أسطورة ربيعية من ينابيع المخيلة المتوسطية

حكواتية تفقد صوتها وموسيقار يذهب إلى العالم السفلي ونرجس يعشق الوهم ويفر من الصدى

TT

أتاك الربيع، نرجسه بيده، وخزاماه في حقوله، وحول اذنه قطفة حبق وياسمين، ومن أجدر بالذكر في مطلع الربيع الاسطوري من «نرسيس» العاشق المعذب الذي ضاع بين الصدى والوهم على ضفاف المتوسط.

«برسيفون» ربة الربيع في الاساطير الاغريقية لا معنى لذكرها، ولا رائحة ربيعية فيها، فقد تخلت عن وهج الربيع، وعطره، وشبق الحياة فيه حين اضطرت ان تذهب مع «بلوتو» لتعيش في كآبة العالم الآخر مع أرواح الموتى.

و«برسيفون» هذه، التي يسميها الرومان «بروزربين» هي التي توسطت للموسيقار «اورفيوس» أرق من عزف على القيثارة كي يستعيد روح حبيبته «بوريديسس» التي كانت تلهمه الألحان، لكن وساطتها لم تكلل بالنجاح للنهاية لأن أورفيوس أخل بشروط بلوتو ونظر خلفه قبل ان يكمل عبور النهر الفاصل بين الحياة ونهر الموت، فعادت الروح من حيث اتت وواصل الموسيقار مسيرة الحرمان والفقدان.

ولنترك «برسيفون» لكآبتها ولنحاول مع النرجس العذب ان نرى بواكير الربيع، فهذا فصل «نرسيس» الفتى الوسيم الذي اعطى اسمه لأجمل زهور الربيع.

واسطورة نرجس ليست ربيعية ايضا، فهي الأخرى ليس فيها ما يفرح لأن الاساطير الاغريقية كمسرحيات اساتذة التراجيديا عندهم صراع مأساوي ينتهي بختامه الابطال بعد ان يتركوا درسا وعبرة نظرا لجنايتهم على أنفسهم حين صارعوا الاقدار.

وفي حالة «نرسيس» لم يجن على نفسه فحسب، بل جنى على الفتاة الجميلة «ايكو» التي وقعت ضحية مزدوجة للآلهة والبشر وضاعت بين غضب «حيرا» زوجة «زيوس» وسوء التفاهم الذي وقع لاحقا بينها وبين «نرسيس».

لقد وقع زيوس في الغرام، وخوفا من ملاحقة زوجته ومطارداتها التي لا تنتهي قرر ان يلهيها، فأحضر لها تلك الفتاة ذات اللسان الذي يقطر عسلاً، فهي شاطرة في القص، ولا تنتهي من قصة حتى تبدأ أخرى أحلى وألذ على المسامع من الاولى على نحو يذكرنا بشهرزاد العربية التي قصت لتنقذ روحها وبنات جنسها فيما كانت تلك الفتاة وقبل ان يصبح اسمها «ايكو» تقص لمجرد اشغال «حيرا» الغيورة عن ملاحقة زوجها العابث الذي خدع الاثنتين معاً.

وذات لحظة صحو افاقت «حيرا» لنفسها وابتعدت عن سحر الحكاية لتكتشف خيانة زوجها، ولأنها لا تستطيع ان تنتقم منه، ومن ذا الذي يجرؤ على الانتقام من كبير آلهة الأولمب؟ فقد صبت جام غضبها على «الحكواتية» الجميلة، وحكمت عليها على الفور بأن يختفي صوتها الى الابد فلا يردد غير مقاطع أواخر الكلمات ومن هنا جاء اسمها، فإيكو تعني الصدى المرتد الذي تسمعه في الوديان والجبال المقفرة.

* أحزان نرجسية

* ومن الدلف الى تحت المزراب ذهبت «ايكو» تلملم أحزانها وتعتزل البشر في الغابة، وهناك كان الحب في انتظارها فقد مرق «نرسيس» بعينيه العسليتين الواسعتين وعود النرجس بين انامله الغضة وذؤابته تتراقص على وجهه الذي لوحته الشمس فوقعت في غرامه على الفور، ولكن كيف السبيل بمن اختفى صوتها ولم يبق لها الا الصدى ان يعبر عن حبها ويشرح جواها ولظاها ومكامن لوعتها.

حين كانت تقول له احبك ما كان يسمع غير «بك. بك. بك» فيظنها دجاجة في صورة أنثى، وحين كانت تقول حبيبي لا يرد الصدى غير «بي. بي.. بي» فتبدو كبلهاء اكيدة ويزداد سور سوء الفهم ارتفاعا وصلابة.

وبعد ان هدها الهوى، وأعيتها السبل قررت ان تعبر عن حبها دون كلام، فانتظرت الى ان جاء وقت عبور نرجس، وخرجت وألقت نفسها عليه تشبعه لثما وتقبيلا ولمسا على أمل ان تحصل المعجزة، لكنها لم تقع بل ادت الى عكس المتوقع، فقد خاف «نرسيس» واصابه الذعر من ذلك الكائن الذي هاجمه وسط الغابة فانطلق هاربا لا يلوي على شيء.

