أما من وسيلة لإنقاذ العام الثقافي؟

ما أنتجناه طوال الخمسين سنة الماضية هو شتات أفكار وشظايا أبحاث وهياكل جامعات وأكوام من الكتب لا تتحاور إلا بقدر ولا تراكم الخبرات إلا بما ندر

TT

تعودت الصحف العربية تقديم جردات حساب مع نهاية كل عام، تعدّ فيها السقطات واللقطات، وتتحسر، غالباً على ما فات لأنها نادراً ما تجد فرحة يحتفى بها. ولربما أننا ننظر إلى الأمور بالمقلوب. فحالنا، على الأرجح تستدعي كتابات استطلاعية، استشرافية، تقترح الإمكانات المستقبلية، من خلال تصورات كتاب ومفكرين يطرحون وجهات نظر قابلة للتنفيذ، وما أكثرها

يقول عالم الفضاء المصري فاروق الباز المقيم في الولايات المتحدة: «ان الأميركيين يجهلون تماماً الإسلام، ولا يعرفون شيئاً عن المسلمين، ونحن مسؤولون بشكل كلي عن هذا الجهل لأننا لم نفعل شيئاً لمكافحته»، ويضيف الباز: «لا توجد ترجمة واحدة للقرآن الكريم باللغة الإنجليزية وضعها عربي، وبعد 11 سبتمبر تهافت الأميركيون لشراء نسخ القرآن، ليتعرفوا علينا لأن بهم عطشاً إلى ذلك فنفدت نصف مليون نسخة خلال أيام، لكنهم، في الحقيقة، كانوا يقرأون ترجمتهم له لا ترجمتنا».

والباحث المصري ليس وحيداً في الإحساس بمرارة التقاعس الثقافي العربي. فالجميع يشكو ويئن، وكان الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر قد تحدث لـ«الشرق الأوسط» منذ أيام عن مأساة عدم ترجمة العرب للتلمود بعد ما يقارب القرن من الصراع مع المشروع الصهيوني علماً بأن هذا الكتاب الديني هو الأكثر تأثيراً وتحريكاً للوجدان اليهودي. وعلماء اللغة يتحدثون، وليس من ينصت إليهم، عن كارثة عدم وجود معجم عربي شامل كامل عصري بإمكان أي عربي أو مستشرق العودة إليه، وهنا تحية إجلال للمستشرقين المحبين لنا والمستمرّين في سعيهم صوبنا، رغم أننا لم نقدم لهم، لتسهيل مهمتهم، قاموساً واحداً يركنون إليه. ولا نجانب الصواب لو قلنا أن أهم المراجع العلمية والعالمية، عن الإسلام في وقتنا الراهن وأشملها وأدقها هي «الموسوعة الإسلامية» وهي لا تصدر بالعربية وإن كانت تترجم وليست مشروعاً عربياً بل أوروبياً، يعمل عليه البحاثة الغربيون (وهذه مفارقة مفجعة) منذ العام 1932 وبكثير من الصبر والعناد للتقدم في إنجازه مجلداً بعد الآخر وقد وصلوا إلى الكتاب العاشر، وما يزال الجهد متواصلاً لاستكمال مهمتهم البديعة. وقد طلعوا علينا بمواد دقيقة ومفصلة لم تترك شاردة أو واردة إلا وشرحتها. وهكذا لو أخذنا في تعداد ما فاتنا إنجازه، وما أنجزه الأعداء على شرفنا ونيابة عنا لما انتهيناولوجدنا أن ما أهملناه هو أكثر من معيب.

وبالنظر إلى المشهدـ العام، وما أنتجناه طوال الخمسين سنة الماضية كي لا نذهب إلى ما هو أبعد، سنعثر على شتات أفكار، وشظايا أبحاث، وهياكل جامعات، وأكوام من الكتب التي لا تتحاور إلا بقدر، ولا تراكم الخبرات إلا بما ندر، ولا يبني واحدها فعلياً على ما سبقه، وليس في ما نقول نكراناً لجهد أحد أو شطباً بجرة قلم لثمرات المبدعين والمفكرين والفنانين التشكيليين أو المسرحيين. لكن كل شيء، مهما كبر أو صغر، يبدو وكأنه يفوش على شبر ماء، حين يعوم في مناخ من التشرذم، والصفة التي تصدق، للأسف على الثقافة العربية السائدة منذ عقود هي التشظي لا لأن الأوصال الثقافية مقطوعة بين الأقطار العربية وحسب بل لأن الحيوية الثقافية في البلد الواحد هي فردية في غالبيتها، أو هي صنيع مجموعات صغيرة لا تتقاطع وتتثاقف بالقدر الكافي.

