زلزال نيويورك وأوجاع أفريقيا

غورديمر: شياطين العنصرية ما تزال تبحث عن فرصة ملائمة للعودة إلى المشهد العام

TT

عرف الكاتب الايرلندي فرانك ماك كورت البالغ من العمر 71 عاماً شهرة عالمية واسعة بعد اصداره سيرة طفولته ومراهقته تحت عنوان «رماد انجيلا»، وفيها يتحدث عن الأطوار الصعبة التي عرفها خلال هذه المرحلة من حياته، حيث كان أبوه مدمناً على الكحول. وبسبب ذلك واجهت عائلته الجوع والفقر، وقد سعت للتخلص من ذلك حين قررت الهجرة إلى نيويورك، لكنها سرعان ما عادت إلى ايرلندا مثقلة بالهموم وبالمزيد من المشاكل. وكان على الفتى فرانك ماك كورت أن يعود مجدداً إلى نيويورك. وبعد جهاد مرير، أصبح معلماً للغة الإنجليزية، ثم كاتباً مرموقاً. وفي نص نشر له مؤخراً، تحت عنوان: «ماذا فعلوا بك يا نيويورك؟»، تحدث صاحب «رماد انجيلا» عن الآثار التي خلفتها احداث 11 سبتمبر (ايلول) في نيويورك وكتب يقول: «يوم 11 سبتمبر 2001، كنت أتناول فطور الصباح بصحبة زوجتي ايللن في مطعم يقع في الحي اللندني في «ماريبيون»، فجأة سمعت عاملة هناك تقول لزبون إن طائرة ارتطمت ببرج التجارة في نيويورك. وهمست أنا: «الناس هم إذن عاجزون عن التحدث عن شيء آخر غير الخيال العلمي». غير أن نبرة صوتها كانت تدلّ دلالة قاطعة على أن ما كانت تقوله كان صحيحاً، ثم أشعلت الراديو، وعندئذ سمعنا أن طائرة أخرى ارتطمت هي أيضاً بالبرج الثاني، غير أن الراديو لم يكن كافياً، لذا هرعنا إلى التلفزيون لنشاهد الصور. ذهبنا إلى المقهى المجاور، حيث كان الناس واقفين أمام الشاشة كما لو أنهم طيور البطريق، لا أحد منهم كان يشرب، وتقدم رجل من آلة ألعاب، غير أنه تجمّد في مكانه لما قال له أحدهم: «رجاء لا تفعل ذلك!».

ويختم فرانك ماك كورت مقاله قائلا: «قبل خمسة عشر عاما، كانت نيويورك تعتبر الأسوأ سمعة بين جميع المدن الأمريكية الكبيرة، وكانت نسبة الجريمة فيها الأكثر ارتفاعاً في العالم، وفيها كنا نرى عدداً وافراً من الناس الذين بدون مأوى. وعندما تسافر يقول لك الناس: «أوه.. أنت تسكن نيويورك؟ أليست مدينة مرعبة؟»، اليوم هي ليست مدينة مرعبة حتى ولو كنا نخشى عملية إرهابية أخرى، فنحن معتزون بتلك الشجاعة العالية التي أظهرها الناس والمصابون والمشوهون والذين فقدوا أقارب وأبناء واصدقاء. ونحن نرفع أيدينا لنحيي رجال المطافئ حين يمرون أمامنا ونشعر بالغبطة حين يردّون على تحياتنا. ونحن نحييهم لأننا معجبون بالطريقة التي يؤدون بها عملهم، نحييهم لأن ثكناتهم واحات استقرار وتواصل في هذه المدينة التي تعيش تحولات مستمرة».

