اتجاهات متناقضة في الشعر السياسي العراقي

سخر الشعراء من الوزراء والنواب ورجال السياسة لأن الشعر كان صدى لمعاناة العراقي النفسية وأحاسيسه

TT

لا بد من القول ان مسرى الأدب الحديث في العراق يختلف عن مسراه في الوطن العربي، لأن الاحداث الكثيرة في العراق صبغت الشعر بطابع خاص في فتراته المتعددة.

ان بعض من تصدى لدراسة الادب الحديث يخلط بين الادب المعاصر والادب الحديث، بل وجدت بعضهم يخلطه مع أدب القرن التاسع عشر، ولا يعرف الاختلافات الجذرية بين أدب العراق والادب في الوطن العربي.

الادب العربي الحديث في العراق بدأ بصورة ظاهرة بعد الحرب العالمية الاولى (1914 ـ 1918)، وتجلى بعد ان دخل الانكليز في العراق واثروا في الحياة الاجتماعية والفكرية، اما الادب المعاصر فيمكن ان نعد الحرب العالمية الثانية من ابرز اسبابه ودوافعه بعد ان كثرت الترجمة وسهلت المواصلات والاتصال بالغرب ودرس فيه بعض الكتاب وكثر وصول الجرائد العربية والمطبوعات الشعرية والسفرات الى خارج العراق.

كان الفكر الديني هو المسيطر على الادباء، لأنهم درسوا الادب العربي مع الفقه الاسلامي في المساجد والمدارس ودور العلم الحديثة. ان وصول الفكر الغربي الذي بدأ رويدا بعد الحرب الاولى وتجلى بعد الحرب الثانية، اثر كثيرا في ثقافة الشاعر والمثقف والاديب والمتعلم وطلاب العلم. وبدأت تظهر الشخصية الادبية بتيار جديد وتطور سمي بالادب العصري. وقد اخرج روفائيل بطي كتابه «الادب العصري» ليساير التيار الجديد.

واخذ الادباء يطلعون على الادب العربي في مصر ويقرأون النقاش الدائر بين الجديد والقديم، فقد احس المثقف بضرورة التحرر والثورة على القديم فأخذ يقرأ ويناقش الافكار الجديدة لتوسيع آفاق المعرفة امامه ولسبر اغوار مشكلات أمته. وكان للاستعمار فوائد انه ايقظ الشعب بشدة وبعنف وأخذ المثقف يتحدى ويثور ويأخذ بالجديد متأثرا بدعوات الاصلاح التي بدأها جمال الدين الافغاني ومحمد رشيد رضا ومحمد عبده وشكيب ارسلان وشبلي شميل، فكانت المعارك الفكرية نتاج الآراء يقرأها في مصر فنجد العراق يحتفي بشوقي وحافظ والرافعي فالمنفلوطي والسيد. وقد وقف المفكر العراقي موقفين من هجوم جماعة الديوان من أحمد شوقي وتأثر بالمناقشات التي كانت تجري بين طه حسين والرافعي وكان هناك من ينتصر للاستاذ لطفي السيد ضد العقاد ومن يدافع عن هيكل ويقرأون السياسة والهلال والمقتطف، وبذلك تسربت اسماء كتاب الغرب وفلاسفته في ادب المثقف، فذكر ولز وشو وديكارت ودارون ومونتسكيو وتولستوي ودانتي وباسكال واناتول فرانس وجيمس جويس وجارلس ديكنز واديسون ورايت في المجلات العراقية وعلى اقلام الكتاب. واصبحت كلمة تمدن ومدنية ومتمدن شعارات يرفعها حتى من لم يعرف معناها حتى قال الرصافي ساخرا من دعاة المدنية:.

وكم مدع فضل التمدن ما له ـ من الفضل الا أكله بالملاعق

* اما اهم مظاهر التجديد في الشعر فقد كانت الخروج عن الالفاظ الطنانة والاساليب البلاغية المعقدة الى ساحة المعاني وسعة الخيال، لأن الالفاظ القديمة لم تكن قادرة على وصف الاحداث والآراء والمخترعات التي طرأت على الفكر العربي الحديث، فقد خرج الى مشكلات الانسانية وقضايا العالم وترك القوقعة الفكرية والاقليمية بما وردت من آراء في الاعلام المصري وأدب المهاجر في امريكا.

