موت:

تعلق روحي روحها قبل خلقنا

ومن بعد ما كنا نطافا وفي المهد

فزاد كما زدنا فأصبح ناميا

وليس اذا متنا بمنتقض العهد

ولكنه باق على كل حالة

وزائرنا في ظلمة القبر واللحد

على جبهة الأمم اللاتينية، ودعك من «أوفيد» وحسياته الروحانية، فإن الناطق الأكمل باسم حب يدخل كالهواء والماء في تركيبة كل شيء هو الشاعر المعاصر أراغون سليل ثقافة «التروبادور» والحفيد الشرعي للأرومة الاندلسية الذي يستشهد في «مجنون السا» بألفاظ عاشقنا الكبير ابن حزم ليصوغ هذا النص الرائع:

* الوحش الجميل

* «كنت اعرف ان هذا الحب انقى من الماء واكثر شفافية من الهواء، أرسخ من الجبال، أقوى من الحديد واشد التصاقاً من اللون بالأشياء الملونة، أوثق من الحدثان بالاجسام، أبهر من ضياء الشمس، واكثر حقيقية من رؤية العين، أبهى من لمعان النجوم، أصدق من القطا، وأدهش من الحظ، أجمل من الفضيلة، وأنعم من وجه أبي عامر، وأمتع من الصحة، أحلى من الأماني وأقرب من الروح، وأرحم من صلة القربى، وابقى من نقش على حجر».

وما من عاشق يصل الى هذه المرحلة إلا ويألف في نفسه خفة بالمعنى الايجابي تدفعه للطيران، فميزة الحب انه يحررنا من الثقل والعادية والنسبية، ويجعلنا أقرب الى روح الكون في كماله، ومع ذلك تكثر التحذيرات منه لا لأن «أوله لعب وآخره عطب» كما قال ابن حزم في «الطوق»، بل لأن ألمه فوق الوصف، فهو وان لم يقترن بتوافق ولقاء وذوبان، صار زنزانة أبدية، وأسراً قاتلاً في مصيدة الفراغ والانتظار، وان شئت ان تتمعن في أحوال عاشق مفارق فانظر الى قول نصيب بن رباح ذلك النوبي الرقيق الذي يصور لحظة فراق بطريقة لا تدع لك مجالا للتنصل من فهم الحالة حتى وان كنت ممن لا يعشق التزاماً بقوانين الرصانة والوقار. يقول نصيب في وصف ليلته الليلاء حين لوحت له بالفراق:

كأن القلب ليلة قيل يغدى

بليلى العامرية أو يراح

قطاة عزها شرك فباتت

تجاذبه وقد علق الجناح

فلا في الليل نالت ما ترجى

ولا في الصبح كان لها براح

سعادة أبدية، أو عذاب أبدي وما من خيار ثالث. ولأن نعيم الحب لا يتحقق وان تحقق لا يدوم، نظراً لأن كيمياء الحب كما يقول البعض باسم العلم، لا تعمل في الدماغ لأكثر من ثلاث سنوات، ترى كتب العشق وقصصه مليئة حتى حوافها العليا بالتحذير من الهوى، فشهرزاد المثقفة بالتراث الشعري العربي الميال الى الكآبة والتشاؤم من مستقبل العاشقين تحذر في لياليها عشرات المرات من ذلك الشعور الغامض الذي ينمو ويتسامق ثم يخرج عن الطور والارادة، وينطلق وحده وحشاً جميلاً يعذب ويقبل، ويفترس ويحنو، أما الموقف العام لشهرزاد وهي خلاصة الثقافة العاطفية الشعبية فيتراوح بين النهي القاطع والتشجيع اللطيف، واحياناً يأتي في صيغ تحذيرية تكتفي بتوصيف واقع الحال وكيفية التحولات التي تطرأ على العاشقين، فشهرزاد في الليلة 763 تستعير بيتين لشاعر مجهول لتطلق ذلك التحذير الحيادي الباهت من امرأة باهرة لا تستطيع ان تصد عن دروب الحب مهما تمادى عقلها الجبار في عمله، لذا تكتفي بما يشبه من يكتب لنفسه براءة ذمة من دم العاشقين:

