الورداني: لم أعرف غير الطبقة الوسطى ولذلك أتناولها في أعمالي

الروائي المصري لـ«الشرق الأوسط»: أعمالي تطاردني دائما وليس لدي مطلقات أو ثوابت في الكتابة

TT

صدرت للروائي محمود الورداني حديثاً رواية جديدة بعنوان «القطاف» بعد عدة أعمال روائية منها «نوبة رجوع» و«السير في الحديقة ليلا» و«رائحة البرتقال». وهنا حوار معه يتحدث فيه عن تجربته كاتباً وصحافياً وسياسياً، وتداخل كل ذلك في فضاء الكتابة الروائية عنده. وهذا نص الحوار:

* ما الروافد الحياتية والمعرفية التي ساعدت في تشكيل وعيك الروائي؟

ـ أظن ان أول هذه الروافد هو موت الأب فقد مات وعمري حوالي عامين. كان موت الأب بالنسبة لي يعني انني لست طفلا، ولا أتذكر انني عشت طفولة حقيقية واضطررت للعمل في طفولتي عدة اعمال مثل عامل مطبعة، بائع ثلج وغيرها من الاعمال اثناء الاجازات الصيفية ذلك لان امي لم تتزوج وحاولت ان تقيم هذه الاسرة المكونة من ثلاثة اطفال على قدمين، هذا الرافد في تقديري مهم جدا وشهدت حواري شبرا انتقالنا المتواصل من سكن الى آخر بعد ان انهارت مواردنا.

الرافد الثاني: حدث وانا في سن العاشرة تقريبا عندما اضطرت امي للسماح لعائلة ابي، بمشاركتها في التربية وهكذا انتقلت الى مسكن عمتي وكان زوجها لديه مكتبة هامة جدا ومتنوعة، حيث تبدأ من الروايات البوليسية والعالمية في ترجمات رديئة ولا تنتهي عند الشوقيات، المهم ليس في أنني قرأت هذه الروايات والكتب بل المهم ان القراءة تحولت بالنسبة لي بديلا عن ابتعادي عن امي، كنت خلالها أقيم عالما في الخيال في مواجهة عالما اضطررت للانصياع له، وبعد ذلك عدت لامي بعد عدة سنوات والحقيقة انها منحتني واشقائي حرية مطلقة وهذا رافد آخر من الروافد التي شكلتني.

الرافد الذي يلي ذلك: علاقتي المبكرة بعشرات من الكتاب والأدباء. حقا كان شقيقي الذي يكبرني صديقا لهم وكانوا يأتون الى بيتنا الذي كان بلا مفتاح ويظل مفتوحا دائما.

في هذه الفترة بدأ اهتمامي بالسياسة. ففي ظل الاحتلال كان الهم السياسي مطروحا بقوة، وفي عام 72 شاركت في الاعتصام واعتقلت مع قرابة ألف من المعتقلين وأظن ان هذا رافد اخر وبعد خروجي شاركت في حرب 73 وكانت مهمتي بمجرد إنهاء الحرب هي دفن الشهداء وهذا رافد آخر، على مدى عدة سنوات عملت بالسياسة وأدين لهذه الفترة بالكثير وخاصة في فترات الاعتقال المختلفة وهكذا ترى ان الاحداث المباشرة كان لهما التأثير القوي، هذا لا يمنع انني طوال هذه السنوات كنت اتعامل مع القراءة باعتبارها عالما بديلا عن العالم الذي اعيشه.

* تحتشد روايتك الجديدة «أوان القطاف» بأصوات تعزز الفكرة المركزية التي تريد توصيلها وهي فكرة القتل، وبأسلوب قريب من التحقيق الصحافي. كيف ترى الامر؟

