بشر يائسون داخل مستطيلات ضيقة

تغيرات الواقع الاجتماعي المصري في المجموعة القصصية «للروح غناها» للمصري سيد الوكيل

TT

كتابات سيد الوكيل يمكن أن توضع في الصف الاول من كتابات القصاصين المصريين اليوم، فهو يمتلك حساسية شديدة تجاه معنى الدراما القصصية، علاوة على هذه النكهة المصرية الحميمة التي تدل على دقة متابعته لظروف الواقع المصري وتفاصيله متناهية الصغر، كما أن لديه الخبرة التي تؤهله للتعبير عن خصوصية هذا الواقع. وتجسد مجموعته الجديدة هذا الخلل العام الذي أصاب الواقع الإنساني، وهي تحث الناس على تجاوزه والقضاء عليه.

ولنتابع الحدث الذي يمكن أن نطالعه في القصة الأولى، حيث أصيب الطفل بمرض «الصفراء» بسبب حقنة أعطوها له في المدرسة، رقد بعدها في مستشفى الحميات لمدة شهرين، حتى شفي من مرضه، وفي اليوم الأول لعودته الى مدرسته تدهسه سيارة في الطريق!

ومن ضمن أشكال الخلل الاجتماعي العام الذي يعيشه المجتمع المصري: انفصال الأب والأم. وهذا ما تعرفنا به قصة «مجازات ضيقة». والتي تمثل ظاهرة يلاحظها المتابع لظروف الواقع الاجتماعي الجديدة في مصر الآن في ظل التغيرات ما بعد الحداثية، والتي تتجسد احيانا من خلال الظروف الاقتصادية الصعبة. ولا ينفصل عن هذا ما تجسده قصة «ضوء شاحب في النافذة» حيث نحس بمناخ أزمة شديدة بين الزوجين، توحي بها الأحداث دون أن تصرح بها مباشرة: «مر وقت طويل، لم يكن ثمة شيء سوى ململات صغيرة في المقاعد، ونحنحات اصوات لا معنى لها ـ 59» وهكذا تمر أوقات طويلة بلا معنى، وبلا إنجاز، وبلا حماسة لأي شيء. ويالها من حياة زوجية باردة جامدة، تقتل حيوية البشر، وإحساسهم بمعنى وجودهم.

وتعلن القصص عن المواقف الشخصية العديدة التي تبرز حالات ومستويات مختلفة من الإحساس بالقهر بمعانيه الاجتماعية المختلفة. والقصة الأخيرة من الكتاب تحتوي مجموعة من القطع أو الاقاصيص المتناهية في الصغر، ومنها قطعة سماها الكاتب: «بريق» وفيها يلاحظ القارىء مباشرة هذا التفاوت الاقتصادي الطبقي مباشرة، بين النظارة الذهبية (التي يضعها على عينيه شخص ثري بالتأكيد) من ناحية، وما يحيط بها من أجواء فقيرة وبائسة، حيث هذا المساء الكابي، وبائع التين الأشيب الضجر، وبقع من البول الآدمي تحت الكوبري، وفي القصة نفسها قطعة أخرى اسماها: «علاقة» يتتبع فيها الكاتب مسيرة كلب جائع، وغير هذا الكثير مما يعكس أشكالا من التفاوت توحي بكل هذا القدر من الكبت والشعور بالقهر وعدم قدرة الشخصيات القصصية على الاتزان مع العالم الخارجي.

في قصة «مجازات ضيقة»: الأب والأم يعانيان من الانفصال أصلا، كل منهما يحلم في اعماقه بالعودة إلى الطرف الآخر، كما توضح ايماءات كثيرة، ومواقف مختلفة، لكن باب العودة موصد بسبب بعض الظروف القاسية، ومن هنا فالإحساس بالمعاناة يملأ النص، ويتمكن الكاتب من تسريبه الى القارىء بحيل ذكية تنم عن خبراته ككاتب، وبخاصة عندما تضيف القصة مأساة أخرى هي مرض ابنتهما الشديد، والمسألة بهذا سوف تصل الى حد لا يطاق.