وازدهر الشعر السياسي في العراق لأن السياسة لها صلة عميقة بالحياة العراقية لذلك اهتم بها اهتماما كبيرا، وقد بثت السياسة في الشعر العربي مختلف الاحاسيس وتناقض الآراء التي كانت تطرأ من الانقلابات والتغيرات في العراق. والشعب العراقي عاطفي عميق الاحساس، مرهف النفس، شديد التأثر والتقلب النفسي بما يسمع او يقرأ، فهو الذي ورث ثقافات اليونان والرومان والفرس ثم جاء الاسلام، وكثرة الحوادث خلقت منه اناني الطبع، فردي الشخصية، فهو يحمل الفكر السامي والفكر الآري من جراء وصول الشرق والغرب الى دياره.

ان ذكاء العراقي دعاه الى التحليل والمقارنة والمناقشة، فلا يرضى عن حاكم او ينضوي تحت راية سلطان. والسياسة من اهم ما اهتم به هذا العراقي التي لا تتماشى دائما مع طموحه ووجود الحاكم المثالي، لذلك كان شديد السخرية بالوزارة والوزراء وقال ساخرا من ارشد العمري عندما عين رئيسا للوزارة:.

قالوا الوزارة ألفت ـ برياسة العمري ارشد.

فاستقبل الشعب الوزير ـ بالصلاة على محمد

* كره العراقي رجال الحكم والسلطة فقد كانت تأتي وتذهب دون استشارته، فكيف اذا كان في السلطة اخوان يديرون دفة الامور وليس له الا الدعاء والرجاء من الله ان يخلصه من السلطة:.

قالوا وزارتكم «ياسين» يرأسها ـ وقائد الجيش «طه» في الميادين.

فيا رب طه وياسين بحقهما ـ خلص عبادك من طه وياسين.

ولأن الساسة يتزاحمون على الوزارة حبا بالسلطة والمال والجاه قال الشاعر محمد جواد السهلائي:.

سقطت وزارتنا وشكل غيرها ـ لا خير في الاولى ولا في الثانيه.

الرأس فيها الباجه جي وكلهم ـ يتنازعون على كراع الماشيه

* ومن يقرأ الشعر العراقي في هذه الفترة يجد سخرية الشعراء من الوزراء والنواب ورجال السياسة، لأن الشعر السياسي في العراق كان صدى لمعاناة العراقي النفسية المرهفة واحاسيسه المتدفقة، وتجد في شعره كل الصفات الانسانية من حب وحقد ونبل وغدر لعمق تجاربه الذاتية المؤلمة، لذلك ظهرت التناقضات على الشعر، وهي صدى تناقض الاحساس الداخلي الذي كلسته الايام والقرون في اللاشعور الباطني الذي رقدت فيه حضارات الاشوريين والبابليين والهند وفارس واليونان والرومان واخيرا الاسلام.

اتهم العراقي وقت حركة مايس بالنازية، والواقع ان الحركة لم تكن نازية ولكن تعاطف العراقي مع حركة هتلر كان تعبيرا عن مدى بغض العراقي لأعمال الانكليز في العراق والوطن العربي ولا سيما فلسطين وسورية لأن «عدو عدوي صديقي».

وبالفعل قام الالمان بمساعدة العراق بالطائرات والعتاد، لكن هذه المساعدة جاءت متأخرة اولا ولحماسة العقداء في الحرب اضاعوا اغتنام الوقت والاستفادة منه، ولو ان المساعدة جاءت مبكرة لتغير مجرى الاحداث او قد تطول الحرب وبخاصة ان العقداء ومن معهم لم يكونوا قد خططوا تخطيطا سليما وتركوا البلاد دون قيادة، وللاسف اصابوا الشعب بالخيبة برغم الاعجاب بهم.

