ذاكرة جماعية لبنانية في دوامة العنف

«حرب ع البلكون» لعمر رافع تطرح أسئلة موجعة عن الحرب غير المنتهية

TT

يحفر «حرب ع البلكون»، العمل الفني الراقص ،الذي عرض أخيراً على خشبة «مسرح مونو» في بيروت، بإخراج عمر رافع، في الذاكرة الجماعية ليطل منها على هواجس اللبنانيين بكافة اجيالهم وشرائحهم وطوائفهم واحزابهم، وكأن المسرحية تسعى الى كشف حالة كمون هذا المجتمع في دوامة العنف، لتؤكد استحالة خروجه منها بعد مرور اكثر من اثني عشر عاماً على اخماد صوت المعارك واعلان مسيرة السلم الاهلي.

العنف هو السمة الطاغية على مشاهد المسرحية، نتبينه في الايقاع والحركة واللون والضوء والسكون الاعتراضي،ونصطدم به في الجمل المبتورة والتمتمة والحشرجة مع غياب الحوار الا بنسبة ضئيلة وكافية لتفهم الرسالة. وكأن الغرض الذي رمى اليه رافع هو اظهار عجز مجتمع ما بعد الحرب على التواصل من خلال الحوار. وما ينطق به هذا المجتمع ما هو الا استعادة دائمة للحرب ولو من دون اسلحة، وعودة الى المعارك في الاداء اليومي ولو من دون وعي. ويصل الامر الى درجة الرعب، لا سيما حين تقول احدى الممثلات «كتير بتخوف هالمسرحية» او حين يرافق مشهد الجنازة صوت ممثلة اخرى تردد بهستيريا «الحق عليك» عشرات المرات لتقول بعد ذلك بانكسار «الحق علي».

الكوريغرافيا مقرونة بتعريف المسرحية، ولها دورها الفعال في بنية الاحداث. اما الحكاية كما يعرضها رافع فهي «مجموعة من الجرذان، تدخل الى مستودع للكتب والصحف المكدسة. وبعد ان تأكل كل الاخبار والافكار الموجودة في طياتها، يقرر احد الجرذان وهو حزبي سابق وصاحب نظرية الجرذ البروليتاري، ان يخرج فيلما سينمائياً يجمع فيه اخبار الحرب اللبنانية ومسرحية «روميو وجولييت» لشكسبير.

لكن الحكاية تضيع ويتبعثر الهدف، يتشظى لمصلحة الحرب التي تعود بثقلها الى الخشبة وتستولي على متن النص المسرحي، تحوله صوراً محكومة بسطوة العنف وعبثيته. وتكرس هذه الصور تقنيات مدروسة، ابرزها السينوغرافيا التي وقعها نديم دعيبس المشارك ايضاً في تصميم الاضاءة مع سامر يحى. ويوضح دعيبس ان «المسرح المطلي بالابيض الوهاج لا يرمي الى السلام، كما هي دلالة اللون التقليدية والساذجة، وانما يستخدم من خلال الاضاءة القوية التي تقتحم النظر حتى الابهار ليصبح سلاحاً له دوره في الحبكة الدرامية، فهو يصنع الفضاء الشاسع للخشبة، ويكثف حركة احد عشر ممثلاً وممثلة، ويملك طاقة الانفجار او يتلون بالاحمر ليخلق اجواء النص».

ويبدو ان اختيار الابيض كان شركاً وقع فيه فريق عمل المسرحية، فالغاية كانت توظيفه بصفته لوناً حيادياً، لكن بعد عملية بحث في ابعاد الفكرة انساق الفريق مع اللون الى اقصى ما يمكن استخلاصه من تناقض يخدم فكرة العنف.

ولا يستغرب دعيبس توليد اللعبة الدرامية للمسرحية من الحرب، فالامر بديهي بالنسبة له ولرفاقه الشباب في عالم المسرح «لانهم ولدوا في الحرب، التي شكلت نواة اجواء اعادة اعمار البلد، وهي بالتالي نقطة الصفر. والفنان الذي يفترض به ان يبحث عن مواضيعه في مجتمعه لن يجد سوى هذه الحرب مكاناً للتعبير عن واقع الحال، وروح القرن في استمرار مظاهر الحرب ولو من دون دوي اسلحة، تنعكس واضحة من خلال معالجة هذا الموضوع في المسرحية».