* رحلة مهرّب

* في حوار مسهب أجري معه، وصدر مطلع خريف 2002، تحت عنوان: «واجبات ولذّات.. رحلة مهرّب»، تحدث الباحث والناقد المعروف تزفيتان تودورف، البلغاري الأصل والفرنسي الجنسية، والذي يعمل منذ سنوات مديراً لمركز الأبحاث الاجتماعية في باريس عن مسيرته الفكرية منذ سنوات الشباب وحتى هذه الساعة، وقد كتب الناقد الإيطالي كلوديو ماغريس عن الكتاب المذكور قائلا: «القادم من البلقان يتساءل احياناً أين تبدأ أوروبا؟ وبإمكان تزفيتان تودورف ان يقول ايضا عندما كان «فلاحاً من الدانوب» وهو ينظر إلى الأشياء انطلاقاً من بلغاريا المخنوقة بسبب النظام الشمولي الذي كان يحكمها، بأن الذهاب إلى الغرب يعني «الذهاب إلى أوروبا»، أي «الذهاب إلى الحضارة». ويواصل كلوديو ماغريس مقاله قائلا: «فلاح الدانوب يصبح «فارسياً» في باريس يعري العالم الجديد الذي يكتشفه، أي الغرب. وهذا ما يتحدث عنه تودورف في الحوار المسهب والرائع الذي اجري معه «...»، ان شهادته فصل رائع عن التاريخ المأساوي لأوروبا محكي بخفة خالية من أي نبرة مأساوية».

وفي هذا الحوار، يتحدث تودورف عن سنوات الشباب في بلغاريا التي كان يحكمها الشيوعيون، متطرقاً بالخصوص إلى مشاكل الرقابة التي عانى منها كثيراً والتي دفعته في النهاية إلى الفرار إلى فرنسا. كما يتحدث عن الحياة الثقافية والفكرية الفرنسية من خلال رموزها الكبيرة مثل جان بول سارتر ورولان بارت ولفي شتراوس. وهو لا ينسى أن يتحدث عن السوريالية، وعن حرب الجزائر وعن حرب كوسوفو، وعن انهيار الشيوعية وما تبع ذلك من احداث على المستوى العالمي.

* عودة فيليب روت

* بعد صمت دام سنوات عدة، عاد فيليب روت بقوة إلى المشهد الثقافي ليس الأمريكي فحسب، بل العالمي، وذلك اثر اصداره لروايات نالت تقدير كبار النقاد، وملايين من القراء. ففي عام 1995، حصل على جائزة «ناسيونال بوك اوارد»، وبعد ذلك بعامين نال جائزة «بوليتزر»، وفي آخر رواية صدرت له يروي فيليب روت حياة عميد جامعي سابق يدعى كويسان سيلك يتهم ظلماً بالعنصرية، فيقدم استقالته ويفقد مكانته العلمية ومنزلته الاجتماعية. وعقب فترة احباط، يقرر ان يناضل من اجل استرجاع ما فقده، غير أن زوجته تتخلى عنه، مع ذلك يواصل جهوده من أجل رفع المظلمة التي كان ضحيتها، وشيئاً فشيئاً تتكشف لنا شخصيته.

فهو من والدين زنجيين، لكن ببشرة بيضاء، وهو ظل دائماً حريصاً على اخفاء ذلك بهدف الوصول بأكثر سرعة، وبأكثر سهولة إلى الطبقات العليا في المجتمع الأمريكي. وفي روايته يتطرق فيليب روت إلى العنف والجنس، وإلى حرب فيتنام الحاضرة دائماً في الوعي وفي اللاوعي الأمريكي، وإلى قضية الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون مع مونيكا لوفينسكي. وعن هذه القضية يقول فيليب روت: «لقد شغلت هذه القضية المجتمع الأمريكي بكامله حتى أصبح الناس بجميع فئاتهم وشرائحهم وانتماءاتهم لا يتحدثون إلا عنها. لذا كان من الصعب عليّ أن أهملها وأنا أكتب روايتي، فأنا أيضاً كنت مشغولاً بها، مشغولاً ليس بالعلاقة الجنسية بين بيل كلينتون ومونيكا لوفينسكي، إنما بالجو الأخلاقي الذي أثارته والذي لم يكن محتملاً في نظري. وفي أوروبا كان الناس يقولون: إن الولايات المتحدة الأمريكية تعود إلى الطهرانية، وهذا خطأ، انظروا إلى الفتيات في الشوارع، وتأملوا في لباسهن، وسوف تدركون أن أمريكا لا تريد الطهرانية ولا ترغب بها، انها بلد الحرية المتوحشة».

ويضيف فيليب روت قائلا عن نفس القضية: «ما هو صادم في هذه القضية هو استغلال وسائل الإعلام لسخط الناس، فلقد كانت العناوين الأولى في كبريات الصحف وفي النشرات الإخبارية التلفزيونية تركز اهتمامها على هذه القضية، معنى ذلك انه كان هناك سيل من التفاهات يندلق على رؤوس الملايين من الناس على مدار الأربع وعشرين ساعة».

