من هو الروائي؟

ظهر العديد من الكتاب الكبار في وقت واحد لكن بقي من نجح في التعبير عن نفسه من خلال التعبير عن زمنه

TT

في كل صنعة وصنف هناك الجيد والوسط والسيئ وما بينهم. نعرف جميعا، السيئ يتراجع غالبا الى ظل. إذا ظل في منطقة الضوء، لأسباب قاهرة، حجبه عن غيره، أو القى ظله حتى ليصعب التمييز ربما، لمن هو بعيد عن منطقة الضوء، بين هذا وذاك وغيرهما. فكيف يتم التمييز بينهما في هذا الحال، ولا محاكم تمييز هنا تفصل، والنقاد ساكتون أو مسكتون؟ هذا سؤال آخر يبني مع رده لو عالجه متفحص موضوعا آخر، له صلة بموضوع العنوان. أرى أن محاولة الرد على سؤالنا الأول قادتنا الى سؤال ثان، هذا متصل بذاك، ولو اني لا أوقف الاستنتاج ومضاعفة الاسئلة عند هذا الحد لرأينا سؤالا ثالثا ورابعا يولد من الاول والثاني هكذا في سلسلة متصلة نابعة من مَن هو الروائي؟ لهذه الاسئلة اساس مشترك، لا نلتفت اليه الآن، وقد لا نتفق على تشخيصه ويبدأ جدل. ما يهم المتجادلين عادة، اذا لم يكونوا حصيفين كفاية، ليس الاساس المشترك بل اساس كل منهم، اي ليس ما كان وما جعلنا مختلفين، بل ما يكون وسوف يكون نافعا لنا، هكذا يستمر اختلاف وبلبلة، ويظهر روائي يقيم بنص حواراً كان بين طرشان، يعقد طاقا فوق عمودين ويقيم البنيان، يقرب ويقارن بين مفاهيم المختلفين سعيا منه الى مزاوجتها وتوليد جديد منها، ينتمي للطرفين فاذا طال مشوار الجدل حسم بدل القلم بسيف، مغمد أو مشهر، في حده حد بين لعب وجد.

نحن، كقراء، مهتمون بمعرفة المستقبل، رغم انطلاقتنا الدائمة من الماضي، بوعي حين نراقب عملية تفكيرنا ونكتب، وبدون وعي غالبا حين نتكلم، ونتصرف، تلقائيا. قبل كل شيء يهمنا الدفاع عن مصالحنا، في هذا العالم المتصارع الذي ننتمي اليه، حيث تصغر فسحة التفلسف والحكمة لصالح الواقعية، خاصة بانتقال الحكمة اليوم من موقعها التقليدي في صف التفلسف الى صف الواقعية، وهذا مبرر، فالمطلوب منذ بدء عهد الاستكشاف والاختراعات ليس المراوحة بل الانتقال، بغض النظر احيانا عن النتائج الآلية للدفاع عن مصالحنا، على الغير وعلينا ايضا، فقد يؤدي بالبعض احيانا حتى الى كوارث غير متوقعة، عند الفشل في قراءة الواقع صحيحا، فيتناءى الهدف البعيد. الاسئلة، النابعة من أو الصابة في مصدر واحد، مترابطة بعضها ببعض، وكذا اجوبتها افترضت، حتى ليصعب الفصل بينها اشد بالتوغل عميقا الى اسبابها القديمة التي ادت الى النتائج الحاضرة واسئلتها. تفحصها يخلق تصورات تحتاج تثبيتا، بتجسيد في اشياء وكائنات مألوفة لأعيننا، كي تبقى في الذاكرة، فنستطيع تبادلها وتداولها وصيانتها من ضياع، هكذا دخلت الحكمة تلقائيا ايضا الى لسان الحيوان فقرأنا كليلة ودمنة، هكذا تحولت الصواعق الى حيوانات خرافية تنقض على الساهي في الحكايات، هكذا تحولت صورة متأمل على بركة مياه الى صنم من طينها، وهكذا بدأ الصنم يخفي ما يحمل الصانع من أفكار مبعثرة، فلما تركزت كسره جرؤ وأطلقها الى رحاب تستوعبها في السماء، أي دحضها بعد نشوء منها دون قطع الصلة نهائيا بسابقتها، دان ما على الارض للسماء، هكذا نشأ الجديد جوار القديم دون ان يلغيه تماما، وإلا ما وجد. وحين اتسعت الافكار واستوعبت مصالح أوسع بدأت تشتبك بغيرها، استيلاء وضما على ما له صلة بأفكار ومصالح هذا ضد ذاك، هكذا صعدت بابل وآشور، هكذا تم للفرس وضع اليد على اصنام بابل واراضيها، ولروما اسود بابل وآلهة مصر وقمحها، حتى ليبدو للناظر الى تأريخ منطقتنا وما حولها أنها سلسلة متصلة من أفعال وردود فعل، ساهمت في خلق تاريخ مشترك للمنطقة بـأسرها يحكي كيفية تطور الوعي الاجتماعي ايضا ونشوء الامم الكبيرة في هذه البقعة من الارض، لو تم تمثله والبنيان عليه تخلصت المنطقة من مشاكل الماضي المكرسة بنظر مقتصر على بقع صغيرة تفصل عسفا عن منطقتها الكبيرة حولها.