ومن يدّعي العكس، عليه أن يدلنا أين هي التيارات والمدارس الفكرية والأدبية، وما هي تواجهاتها وتأثيراتها، ومن هم الأساتذة الرواد، وأين هم تلامذتهم. إن امرأة واحدة أو رجلاً واحداً مهما حلّقت عبقريته، لا يستطيع منفرداً أن يرسم مشروعاً لأمة (كما ننسب لهذا المفكر الكبير أو ذاك) دون أن يصطدم بالجدار، فأجزاء الجسد مهما بلغت استقلاليتها تعمل أبداً بالتناغم مع باقي الأعضاء. والأرضية في بلداننا العربية تفتقد الحد الأدنى من الإخلاص لتحقيق هذا التناغم، والتواصل والتعاضد والتكاتف والتفكير، ضمن أطر تنظيمية نقيد أنفسنا بها لتنتظم مسيرتنا.

ليس التمويل وحده هو المشكلة، وإنما غياب الرؤى والتخطيط للعمل معاً، لا تحت عناوين هي أكبر من حجم ديناصور، وإنما وفق تطلعات صغيرة ومحددة وطويلة الأجل على طريقة أصدقائنا حملة راية «الموسوعة الإسلامية» الذين يكدحون منذ سبعين سنة دون كلل.

لقد تعبنا حقاً، من تكرار المقالات التي نقول فيها مع نهاية كل سنة وبداية أخرى، أن العام الثقافي كان باهتاً وشاحباً وجامداً وأسوأ من الذي سبقه. وتعبنا أيضاً من المثقفين الذين أنهكونا من كثرة ما يكتبون وينشرون عن الضجر والملل والفراغ، وتدور كتاباتهم السديمية في اللامكان واللامشروع واللارؤيا. لا مبرر، يا إخوان، لكل هذا التأفف والتضجر والخوف من الزمن الذي لا تتحرك عقاربه البليدة، فالعمل كثير والوقت قليل، ونحن نعيش في ساحة قاحلة تحتاج إلى معاولكم ورفوشكم، وتعاضد سواعدكم.

لقد كتبت منصورة عز الدين في العدد الأخير من مجلة أخبار الأدب «المصرية، ضمن ملف يحاول رؤية إمكانات تغيير الآتي، مقالة تحت عنوان «كي لا نستمر في إعادة إنتاج الفراغ تقول: «المشكلة التي نواجهها الآن هي أن اللحظة التي يعيشها العالم لن تسمح إطلاقاً بأي قدر من الخمول والتراخي أو الطنين الفارغ، لذا علينا أن نعيد ترتيب أوراقنا بحثاً عن آفاق مغايرة». وقد شارك الكاتبة آخرون كلهم يجمعون على ضرورة البحث عن مخرج، كي لا نبقى في دائرتنا التي تطبق علينا حد قطع الأنفاس. وهذا كلام قديم جديد، وتكراره يعني أن الكيل قد فاض، لكن الإحساس بالخطر وحده لا يكفي. فقد سرقتنا الحروب طويلاً، واغتصبت أحلامنا وحيويتنا، وألهتنا الهزائم حتى الذوبان فيها والتماهي الكلي معها. وغداً تبدأ حرب جديدة ونعود لنتسمر أمام الشاشات، ونشتم هذا ونلعن ذاك ونتعاطف مع ضحايانا ونذرف عليهم الدمع سخيا، ومرة جديدة سنظن أن الثقافة لا يمكن إلا أن تكون هامشاً تفصيلياً صغيراً حين يشتد القتال والنزال، ومرة أخرى جديدة لن نرى في الثقافة الساحة الوحيدة المتبقية لنا كي نحرز تقدماً ما لا تستطيع أن تدينه أعتى المنظمات الدولية وأكثرها صهيونية وانحيازاً لأعدائنا. وكي لا نعود في العام المقبل، لنخصص ملفات لتقييم خيباتنا، فإن كل خلية صغيرة مفكرة، أو مبدعة، عليها أن تجند نفسها ككتيبة وتنخرط في جيش تحرير الذهن العربي لا بالتنظير بل بتبني مشروع صغير وطويل النفس، على أن يكون مفيداً، نافعاً ونافذاً في آن معاً.