ـ بدأت كتابة هذه الرواية بقصة قصيرة منشورة اسمها «رأس» تابعت فيها رأساً يتم ذبحه عدة مرات. وكانت اهميتها بالنسبة لي التخلص التام من الافكار والانطباعات التي كنت حريصا عليها. والحقيقة انه لم تكن لدي أي فكرة مركزية، ولم يكن هدفي ادانة القمع، ولا التغني بالحرية. كل ما اردته هو الانصات لهذه الاصوات كلها على تنوعها واختلافها، فهي تشترك جميعا في أمر واحد اظن اننا جميعا نشترك فيه وهو تعرضنا المستمر واليومي للذبح ليس بالمعنى المجازي بل بالمعنى الحقيقي لاننا نعيش كابوسا طويلا. اكرر انني لم افكر طويلا قبل كتابة الرواية في ما انا مقدم عليه وتركت نفسي للمرة الاولى حرا تماما وتحليت بقدر من الشجاعة حيث استخدمت تقريبا ما عندي من اساليب السرد وتعدد الاحداث وغيرها من التقنيات وربما للمرة الاولى بالنسبة لي.

هذه الرواية كتبتني تقريبا ولم اكتبها ولم يكن أي من المعاني والمقولات التي تناولها عدد من النقاد قد وردت في ذهني أو خيالي على الاطلاق. ان الادانة الحقيقية للقمع مثلا يمكن ان تكتبها في جملة واحدة اما الرواية فأظنها امرا مختلفا.

* أعتقد أنك استفدت كثيراً من الصحافة في روايتك هذه بعد عشرين سنة من العمل في هذه المهنة.

ـ لا ادري ما اذا كنت قد نجحت في محاولاتي الدائمة للفصل بين عملي كصحافي وكتابتي كروائي. دائما انظر للصحافة باعتبارها احد المعوقات الاساسية فهي تستنفد الوقت والجهد والخيال ايضا وقد ظل هذا احد هواجسي الاساسية وهذه هي المرة الاولى التي تثار فيها مسألة علاقة الرواية بالتحقيق الصحافي، ولا اريد ان أوغل معك في جدل حول الفارق بين التحقيق والرواية التي كتبتها. لقد كان همي ان اتأمل هذه الحيوات والمصائر الانسانية التي وجدتني منخرطا في تأملها ومحاولة التعبير عنها. اظن ايضا ان التحقيق الصحافي لا يتناول ازمات مختلفة ولا يتضمن مثل هذه المعارضات والتوازيات والتناقضات المتناثرة على مدى صفحات الرواية. بشكل عام لا استطيع ان اقطع بأنني لم اتأثر بالصحافة، ومن المؤكد ان مئات من الصفحات وربما الالاف التي كتبتها قد اثرت على هذا النحو أو ذلك على إنتاجي الادبي. اما مسألة التحقيق الصحافي فهي حتى الان لم تبد مقنعة رغم وجاهتها.

* يبدو عالمك الروائي مرتبطاً دائماً بالطبقة الوسطى حتى الأحلام ووأدها مرتبطان بهذه الطبقة

ـ انا لم اعرف سوى الطبقة الوسطى ولذلك تجد تناولها مستمراً في كل اعمالي لكن من ناحية اخرى انتمي لجيل لم تصمد فيه فكرة واحدة أو معنى أو قضية.

في فترة كانت الثورة على الظلم والاستغلال تبدو امامي على مرمى حجر وتحركت من حلم الى حقيقة، اعمل على تيسيرها في الواقع وسقط هذا الحلم. نستطيع ان نقول ان الحلم بفلسطين في ايدي الفلسطينيين كان حلما تم وأده بسبب تعبير، لا اتذكر حلما واحدا حلمته على المستوى الشخصي أو على مستوى جيلي قد تحقق على العكس تماما فكل الاحلام الكبيرة والبسيطة تم وأدها ولانني اكتب دائما عن الطبقة الوسطى التي عرفتها فان من الطبيعي ان تتعرض كل الاحلام لكل الفقراء والمثقفين ألى احلام مجهضة.

* في طيور العنبر أدان ابراهيم عبد المجيد الشيوعيين بقوة، وفي اوان القطاف عظم محمود الورداني من دورهم وكأن دور الروائي إما المدح أو الادانة؟

ـ بغض النظر عن أنني احببت اعمالا كثيرة لابراهيم عبد المجيد ليس من بينها طيور العنبر التي اعتبرها ليست اهم اعماله إثارة لاهتمامي، بغض النظر عن هذا، فلا نستطع ان نتحدث عن اطلاقات بمعنى انه اذا كان قد أدان فريقا سياسيا وآخر امتدحه حسب تعبيرك فان هذا لا يدفعنا للخروج بمقولة نظرية.

