بيروت تتمرّد على غادة السمان

«سهرة تنكرية للموتى» محاولة للفضفضة والبوح والنقد أكثر مما هي رواية مشغولة بروح تحليلية

TT

من يقرأ الرواية الجديدة لغادة السمان «سهرة تنكرية للموتى» وهو على معرفة وثيقة بكتاباتها، على مدى العقود الاربعة الماضية، لا بد ان يطرح على نفسه الاسئلة التالية: ترى هل ادمنت غادة السمان الكتابة عن بيروت؟ ثم انها بعد هذه الغيبة الطويلة، في باريس، اما كان الاجدر بها ان تكتب عن تجربتها هناك؟ وهل كانت تكفي الكاتبة اقامة ذات نكهة سياحية في لبنان لتسطر رواية جديدة عن مرحلة ما بعد الحرب؟ وما الفرق الجوهري الذي عبرت عنه غادة السمان في الرواية الجديدة، لم تكن قد ضمنته روايتها الاستشرافية الجميلة «بيروت 75»، التي تنبأت من خلالها بالحرب والخراب قبل اندلاع الشرارة الاولى للانفجار الاهلي المقيت، بأشهر قليلة؟

ففي ختام رواية «بيروت 75» حملت بطلة غادة السمان لافتة كتب عليها «مستشفى المجانين» ووضعتها على مدخل المدينة وانفجرت ضاحكة وكأن حالة هستيرية قد تلبّستها، وهي التي كانت قد تركت بلادها وأتت بيروت مملوءة بالاحلام. وبعد ربع قرن من كتابها هذا تقول غادة السمان في نهاية «سهرة تنكرية للموتى» الشيء نفسه بطريقة اخرى اذ ان بطلها فواز، المهاجر اللبناني يغادر بيروت، بعد زيارة قصيرة، وهو غير متأكد ان الحرب قد انتهت، او انها بدأت من جديد عشية الالفية الثالثة. ففواز «لم يعد يدري كيف يميز بين الحقيقة والكابوس، بعدما صارت الحقيقة كابوساً». اذ ان كل ما رآه المغترب في بيروت يشي بالجنون ولو كان دافئاً وحنوناً.

والقارئ للروايتين وبمقارنة سريعة بينهما سيقول في سرّه، صحيح ان بيروت قبل الحرب وبعدها ما تزال مهووسة ومتناقضة وغرائبية وسريالية ومحيرة ومجنونة، كما تعبّر عن ذلك غادة السمان، لكن البقاء عند هذا المستوى من التعميمات يعمي عن رؤية تغيرات جذرية وعميقة طرأت على المجتمع اللبناني في ربع القرن الفاصل بين الروايتين. ومع ذلك لم تتمكن الكاتبة من التقاط خيوط انقلابية شديدة الاهمية، مكتفية بالتركيز، من جديد، على التفاوت الطبقي المدمر، وعلاقة الرجال المحمومة والحميمية بالنساء لمحض كونهن نساء فاتنات، وكذلك الطمع والفساد والانحدار الاخلاقي، واستغلال ذوي النفوذ للكائنات البشرية الفقيرة. وانتهاء كل ذلك الى القتل والدمار والخراب او الهروب في احسن الحالات. واذا كانت الرواية الجديدة تشير بذكاء الى ورطة المهاجرين اللبنانيين الذين يصبحون بفعل الغياب غرباء عن الوطن وغرباء في مهاجرهم، وضائعين بين مجتمعين، لا يجدون سكينتهم في اي منهما، فإن التلميح المتكرر في الرواية الى رغبة اللبنانيين الجماعية الى الهجرة ووقوفهم امام ابواب السفارات الاجنبية ينذر بجيل جديد مهدد بالتيه. لكن هذا كله تحيكه غادة السمان في قالب مفبرك غير محكم، يحتاج الى شدّ وضغط لاخراج الحكاية من ورطتها المصابة بها في المبنى والمعنى. إذ ان الرواية تبدأ في مطار شارل ديغول الباريسي حيث يجتمع على مشارف القرن الحادي والعشرين سبعة من المغتربين والمغتربات اللبنانيين الذاهبين في اجازة الى بيروت ومعهم طبيبة فرنسية.

لكن هذه الذريعة الروائية التي جمعت المغتربين واوصلتهم الى بيروت ستفقد قوة دفعها حين تحط الطائرة على ارض الوطن ويذهب كل منهم ليواجه المدينة بطريقته. وهنا يشعر القارئ ان الرواية، هي اشبه بمجموعة قصص قصيرة متوازية، وغير مترابطة تماماً، تحكي كل منها، من خلال شخص او اثنين، تلك العلاقة الملتبسة، شديدة التعقيد بين المهاجر اللبناني العائد وعاصمته. وهي صلات ذات طابع درامي، متوتر، مشوبة، في بعض الاحيان، بالعنف والفساد والارتباك او اللافهم والضياع، أي انها علاقة غير سوية تنتهي الى جريمة يرتكبها المهاجر او ترتكب بحقه او تودي به الى هرب/ هجرة رغم احاسيس الحنين والحب والشوق ناحية بيروت.