* إعادة الدراسة

* قلت ان تاريخ العراق ليس امرا سهلا فقد شابته شوائب كثيرة، فيجب كتابته في ضوء مذكرات المسؤولين ودراسة الوثائق التي ظهرت في دار الوثائق البريطانية لاننا كنا نحمل كرها عميقا للساسة ولا سيما نوري السعيد والامير عبد الاله وبذلك ما كنا نريد ان نسمع عنها الا المساوئ وقد ابتعد الجيل حتى عن التعرف عليهم، فقد تحدث عطا عبد الوهاب عن هذا الكره الذي ولده في النفوس، اليساريون والقوميون والحاقدون، فقال عن الموقف السلبي وكراهية رجال الحكم:

«لم يكن موقفي هذا وليد الساعة، بل كنا قد تشربنا به منذ نعومة اظفارنا حتى ادى بنا الغلواء في مطلع الشباب الى تحريم العلاقات الخاصة مع رجال الدولة.. واذا وجدت هذه العلاقة فهو انحراف.. كنا قد تمسكنا بهذا الموقف تمسكا اعمى نتأثر بوعي او بدون وعي.. وتغليب العاطفة على الرغبة في التمرد على كل ما هو سائد.. ولعلنا كنا في كل هذا نقع فريسة سهلة ومواتية لفئات ظهر انها كانت تظهر خلاف ما تبطنه حتى ادى الى بث التطرف في نفوسنا واتخذت من سلامة طويتنا سلاحا في معاركها الخفية والمعلنة ضد كل ما هو قائم في الدولة والمجتمع معا».

انه رأي كل مثقف في فترة الحكم الملكي قاله بصدق وبندم حيث لا ينفع الندم، فقد كنا جميعا على رأي الاستاذ عطا فلا نصدق الا ما قيل في السوء فإذا بني سد قلنا انه مطار للطائرات المائية الانكليزية، واذا بنيت مدرسة قلنا انها ثكنة عسكرية للانكليز، واذا عبدت الطرق قلنا انها لمسيرة السيارات الانكليزية.. للاسف هذا هو العراقي ما دام يكره فهو يغير الحقائق ويزيد عليها من خياله.

فقد اتهمنا نوري السعيد بأنه وراء الاعتقالات بعد معركة مايس وكل القضايا الاخرى، فقد قال خليل ابراهيم «اود هنا ان اؤكد لك بأن نوري السعيد تحمل وزر الاعتقالات والسجون منذ حركة رشيد عالي الى ما بعد انتهاء الحرب ولم يكن له فيها يد وانما كان مغلوبا على امره، فقد حكم العراق في هذه الفترة الزعيم «استن» كبير ضباط المخابرات البريطانية واعوانه العراقيون المعروفون وكنت على علم تام بالمساعدات التي كان يرسلها الى بعض عوائل المعتقلين المحتاجين».

وقد طوى رجال الحكم صفحة عن حركة مايس ولم يعاقبوا اسرهم او اقرباءهم، بل اعيد بعضهم الى الوزارة وأعيد جميع المعتقلين الى وظائفهم وحسبت لهم مدة السجن للترقية والترفيع ونجا كبار المعارضين من الاذى والسجن مثل معروف الرصافي وفهمي المدرس وعبد الغفور البدري ومحمد مهدي الجواهري. وعندما كان يجيء ذكر العقداء وهم الذين كانوا سببا مباشرا لاعلان الحرب وهروب الوصي والاساءة اليه فما كان عبد الاله يذكرهم بسوء، فقد قال عطا عبد الوهاب «انه لم يكن يذكر القادة العقداء الاربعة بسوء ولا الساسة الذين كانوا معهم ويقول انهم ركبوا رؤوسهم وطاشوا بغرورهم ولم يقدروا الاوضاع تقديرا حسنا».

وكان بود الشعب العراقي العفو عنهم وان لا يلج في عدائه ويعلق صلاح الدين الصباغ امام وزارة الدفاع فما نسيها الشعب العراقي وعلق في المكان نفسه، ولعل هذا العمل هو الذي اثار الكراهية له حتى ظهرت في 14 تموز.

وقد كان نوري السعيد لا يذكرهم ورفض نعت رشيد عالي بالخيانة عندما سأله خليل ابراهيم «هل كان رشيد عالي خائنا» فلم يجبه فقال محدثه «فعلمت بأن الرجل يضع يده على ضميره حين يتكلم ولا يلقي الكلام مجازفة مع علمه ما جرّت تلك الحركة من ويلات على البلاد».