كل رواية وكل عمل فني له خصوصيته وتفرده ولتقرأ ما كتبه مالرو في رواية «الامل» عن الحرب الاهلية الاسبانية وما كتبه هيمنجواي وجوركي. أن كل عمل له خصوصية وله طريقة تناول مختلفة. ليس هدف الكاتب تمجيد أو إدانة فريق سياسي بل تقديم التجربة مقنعة صادقة. الم يكن اليوت ملكيا في السياسة ورجعيا في آرائه المختلفة بل وكاثوليكيا وبنفس القدر، هل تعتبر ماركيز مجرد شخص أدان القمع والديكتاتورية كماى في «خريف البطريرك»، أم انه قدم تجربة كبرى وصادقة ايضا.

* الشخوص عند الروائي محمود الورداني شخوص حدية، ابيض او اسود، أليست هذه سمة من سمات الرومانسية؟

ـ ليست الرومانسية كلها شر على الرغم من أنني لا اظن انني رومانسي. في رواية مثل «الروض العاطر» على سبيل المثال، تأمل شخصية مثل اقبال بكري، ستجدها شخصية متعددة العلاقات وصادقة ايضا وعنيفة ورقيقة، الشخصيات الواردة في «طعم الحريق ستجدها تنطوي على كل التناقضات. وفي «أوان القطاع» ما هو الشيء الحدي في شخصية العائد؟

عدد من اصدقائي قالوا لي انهم احبوه على الرغم انه لم يكن سوى مغفل، لا أريد ان ادافع عن نفسي تماما ولكنني اتأمل معك فقط الشخصيات التي حاولت الكتابة عنها، ففي «رائحة البرتقال» المرأة التي تلوح احيانا للراوي هي فتاة صغيرة وأم وثورية وامرأة في كل واحد.

* بناء الرواية على فكرة مركزية ادى الى اقصاء الخيال رغم محاولتك الجادة اضفاء طابع فانتازي؟

ـ أود ان أؤكد أن ما أسميته الفكرة المركزية قد انبنت اثناء الكتابة وغيرها وربما تم اقتيادي اليها، وانا هنا لا انفيها ولكن فقط احاول اكتشافها. الخيال بمعنى المجاز في اللغة أو في السرد أمر لا اطيقه واعتبره ترهلا وتوشية وزخرفة. اما الخيال على النحو الذي تجده في شخصية الرجل الذي يغير رأسه فهو ما أميل اليه، وهو الخيال الذي اطمع فيه عموما.

* لماذا تخليت عن اللغة الواضحة، المستقيمة إن صح التعبير، وعدت مرة اخرى للغة الغنائية التي ظهرت مثلا في «السير في الحديقة ليلا»؟

ـ ليس هناك ثوابت أو مطلقات ترتبط بالكاتب ولكل اعماله بوضع ثابت، وان كانت هناك ملامح عامة يسعى الكاتب لإلغائها والاضافة اليها وحذف بعضها وان كنت ترى انني تخليت عن اللغة المحايدة فإنني اعتبر هذا امرا طيبا، فعندما تجبرني الرواية على أن اغير بعض ملامحي فمعنى هذا انني صادق وهو ما اعتبره المقياس الوحيد لتأثير هذه الرواية أو تلك.

ثم انت لا تقرر قبل الكتابة هذه اللغة أو تلك، احساسك الصادق هو الذي يقودك للتغير، قد اكتب عملا غنائيا تماما وقد اكتب كابوسا طويلا من الكوابيس الكثيرة التي اعيشها، وقد اكتب رواية جافة جدا وفقيرة في خيالها ولغتها المهم في كل الاحوال أن تكون صادقة ومقنعة.