وعن حياته الخاصة، يقول فيليب روت: «أعيش في قرية صغيرة على بعد ساعتين فقط من نيويورك، بالقرب مني فلاحون يربون أبقاراً ودواباً وحيوانات أخرى، وأنا أحب الريف وأحب العيش فيه، أحياناً امضي ساعات وحدي متمشياً في الدروب مستمتعاً بالهدوء وبالهواء النقي، وعندي الوقت الكافي لكي أعمل بدون أن يزعجني أحد».

وتحدث فيليب روت عن احداث 11 سبتمبر 2001، قائلا: «كنت في نيويورك يوم ارتطمت الطائرتان بالبرجين، كنت أسبح في ناد رياضي خاص أذهب إليه بين وقت وآخر. واعتقد انه لا أحد فهم ما حدث في الحين، كنا نرى صوراً مرعبة على شاشة التلفزيون، لكننا لم نقدر حجم المأساة. وأنا نفسي شاهدت تلك الصور، ثم عدت إلى المسبح لأواصل رياضتي المحبّبة، ثم خرجت إلى الشارع ورأيت المدينة كلها في حركة غير عادية على الاطلاق، لم تكن هناك سيارات، وكانت حركة المرور شبه منقطعة، وكان الناس يمشون لكنهم لم يكونوا يركضون ولا يصرخون. رأيت بضعة نساء يبكين، دخلت مقاهي محاولاً أن أفهم ما حدث بالضبط وأنا التقط المزيد من الأخبار، لقد كانت ساعات عسيرة للغاية، وحتى الآن، وربما حتى النهاية، ستظل راسخة في ذاكرتي».

* غورديمير وأوجاع أفريقيا الجنوبية

* حتى بعد زوال سياسة التمييز العنصري التي عاشتها جنوب افريقيا، لا تزال الروائية نادين غورديمير الحائزة جائزة نوبل للآداب لعام 1991، تسائل الماضي، باحثة فيه عن الجراح القديمة التي أوجعت سكان البلد الأصليين، أي السود. وفي رواياتها صورت ببراعة فنية عالية الحياة الجهنمية اليومية التي كان يعيشها هؤلاء بسبب الكراهية العنصرية.

والآن هي تواصل الحفر في الماضي البشع، ذلك ان «الشياطين» التي اقترفت الجرائم العنصرية البشعة لا تزال تبحث عن الفرصة السانحة لكي تعود إلى المشهد العام مجدداً. وتقول نادين غورديمير: «هناك مواضيع كثيرة تتصل بالواقع الجديد لافريقيا الجنوبية، مثلا ظهور البورجوازية السوداء، وموقف البيض من بروز أطباء ومحامين من السكان الاصليين، والعلاقات الجديدة بين مختلف الفئات الاجتماعية، وأنا أعتقد أن الواقع السياسي هو الذي يحدد عملي الأدبي ويؤثر فيه كثيراً. والشخصيات التي اختارها عادة ما تكون متأثرة بهذا الواقع، وأظن أن الكاتب لا يكون مفيداً إلا إذا تجاوز الواقع الاجتماعي والاقتصادي لبلاده، ذلك أن مهمته هي التعبير عن الحقائق المخفية».

وفي روايتها الجديدة «العاشق المؤقت»، تواصل نادين غورديمير استكشاف الحدود الضيقة بين المرئي واللامرئي، وبين الخاص والعام، وبين المشاعر الحميمة وغليان مجتمع لا يزال مريضاً بماضيه. وتنتسب جولي، البطلة الرئيسية للرواية إلى البورجوازية البيضاء في جوهانسبرغ، لكنها تتمرد على هذه الطبقة، وتعشق شابا يدعى عبدو، وهو مهاجر سري قدم من احدى البلدان الإسلامية، التي تعاني من التطرف الأصولي، ويكون الحب عاصفاً بين العشيقين في البداية، غير أن ناره تخمد شيئاً فشيئاً، ذلك أن جولي تحلم بالمطلق، أما عبدو فيرغب في أن يكون شبيهاً بأولئك السود الذين تمكنوا من ارتقاء السلم الاجتماعي.