وهو ما نلاحظه ايضا بداية من عنوان قصة «جراح رمضان الأخير» حيث نستشعر مرة اخرى هذه المعاناة الأليمة، والتي أصبحت تخص جيلا بأكمله، وها هم مجموعة من الأصدقاء العائدين من حرب 1967 يحسون ـ بعد أن أدوا واجبهم المقدس ـ بأنهم ضائعون، يعيشون حياتهم بلا معنى ليضيعوا في المقاهي، وفي أحضان النساء، بلا دور يمكن أن يقوموا به ليحققوا وجودهم ويخدموا وطنهم، وهي مفارقة أليمة حقا يتأثر بها القارىء تأثرا شديدا.

وفي معظم القصص يمكننا أن نقرأ عبارات مختلفة تدل على حالات من المعاناة يعيشها أشخاص القصص، ومنهم بطل القصة ذاته، ويمكننا مثلا أن نقرأ هذا المعنى في قصة «قيظ القلوب»: «في الفاترينات رأى وجهه لا يقل عن وجوههم أسى، مبررات الأسى موجودة دائما ـ ص 44».

وهناك رمز لقدر الإنسان الأليم في قصة «عري بلوري»، ويتكرر المعنى نفسه عدة مرات في قصص أخرى: «الشارع خال من المارة، فقط كلب مبتور الساق يعبر وحيدا ـ ص70»، والقصة كلها رمزية توحي بمعاني المعاناة القاسية: «حيث بطل القصة يمارس علاقة سرية مع امرأة غامضة، وهي علاقة أشبه بكابوس، ومكان لقائهما بعيد، في قلب المقابر، وهناك من حولهما حالة قلق شاملة، ونلاحظ أن المرأة مرعوبة، وغير قادرة على الحصول على أي إشباع، فالعلاقة كأنها غير موجودة، والجو خانق حولهما، وكذلك فالسماء تمارس قهرا مزاجيا فهي ملبدة بالغيوم، واحتمالات المطر قائمة باستمرار». (ص 70).

حالة من اليأس متفشية في النصوص، والشخصيات القصصية تمثل نماذج من البشر اليائسين، وفي قصة «مهام ثقيلة» نتعرف على هؤلاء الجنود المستقرين في محطة القطار استعدادا للسفر الى وحداتهم العسكرية، تنتابهم حالة من اليأس، وبطل القصة نفسه الذي يستعد للسفر ايضا يمتلىء بالحالة ذاتها.

ومن يقرأ قصة «ضوء شاحب في النافذة» سيتحسس كل هذا البرود الذي يشيع في الحياة، وتنتهي القصة بالزوج لا يرى زوجته مباشرة، ولكنه يرى ظلها داخل مستطيل الضوء الآتي من الحجرة، وهذا في حد ذاته يشعرنا بهذه الدرجة من الانفصال وعدم التواصل، وبعدها ينطفىء النور في صمت لتكون الزوجة بذلك قد نامت، أما الزوج الساكن فهو جالس كالتمثال يتفرج على «التلفزيون» الذي هو في الحقيقة لا يبث إرسالا بل وشيشا لا ينقطع، ويحرك الزوج عينيه بهدوء قاتل لينظر من النافذة: حيث بيوت صامتة، مغلقة وهواء بارد. الكون كله بارد، وقد أورد الكاتب جملة ذكية تتعلق بمنظر البيوت التي يتفرج عليها الزوج: «كانت النوافذ المضاءة مغلقة»، والفكرة هنا تصب مباشرة في رغبة الناس في العزلة عن العالم، إما بالنوم، أو بإغلاق النوافذ إذا كانوا مستيقظين.

ويمكننا أن نلاحظ ذكاء الكتابة عندما ترد هذه الاجابات القصيرة المختصرة من قبل الزوجة، فهي غير راغبة في التحدث في أي موضوع اصلا، وهذا يزيد من الإحساس بالمعنى الذي يريد ان يوصله لنا الكاتب، حالة البرود الشديدة التي تشمل العلاقات الإنسانية: «جاء صوته محملا بنبرة توصل أكثر من أي شيء آخر. إيه رأيك؟ لم تخرج رأسها من بين ضلفتي الدولاب، واستمرت تقلب بعض الملابس، تعيد بعضها، وتكوم الآخر في جانب، ولما أعاد السؤال، قالت.. في إيه؟

ـ العريس طبعا؟

ـ كويس ـ ص54»

إنها حالة من اليأس الشديد، تعبر عنها هذه القصة وغيرها من قصص المجموعة لانتزاع أية إجابات أو ردود، بل أحيانا تأتي الإجابات في صورة حركة صامتة من عدسة كاميرا لاهثة تتحرك في اتجاهات حرجة.