فواز الذي ذهب صغيراً الى باريس، عائد لبيع بيت العائلة والاستفادة من المال لتأسيس شركته الخاصة، لا سيما ان والده قد مات، ووالدته نفضت يدها من الوطن. وهكذا يعود فواز الى لبنان ليقطع آخر صلة له به.

لكن الظروف تشاء غير ذلك، ويبدو حب فواز لسميرة (وكأنما هي بيروت في صورة امرأة) الشابة الجديدة التي ترفض ان تلحق برجلها الى آخر الدنيا، هو الزلزال الذي سيعيده الى مفترق الاسئلة الصعبة. ومثل فواز هي دانا الشابة العائدة برفقة والدتها سلمى الى ارض الوطن، البنت تبحث عن مستثمر او وكيل لشركة الكومبيوتر التي تعمل بها الام تريد رؤية الاهل والاحباب لكنها في النهاية، تعثر على الحب الذي يعوضها موت زوجها وجفاء بناتها، اما دانا فتقع في فخ وحش يعتدي عليها بدل ان تعثر على الشريك المطلوب. اما الطبيبة الفرنسية صديقة دانا، «غير اللبنانية» الوحيدة بين ابطال الرواية ،فستجد في بيروت جانباً من الف ليلة وليلة وتكتشف الغنى الانساني لفقراء المنازل الصغيرة. وبين اغنياء لبنان وفقرائه، تتمتع السيدة الشقراء وهي تتحمر تحت اشعة الشمس، بفسحة مزلزلة من الحب والتسامح والعطاء وتطرد من رأسها والى الابد، خلفيات كانت تشاهدها على التلفزيون من صور لقتل وخطف وقصف ودمار.

وبين المغتربين، هناك الكاتبة ماريا الآتية لتفقد بيتها ومكتبتها فاذا بها تفاجأ بأبطال رواياتها الذين كبروا بغيابها وما عادت قادرة على السيطرة عليهم. وبين اللبنانيين العائدين في اجازة عبد الكريم الخوالقي الذي له اسم نجل رئيس وزراء جمهورية «قهرستان» لذلك فهو لا يتوانى عن انتحال شخصيته ولو أودى به ذلك الى التهلكة. وهناك كذلك ناجي الذي ضيع بوصلته ولم يحصد من الغربة سوى البرد والقهر واجر صغير من عمله كنادل في مطعم باريسي، وهو بوصوله الى لبنان، وقبل ان يذهب الى قريته الوادعة وعائلته المتواضعة يلتقي بنصاب يغريه بالعمل معه لجني اكبر مبلغ من المال في اقصر وقت ممكن.

هكذا يجد كل من المغتربين العائدين نفسه منساقاً الى طريق ما، وهي طرق تشكل في النهاية صورة بيروت المعلقة بين الحقيقة والوهم، الحب والبغض، البذخ والعوز

لكن المشكلة ان عرض قصة كل واحد من هؤلاء بالطريقة التي تقترحها غادة السمان، يبقي كلاّ منهم يعوم على سطح الحكاية. وتراوح الكتابة مكانها وكأنما هي تقف عند كليشيهات معروفة، وظواهر تحتاج الى تسجيل بقدر ما تحتاج الى معالجة في العمق مثل ظاهرة البذخ والترف او النفاق او الحلم بالهجرة من اجل الهجرة.

لقد حاولت غادة السمان ان تكتب انطباعاتها عن مجتمع غادرته وعادت اليه لتراه بعينين مختلفتين، معتمدة المقارنة مع مجتمع غربي، واستفادت من الشخصيات لتقول على السنتها ما تفكر به، لكنها ربما اخطأت حين ظنت انها ترى ما لا يراه الآخرون. وان انطباعاتها وحدها كافية لان تقيم بناء رواية. فالمسح الوصفي الذي اتبعته في «سهرة تنكرية للموتى» يجعل من هذا النص محاولة للفضفضة والبوح والنقد بما يدور ويجول في خاطر الكاتبة اكثر مما هو رواية مشغولة بروح تحليلية كشفية تشريحية.

ان رشاقة الاسلوب المعهودة لغادة السمان وغنى الصور، وحرارة الحرف لم تكن جميعها كافية لانقاذ الرواية من التكرار والاستطرادات، والاسهاب في وصفية لم تحفر في الاعماق بالقدر الذي يشتهيه القارئ.

ولعل غادة السمان التي كانت قد كتبت اروع النصوص عن بيروت سلماً وحرباً وسجلت في كتابها «كوابيس بيروت» بعضاً من اروع ما كتب عن مآسي الحرب، وقعت هي هذه المرة في شرك المدينة بأسرارها وخفاياها وتناقضاتها. وعلى قدر ثقة غادة السمان بمعرفة بيروت في روايتها الاخيرة، يبدو ان هذه المدينة/ مدينتها خانتها وتسربت من بين اصابعها.