ندافع عن أفكارنا ومصالحنا متحصنين بقلاعنا الملموسة والمهموسة، داخل الجماعات والقيم، فقطع البعض تاريخنا الى تواريخ مختلفة لأقوام مختلفة، فظل العداء قائما بينها في الخفية والعلن. أذكر أني حين اردت كتابة اطروحتي في القصة العربية قالوا لي في الاستشراق بل العراقية، ولما وافقت على مضض قالوا بل العربية في العراق، فرفضت قطعا، بل وتتفاقم نزعات العزلة والعزل وتنحو الى ضراوة خلقت مع البشر وتهذبت بردود فعل عليها افكار انسانية رأت في طورها الاول لا معقولية تمثل سلطة عليا مثلا، تقيم العدل والأمان، في سلطات متعددة، بل وجسدتها كقوة شاملة كونية، في حجر وتمر وخشب وحديد، كما انكرت محاسبة الانسان اعتمادا على العرق واللون بل وفكره لاحقا ودعت الى جعل القياس في ادراك وتأدية الخير، الذي تمثل في قوانين متداخلة في أب كلي للبشر. هذا التغيير لم يحدث في زمان واحد ولا في مكان واحد ولا على لسان واحد، بعيدا غالبا عن القادة المشغولين بالحروب والغنائم وارباك الاقوام، من متبصرين وجدوا الوقت الكافي نتيجة تبتلهم وتفرغهم للنظر الى ما يحدث من أمور، لفهمها أولا، ولما افلحوا وبلغوا الحكمة، نقلوها الى غيرهم ليكونوا على بينة ويجنحوا الى رشاد ويذودوا عن انفسهم وغيرهم اذى الجهل، هكذا خلد الرواة الكبار، هكذا خلد الرسل، هكذا بقي ذكر المصلحين والقديسين، الذين صاغوا حكمتهم وما رأوا من حوادث في مختصرة معبرة عن معاناتهم الخاصة والعامة، مؤدين غرضا فكريا، سماويا، بمعنى شموليته ونبله وخدمته للجماعة. ولما كان الواقع دائم التغير، ومعه الافكار، تعدد ظهور الرواة لا حسب التسلسل الزمني فقط، فقد ظهر العديد منهم في وقت واحد احيانا، لكن الزمن ابقى من نجح في التعبير عن نفسه من خلال التعبير عن فاصلته الزمنية، عن لحظة معينة في السياق العام، الممتد بين التوحش والتمدن، فاصلة متصلة بالفواصل الزمنية الاخرى التي يشكل مجموعها ما عرفناه بتسمية التاريخ، وانجزت جميعا بإلهام لم يكن ممكنا دون احساس بانتماء الى البشر، عبر المجموعة المحيطة والكون كله.

لو لم يكتب شكسبير روائعه ما كان لغيره ان يكتبها. ظهر مئات الرسامين لكن فان كوخ واحدا يوجد. وظهر مئات الشعراء لكن نيرودا واحدا موجود، ومئات الروائيين وماركيز واحدا موجود ومحفوظ واحد موجود. كل واحد من هؤلاء واترابهم طبعا ومنتجهم الفني متفرد. معجزة مرئية خالدة. الهام البشرية كان ليظل ناقصا لو لم يولد هؤلاء الشوامخ، ولظلت متوحشة لو لم ينطق الرواة الاوائل ويكتب اللاحقون. ورغم كل الدم المسفوح امام وجوهنا اليوم نظل اكثر تحضرا من عهود محاكم التفتيش والولاة والجندرمة. ولسوف نكون غدا اكثر تحضرا لو تكلم الرواة اكثر عن عيوبنا وأجرأ على طرح الغريب والناشز من الرث من الافكار، في ادب حقيقي طبعا، لقد انفردت الرواية بقدرتها على توصيف حكاية البشر وما في اعماقنا، بالشعر والسرد، فحظيت بما يليق بها من اهتمام لدى النابهين، مكتوبة واحيانا مروية في سير واخبار وقصائد، وقد ينجم عنها مضاعفات، ليس أولها صلب الحلاج، ولا آخرها ما نراه من مصادرة كتب ومجلات كالآداب، حتى في دولة تدعي خلوها من رقابة، هي حكاية إذن تحتاج الى أكثر من قدرة على السبر والتصوير والتعبير. تحتاج رواة لهم قوة روحية وسعة بصيرة. وهؤلاء لا يجود الزمن بهم بسخاء، بل لعله ينزلهم بين البشر في فاصلة تاريخية وأخرى، كضربات صنج موقوتة في سمفونية للقدر. هم مختارون نسمع أحيانا، مصطفون، موهوبون، قل ما شئت فيهم، الحكاية مستمرة وتلاوتها تنظم في سر وعلن، تحين لحظة التجلي والكشف ويعرفهم جيدا من عافهم، هم بشر هؤلاء قادرون على مصارعة فكرية من الوزن الثقيل، نقيضا ربما أو اسوة بعمالقة السومو اليابانيين، القادرين على المصارعة ايضا لكن الجسدية، مع فارق ان ابطال الرياضة هؤلاء يكرمون عاليا بما يكفيهم من الرز في الاقل عاما حسب التقاليد، بينما يلقى الرواة الفطاحل من جهلة شتى النعوت، من الرجم الى الزندقة الى الالحاد الى تهديدهم بسجن ونار وهوان. وكما ان من الطبيعي ان لا نرى كل اليابانيين ولا كل الناس عمالقة سومو في حلقات المصارعة، لا نرى ايضا كل الروائيين من ذلك العيار الثقيل.

* روائي عراقي من أعماله: «شقة في أبي نواس» و «حب في موسكو» والجنائن المغلقة» و «الحلة الفيحاء»