والغريب ان نوري السعيد والوزراء وغيرهم من رجال السياسة لم يبذلوا جهدا كبيرا في تخليص هؤلاء من الاعدام، وظني ان الانكليز هم الذين ضغطوا على العراق لأن من مطالب الانكليز كان القضاء على القادة. وخسرت الحرب وعاد عبد الاله الى الحكم ولكن بالسطوة البريطانية التي يكرهها الشعب العراقي كراهية عميقة، وان اخفقت الحركة الا ان اثرها ظل في لاشعور اهل العراق مما زاد بغضهم للامير عبد الاله ونوري السعيد، فقد كنا نكرههما كراهية عميقة ولو انهما فهما شعور الشعب العراقي العميق وعرفا ما يكن هذا الشعب لاستفادا فائدة كبيرة ولربما طالت حياة الملكية في العراق، وليس هما الملومين انما جميع وزراء الدولة ساهموا بحب الذات والمصلحة الفردية في تهديم الكيان العراقي، فقد منعوا ابناء الشعب من الدخول في الحلقة السياسية التي كانوا يدورون في داخلها بالرغم من ظهور قابليات ممتازة جديدة في الساحة العامة. ان العراقي يكره الحكم بطبعه وقد بقي هؤلاء اربعين سنة دون ادراك هذه الحقيقة وادخال عناصر جديدة في الحكم.

القضية الثانية وهي المهمة، عدم اخلاص رجال الحكم وعلى رأسهم الجيش وكان طموحهم الكبير في الوصول الى الحكم في الانقلابات المتوالية وآخر انقلاب 14 تموز دون وضع خطط لبناء جديد، هدموا دون ان يبنوا.

ولعل اختلاف رجال السياسة في العراق وتكالبهم على السلطة دعاهم الى التساهل والليونة مع اصحاب النزوات ومراهقي الفكر السياسي ومع الجيش بصورة خاصة، فظهر عدم الاخلاص. فقد كان عبد الاله يرفض اي شيء يسيء الى الجيش وما كان يسمع ما كان يقال عنه، فقد اغلظ القول لمدير الامن عندما اخبره بوجود تآمر في الجيش ضده. وكان نوري السعيد لا يروق له لعب الطاولي الا مع عبد الكريم قاسم ولما علم ما يخطط له الجيش عاتب عبد الكريم قاسم فأنكر اي شيء ضده، وكان الامير عبد الاله يريد ان يعين رفيق عارف وزيرا وكان هذا يخفي المعلومات عنه. وقد تحدث الاستاذ عطا عبد الوهاب عن ملحق بالسفارة العراقية في واشنطن قد فقأ عيني صورة عبد الاله ومزقت الصورة وديست بالاقدام فلم يعاقبه وانما نقله الى طهران ولم يكن الامير تجاهه شيئا وقال ان تصرفه من اعمال الصبيان.

وقد انقلب الجيش عليه وهو الذي اقسم اليمين لحمايته والدفاع عنه. ولا اعرف كيف اعلل تصرفات العراقيين.

قال عطا عبد الوهاب وقد ذهب مع الامير دون مرافق وكان الامير يسوق السيارة واذا بسيارة اجرة تحمل عددا من النساء ولما عرفن الامير اخذن يزغردن والسائق يتمهل عنا ثم يسرع ليسبقنا والزغاريد تتعالى فرحا بالامير. ولما اعلنت خطوبة الملك خرجت جموع الشعب في هتافات وزغاريد واهازيج دوت بها سماء بغداد واندفعوا يحاولون رفع سيارة الملك على الاكتاف. فكانت مجزرة الرحاب التي ابى فيها عبد الاله اطلاق النار حتى لا يسقط القتلى فقتله الجيش الذي كان يحبه، فقال عطا عبد الوهاب كان الامير «يحب الجيش وتربطه صلات وثيقة بأبرز رجاله وقد ساهم في بنائه ويريد ان يستمر بالاشراف على تطويره وتسليحه واعلاء شأنه».

ان مشكلة الشعب العراقي ليست سهلة التحليل فهذا هو منذ ان قدم بنو حنيفة المرتدة الى العراق واختلطوا بأمم شتى وافكار متضاربة، ولن تقوم له قائمة الا اذا تروى وحسب للامور حسابها، وستبقى المأساة ما بقي اهل العراق في اندفاعهم العاطفي، لانهم ابناء العاطفة الجامحة والتطرف وسذاجة الطوية.