* عودتك الى التراث القريب «أحمد عرابي في الروض العاطر» والتراث الاسلامي خلق حيوية داخل النص ولكن الملاحظ انك اعتمدت في استدعاء هذه الشخوص على الشائع المعرفي عنهم دون أي درجة من الاستبطان والخيال؟

ـ كلامك ينطوي على قدر كبير من الصحة لكنني، سواء احمد عرابي أو الحسين توفرت على كل ما كتب عنهم تقريبا، فقد عكفت على حوليات العصر الاسلامي وكتابات المؤرخين المعاصرين واللاحقين مباشرة وكذلك في ما يتعلق بأحمد عرابي الذي قرأت كل ما كتب عنه ونفس الامر بالنسبة لشهدي عطية الشافعي.

والمشكلة ليست في المادة بقدر ما هي كيفية التعامل مع هذه المادة، وكيفة غربلتها والتركيز حول هذا الجانب أو ذلك. وعلى سبيل المثال فإن ما لفت نظري هو ما أورده الصحافيون المعاصرون لضرب واحتلال الاسكندرية، وما واجهته به زوجات الضباط المعتقلين حرس الخديوي، أي إنني لم أستخدم كل المادة التاريخية ، بل ركزت على جوانب وتفاصيل تصورت أنها مهمة في السياق الروائي.

* ما الاسباب التي دعتك للتخلي عن الرواي المركزي لصالح تعدد الرواة، أو، في الحقيقة، وتهشيم البطل المركزي؟

ـ الجنون الذي يسود العالم هو السبب المباشر وراء كتابة الرواية على هذا النحو. وسأصارحك بأنني لا أميل لتأمل السرود المختلفة واللغات المختلفة والتقنيات المتعددة التي تنطوي عليها الاعمال التي تستوقفني. كما انني كثيرا ما اشعر بالملل من اغلب الكتب النثرية ذات الطابع الاكاديمي، وأحاول ان أفهم الامور من خلال الاعمال الادبية ذاتها، فلم يشغلني على الاطلاق اثناء الكتابة ان يكون الجزء الذي يتناول وقائع قتل شهدي عطية الشافعي على شكل اصوات شهود ورواة يتكلمون، فهو امر وجداني اكتبه هكذا دون تغير، وكذلك اللغة المثقلة قليلا في الاجزاء المكتوبة عن الحسين لم أقررها سلفا.

تشظي العالم والشخوص لم يكن مقررا سلفا ولذلك فإنني اضم صوتي الى صوتك وأؤكد باطمئنان ان تشظي العالم وجنونه وسيادة الظلم والاستقلال والقمع والاستغلال الذي يصل الى حد الذبح المادي وليس المعنوي في غوانتانامو وفلسطين أو البوسنة أو العراق وكشمير والشيشان أو في أي مكان في العالم.

لا أعرف ما اذا كانت هذه المقولة صحيحة اصلا، ولا أعرف اذا كان التراث والتعامل معه يعتبر ضروريا في كل الاحوال. جزء أساسي من مسؤولية الكاتب عن الكتابة وعن وجوده ذاته يكمن في ضرورة معرفته بالتراث وتلك امور بديهية. واذا لم يقرأ الكاتب تراثه وتراث الانسانية فماذا يقرأ اذن وكيف يشكل وعيه؟

اننا نعيش هزيمة كبرى ممتدة منذ منتصف الستينيات وحتى الآن على كل الاصعدة والجبهات. فهل يقتضي هذا ان ننزل التراث من أرففه في المكتبات وقد هاله الغبار ونبحث عن الصفحات التي تشير الى اننا «خير أمة اخرجت للناس». يبدو لي ان طرح المسائل على هذا النحو مغلوط تماما، فالتراث ليس أداة تسخرها في بعض الاوقات ولا تسخرها في اوقات اخرى. واذا كان المقصود بالتراث تحديدا هو الكتابة السابقة علينا، التي تبدأ بحوليات المؤرخين ولا تنتهي عند حكايات الخارجين والهامشيين والمعارضين، فإن مسؤولية الكاتب عن هذا التراث مسألة منتهية ومفروغ منها وليس من الضروري أن تراه يتحقق بشكل مباشر، بمعنى استدعاء هذه الشخصية أو تلك أو هذا الحادث أو ذاك، بل روح هذا التراث، وليس استعارته والتغني به وفي «أوان القطاف» لم اشعر بأنني استعيد أو احتمي وراء قناع شهدي عطيه الشافعي أو الحسين مثلا.