الحب أول ما يكون لجاجة

تأتي به وتسوقه الاقدار

حتى اذا خاض الفتى لجج الهوى

جاءت أمور لا تطاق كبار

وشهرزاد بالمناسبة تنفرد بين رواة قصص الغرام بالاكثار من انشاد غزل النساء بالرجال، فقد جرت العادة ان نسمع غزل الذكر بالانثى لكن شهرزاد وكما في حكاية ابنة الوزير ابراهيم (الليلة 271) تجعل المرأة تعبر عن عواطفها وتبادر بالعشق. فحب ابنة الوزير للجندي «انس الوجود» وعشرات قصص الغرام التي تكون فيها المبادرة بيد المرأة، تحدث نقلة غير مسبوقة في ملحمة العشق العربي التي ظلت احادية التوصيل وذات قطب واحد يمارس ويحكي ولا يسمح للقطب الثاني ان يظهر للوجود ليحصل التماس العلني وتشتعل تلك الكهرباء الخفية التي تنقل الضوء والرعشة، وايضاً تصلح كوسيلة ارهاب وعذاب، وستمضي قرون قبل أن تعود هذه «الثيمة» المشابهة لموقف ولادة في ادب نساء فرنسيات وانجليزيات متمردات كجورج اليوت وجورج صاند.

ويكاد الحب بالحاح عار فيه من النساء والرجال على فكرة الأبدية، يكون كوني الطابع، فما بين وضاح اليمن الذي يرفض لحبه ان يبلى:

كل حب اذا استطال سيبلى

وهوى روضة المنى غير بالي

وبين روميو شكسبير الذي يرى في حبه وعطائه نهراً دائم الجريان في وديان اللانهاية:

The More I Give To thee The more I have, For both are infinite..

* ثغرات جاهلية

* أقول بين هذا وذاك خبرة بشرية معتقة عرفها العرب في جاهليتهم والأزتيك في حضارتهم وايضاً عاشها الاغريق والانغلوسكسون والرومان، وجميعهم يرفضون التعامل مع الحب على كل ما فيه من ألفة وحميمية وكأنه من عواطف الكون الاخرى كالغضب والكرم والشجاعة، فهو الاب الشرعي لكل العواطف، بمعنى انه الذي يدفع للكرم والشجاعة والاريحية، وكافة العواطف الخيرة النيرة.

مع الحب لا بد من التسامي، ولا بد من التمسح بالأبدية، فالعقل البشري لا يصدق ان عاطفة تجلب كل تلك السعادة أو كل ذاك الشقاء يمكن ان تزول وتتلاشى، لذا جعلوها فوق العادي واليومي من التفاصيل، وهذا ما تجده عند عمر بن ربيعة ومارلو ولافونتين وغوته على اختلاف الاجناس والاعراق والعصور.

ان غير المفهوم في بعض فصول العشق العربي والجاهلي منه على وجه الخصوص، الحرص على تشبيه النساء المحبوبات بالغزلان وبقر الوحش، وان جاز ذلك من حيث سعة العيون والرشاقة والكحل، فهل يجوز مع القانون العام الذي يرفع الحب فوق العواطف، والمحبوبة فوق البشر والكائنات؟

ذو الرمة، أرق من تغزل في عصره، يرتكب ذلك في اكثر من قصيدة موجهة لحبه الأكبر «مي»، ولا يترك الأمور معلقة لنقول انه كان يلغز ويرمز، بل يشرح ـ وعيب القصيد الشرح ـ ليؤكد انه لا يقصد بالعفو عن الغزالة غير عناصر الشبه مع الحبيب الآدمي:

أقول لصحبتي وهم بأرض

هجان الترب طيبة الصعيد

عشية أعرضت ادماء بكر

بناظرة مكحلة وجيد

أصدوا لا تروعوا شبه مي

صدور العيش شيئاً من صدود

ولو عاينتنا لعلمت إنا

نمد بحبل آنسة شرود

ترى فيها اذا انتصبت الينا

مشابه فيك من كحل وجيد

وليته ما شرح وترك للمخيلة فضيلة الشرود والسرحان في المعاني لكنه فعل، وتلك ثغرة عنده وفي ملحمة الشعر العربي الغزلي بالمجمل التي تشكو من ثغرات كثيرة وعميقة ليس اخطرها تشبيه الحبيبة بكائن من فصيلة الحيوان، انما الاخطر في ملحمة العشق العربي التركيز على حب الجسد، وجعل الروح في المرتبة الثانية أو الثالثة، وقد تأسس على هذا الفهم ان صار نصف الشعر العربي في هجاء الشيب والفقر، فالنساء يردن الشباب والمال، وعشق الروح وهو الاسمى ـ وان لم يتناقض مع عشق الجسد ـ لا يرد كثيراً، وتلك اهانة حقيقية للمرأة العربية ان يقال عنها منذ علقمة الفحل الى أيام نزار قباني، انها مادية الأهواء، وان زادها الروحي من المحبة الحقيقية قليل، فهي بنت غريزة تجعلها لا تخرج من دائرة «المال والشباب»، كما نص على ذلك علقمة بن عبده، وغيره من الشعراء الذين لم يتسربلوا بأوهام العشق الفاتنة كوضاح وجميل.. يقول الفحل:

فإن تسألوني بالنساء فإنني

بصير بادواء النساء طبيب

اذا شاب رأس المرء أو قل ماله

فليس له من ودهن نصيب

يردن ثراء المال حيث وجدنه

وشرخ الشباب عندهن عجيب

وقد مضت عشرات القرون قبل ان يصحح الموال الشعبي هذا الموقف بقوله «عشق الجسد فاني».

وبما اننا بدأنا هذه السلسلة بالعطر الانساني، فإليه نعود لنكتشف ان من ثغرات ملحمة العشق العربي، غير الشباب والمال، عدم احتفائها قديماً وقبل مجيء نزار، بالروائح والألوان والعطور، فعندنا ـ مثلا ـ من يحتقر حاسة الشم بالمطلق بوصفها من مستلزمات الكلاب، وهو عبيد الله بن قيس الرقيات الذي تغزل بأكثر من عشرين واحدة اسمها رقية، ويا حسرة مسكهن وعطورهن ومباخرهن مع شاعر يقصر غريزة الشم على الكلاب:

لا أشم الريحان إلا بعيني

كرماً انما تشم الكلاب

فإن كانت الرائحة الأصل المادي للحب كما يؤكد علماء هذه الأيام، فهذا رجل لا يمكن ان يحب ابداً وإن تغزل، فالحب شيء، والحديث عنه شعراً ونثراً شيء آخر، وهناك من يقول ان الأقدر على وصف العشق هم الشعراء الذين لا يعشقون، لأن من يكون خارج الحالة يصبح اكثر قدرة على وصفها من المتورط المعذب فيها الذي تعمى عيونه عن كل شيء الا ورطته الشخصية التي يعتبرها نعمة مهما كان عذابها.

وربما كان لنا الى هذا الرأي عودة في المستقبل القريب لنواصل الكشف عن ذلك العالم السري الذي شكل جزئيات ملحمة العشق العربي التي تظل رغم ثغراتها الحقيقية، من ألمع ملاحم العشق في العالمين القديم والمعاصر، فهؤلاء الذين يجردون العروبة من كل فضائلها يضطرون حين يقترب حديث العواطف، للاعتراف بفضل العبق الاندلسي على شعر الغزل الاوروبي في العصور الوسيطة والحديثة وصولاً الى جاك بريفير الذي متح مع نزارنا من بئر واحدة يردها جميع صناع ملحمة العشق الانساني على اختلاف مشاربهم ليضيفوا ويأخذوا ويحافظوا معاً على نضارة تلك الملحمة الفاتنة.