حكام الطوائف المعاصرون يغنون في زمن السقوط

على عكس عمله «المتنبي» يقدم منصور الرحباني في عمله الجديد الحد المعقول

TT

«ما أشبه اليوم بالبارحة»، لا بد ان يقول مشاهد مسرحية «ملوك الطوائف» بعد فصلين يرويان حكاية بدء الانهيار العربي في الاندلس، إثر الفرقة والتخاذل والاستقواء بالغريب طمعاً في الاستئثار بالكراسي.

فمسرحية منصور الرحباني الجديدة التي تعرض حالياً على مسرح «كازينو لبنان» وان كانت غنائية استعراضية، الا انها تنكأ جروحاً لم تندمل، وتقتطع لنفسها من التاريخ اجزاء وكأنها الحاضر بملابس الماضي. او قل هي المهزلة الآنية بأقنعة اندلسية.

لكن منصور الرحباني الذي صاغ العمل تأليفاً وتلحيناً أراد لهذه المأساة ان تكون هزلية ما استطاع، ولمشاهده ان يبقى مشدوداً بالنكتة والطرفة والحبكة الغرامية، حين جعل من قصة حب ملك اشبيلية الشاعر المعتمد بن عباد (غسان صليبا) والجارية اعتماد الرميكية (كارول سماحة) التي ستصبح زوجته وشريكته وام اولاده محور القصة التي تدور حولها او في محيطها اخطر الاحداث السياسية.

ففي اشبيلية يتمتع الوزير ابن عمار بحظوة لدى المعتمد يوظفها خيانة عند ملك كاستيليا الاسباني الفونسو، ويستغلها لتوقيع معاهدة سرية بين الطرفين تطلق يد الفونسو في الاندلس، بينما حكامها العرب الذين اقاموا دويلاتهم على انقاض الدولة الاموية يحاول كل منهم ان ينهش من الآخر ما يقدر عليه.

«ملوك الطوائف» على طريقة منصور الرحباني لا تريد ان تزوِّر التاريخ لكنها تسعى لتطويعه لتصبح الاسقاطات أشد إثارة، فهو يتحدث في المسرحية عن اثنتين وعشرين دولة وحاكماً، ليقيم التماثل مع الراهن العربي، وهذا ما لا يتطابق وحقائق التاريخ، فالباحث عبد الوهاب عزام يقول انها كانت اربع عشرة دولة، والواقع انها كانت تزيد وتنقص بحسب ما يسجل كل منهم من غلبة على الآخر، خلال خمسين سنة من حكمهم تستغلها المسرحية بجمالية استعراضية هزلية حتى يتساءل المشاهد إن كان يسخر من نفسه ام من العرض.

فاللغة المحكية المستخدمة في الحوارات واغراقها احياناً في المحلية مع صعودها بعض الاحيان الى فصحى نقية خالصة، اضافة الى الاغاني التي تتراوح بين لبنانية خفيفة ومرحة وموشحات اندلسية معروفة تجعل العمل قادراً على البقاء ضمن الشعبي الانيق والتبسيط الذي يرقى عن الخفة والابتذال. وعلى عكس مسرحية «ابو الطيب المتنبي» التي يبدو ان منصور الرحباني حضّرها على عجل، تأتي «ملوك الطوائف» وفيها اعتناء بالحوارات التي تضرب على الحافر مرة وعلى المسمار اخرى، واهتمام بألحان الاغاني وتنويع بإيقاعاتها بفضل مشاركة جادة هذه المرة من الياس ومروان وغدي واسامة الرحباني، حيث أُفسح في المجال لأغانٍ اكثر حيوية وشبابية. شاركتها كوريغرافيا فيلكس هاروتونيان على اعتبار اللوحات الراقصة جزءاً من الاستعراض يتداخل عضوياً في تركيبة المشاهد ولا تشكل وحدها حالة قائمة بذاتها، وهو مما خدم المسرحية وجعل الترابط قائماً بين أركانها.

ولذلك فإن الاحتفاء بعمل استعراضي من صنف «ملوك الطوائف» يقدم الحد المعقول لا المأمول، من الجهد الفني والتعبيري في الكلمة والاغنية والمشهدية والديكور والإضاءة والاداء والصوت الحسن، من قبل المتفرجين قبل النقاد، يرجى ان يكون دافعاً لأعمال اخرى يجرؤ على تقديمها غير الرحابنة، اذ تتسع الساحة الخاوية لرؤى متعددة ومجموعات مختلفة في مناهجها. فالمسرح الرحباني اليوم كما رأيناه في «كازينو لبنان» هو استمرارية في النوع وتطورية في الزمن لمسرح «منصور وعاصي» الذي تألقت على عرشه فيروز وتخلفها عليه اليوم كارول سماحة ومعها غسان صليبا، من دون انقلابات كبرى او ادعاءات تؤخذ على اصحاب العمل. لقد نهلت اعمال الاخوين رحباني من الضيعة اللبنانية، وفضل منصور منفرداً ان يعود الى التاريخ لعمل اسقاطاته على الحاضر.

واذا كان ثقل الحنين الى الماضي يجعل الغالبية ترفض هذه المقارنة وتعتبرها مجحفة، فإن التسجيلات الموجودة للقديم والجديد، تجعل المقارنة اسهل والجدل اقل عقماً.

قد تعجب «ملوك الطوائف» مشاهدها او لا تعجب، لكن المسرح الاستعراضي الغنائي ينتفض وينتعش في كل انحاء العالم منذ عقدين من الزمن وخفوت القدرات الموسيقية العربية اضافة الى الخمول الجسدي العربي الذي يجعل الرقص واحداً من الفنون الاصعب والاكثر تعثراً من المحيط الى الخليج بسبب ثقافة تكبح الجسد وتقتص منه، هذا فضلا عن غياب النصوص وموت الطرافة في ارواح الكتاب وحاجة هذه الاعمال الكبيرة الى تمويلات توازيها في الحجم يجعل من قيامة مسرح استعراضي ناطق بالعربية يوازي وينافس ذاك الناطق بالانجليزية والفرنسية تقنياً وابداعياً امراً عسيراً، ان لم يكن مستحيلاً، في الوقت الراهن.

لقد قُدِّمت «ملوك الطوائف» من حواضر البيت، حيث الاعتماد الاول على الكلمة واللحن والديكورات بإمكاناتها التقليدية المعتادة، من دون اللجوء الى المعدات التقنية الثقيلة. وقد قالت المسرحية عشية حرب، ترعب القاصي والداني، على العراق، بفنية طريفة، ما يدور على لسان كل عربي يغص بمرارة علقمية، وهو يرى القمة التي لم تنعقد قبل هذه الحرب وقد حضرت امامه على المسرح وجاء الحكام بكامل طاقمهم وتنازعوا وتخاصموا ورفضوا حتى ارسال المساعدات الانسانية لاخوانهم المحاصرين، لكنهم شجبوا ونددوا وتبجحوا بالبيانات في حفلة زجلية رئاسية دقوا خلالها على الدفوف ما طاب لهم، وغنوا كما يليق بالحكام في زمن السقوط.