والسينوغرافيا التي ابتكرها دعيبس لخدمة النص وشكلت خلفية المشاهد خير دليل على القرن المعجون بالسخرية، فهي صارخة بالموت لتصبح امتداداً للعنف مع الجماجم المكدسة والصور المأخوذة من الجولات الدموية التي عاشها اللبنانيون طوال 15 عاماً، واسترجعتها الكاميرا، كما استرجعت مجازر صبرا وشاتيلا، مع مقطع مرئي لحمار مثقل بأحماله ومشهد لانفجار القنبلة الذرية، ولا بأس في هذا السياق من استرجاع مشهد خطابي للزعيم النازي ادولف هتلر.

ولان الواقعية المرة تتحكم بمسار المسرحية وتقودها الى سخرية سوداء وصور تهكمية قاسية، لا يستطيع الشاهد الآتي من مرحلة ستينات القرن الماضي كبح تدفق العنف. إنه عاجز عن تغيير واقع الحال، مقعد منذ اطلالته على المسرح فوق كرسي متحرك، مع انه لا يشكو علة تحول دون تنقله على قدميه، وكأن المخرج عمر رافع باستعارته رمزاً من العصر الذهبي للمسرح اللبناني، اراد ان يبرهن ان هذا الزمن مشلول بمواجهته طغيان الحرب وتراكماتها التي ما زالت تتفاعل. ولا فائدة ترجى من الارث الفكري والايديولوجي لذلك التاريخ وكأن قروناً عدة تفصله عن الجيل الحالي العاجز بدوره عن العثور على ايديولوجيا جديدة تفي بحاجاته الفكرية.

القطيعة بين ما كان وما نحن فيه تتكرس مع تعاقب المشاهد وينخرط الشاهد «المنقذ» في لعبة العنف، يصير شريكاً فيها، يصير واحداً من قبيلة الجرذان المحكومة بلعبة الطوائف والاحزاب وقوى الامر الواقع التي تستثمر المجتمع اللبناني في حروبها المتواصلة والمتناسلة لمصالحها الخاصة.

ولا يوفر رافع وسيلة لترجمة رؤيته المتكاملة في المسرحية من خلال الكوريغرافيا والاخراج مع انه يحرص على الاشارة الى ان «المسرحية تحفل بالصور، ولكل صورة قصة هي ملك المشاهد وحده، ولا يمكن لاي مخرج ديكتاتوري ان يفرض عليه قصته».

لكن هذا الحرص اللفظي يتداعى خلال الديكور المدروس وتوجيه الممثلين، بحيث استطاعوا التنقل من الحركة العبثية الى اداء النص بكلاسيكية وتقنية واحتراف ليعودوا الى الحركة العبثية بانسجام لا يقوض مسار النص الدرامي.

الموسيقى تحكمت ايضاً بمسار السرد المسرحي لتشكل حلقة من حلقات التناغم المطلوبة، ولم يكتف المخرج بتوظيفها في ضبط ايقاع الممثلين ورقصهم، وانما شغّلها محركاً للغة الجسد المستخدم سلاحآً عنيفاً حيناً، ليصير في حين آخر كتلة مسلوبة الارادة يقودها العنف لترتطم باستحالة الخلاص، وتعود الى دوامتها بهذيان منسق.

ويبقى ان الملابس المصنوعة من مطاط واكياس نايلون، وبلاستيك بالوان الابيض والاسود والفضي ساهمت في تكامل المشهدية المسرحية.

وهكذا يقفل عمر راجع نصه في مسرحية «حرب ع البلكون» على اللاحوار واللالقاء، ليترك في الذاكرة الجماعية للمشاهدين مرارة السؤال: «هل ستنتهي الحرب يوماً في لبنان؟ والى اي مدى نحن شركاء في استمرارها؟».

=