وليست النهاية ربيعية كما حذرناكم فقد هزلت «ايكو» وذوت حتى ماتت قهراً بعد ان فقدت حبيبها ولم تستطع التفاهم معه، وهنا غضبت آلهة الاولمب على نرجس الوسيم، فقررت ان تعاقبه نظراً لما فعل بـ «ايكو» وكأنه هو الذي ذهب بصوتها ووضعها في ذلك الموقف، وليس عبث زيوس، وغيرة حيرا.

وتأتي نهاية «نرسيس» على طريقة العقوبة من جنس الجريمة، فقد حكم عليه هو الآخر ان يموت هزالاً وكمداً، وليس غرقا في الماء كما روج بعض الذين نقلوا الاساطير من مصادر لا يتقنون لغاتها، ففي الاسطورة الاصلية انه اثناء هربه من هجوم المحبة «ايكو» وقف امام غدير ماء، فانعكست صورته فيه وظن الصورة المنعكسة هي عروس الماء الجميلة التي تعذبه بحبها، فحاول ان يكلمها دون جدوى لأنها كانت ترد له الاشارات الشفاهية بمثلها لكن دون صوت أو صدى.

ان نرجس لم يعشق نفسه على الحقيقة، وبالتالي فليس رمزا للانانية وحب الذات، وعليه يكون اشتقاقنا لمصطلح «النرجسية» باطلاً، فنرجس عشق ما اعتقد انها حبيبة، وفي زمن سبق اختراع المرايا ما كان أحد يعرف شكل وجهه أو قفاه دون النظر في الينابيع والغدران والسواقي الجارية والراكدة.

لقد واصل «نرسيس» الاغريقي عاداته، فكان يذهب يوميا الى ذات الغدير، ويواصل النظر الى صورة «الحبيبة الوهمية» وينتظرها ان ترق، وتتكلم، وتبادله غراما بغرام، لكنها لم تفعل ونحن الذين نعرف السبب، وليس نرجس الذي واصل حراسة وهمه وبدأ يراكم همومه واحباطاته الى ان مات كمداً كحبيبته «ايكو».

ان التفاؤل والنجاة من المأساة القدرية حالة نادرة في الاساطير الاغريقية التي تشكل المنابع القوية للميثولوجيا المتوسطية، وهي غالبا ما تأتي مبتسرة ومقحمة على النهاية تماما كما يجري في الاساطير الرومانية المعدلة عنها، ففي اسطورة «اورفيوس» الموسيقي لا تجد حبيبك الا بعد ان تفقد نفسك، وفي اسطورة «أورورا» ربة الغجر نرى الخلاص بالتحول الرحيم، وليس بالقتل الرحيم، فبعد ان تمتعت «اورورا» بشباب تيتون بن بريام ملك طروادة، أحالته حين اكتهل وشاخ الى جندب كي تتفرغ لعشيق آخر أكثر شباباً وجاذبية، ويظل هو كما اعتقدت سعيدا ينط ويثب في الحقول ويغني في الليالي تلك الاغنية المملة التي هي الى «النق» والشكوى أقرب.

* فتش عن الرمان

* وفي الاسطورة الشهيرة «صندوق بندورا» نرى الامل والتفاؤل يحتلان جزءا ضئيلا من ذلك الصندوق الكبير، فبندورا هي المرأة الاولى التي ارسلها الاولمبيون لتنكد حياة البشر، فبالاضافة الى فتنتها اعطاها «هرمز» الشرير قلب كلب، ونفس «لص» وعقل ثعلب، ومع ذلك لم يقع الفساد منها بل من هدية مسمومة، فقد وصل الصندوق المهدى من مجمع الاولمب اليها والى زوجها «ابيمثيوس» شقيق «بروميثيوس»، وباختصار وبعد ان يدفعها الفضول لفتح الصندوق تخرج منه للبشرية الاوبئة والامراض والفقر، والخداع، والنفاق، والقحط والجوع وكلها على شكل خفافيش تنقر وتجرح وتعذب. اما «التفاؤل والأمل» فقد اقفلت بندورا عليهما الصندوق ثانية ولم يخرجا الا بعد حين لعلاج كل ما حل بالبشرية من آفات فتاكة.

ان التفاؤل كالربيع قصير العمر لكنه وعلى قصر عمره يمنح أملاً، ويداوي جراحاً ويعطي قوة، ويجدد الارادة. اما لماذا صار الربيع قصيراً ولم تصبح حياتنا ربيعاً دائماً، فالذنب يقع على «بلوتو» شقيق زيوس وحاكم العالم الآخر الذي سرق «برسيفون» من امها حين كانت تتنزه على ضفاف المتوسط في صقلية وذهب بغنيمته الشابة ليسلي بها وحدته، وقد بحثت عنها الام طويلاً ومريراً قبل أن تعرف مكانها وتطالب بعودتها. وام «برسيفون» هي «ديميترا» ربة الخيرات والبركة التي تقضي يومها في الحقل لتسهر على الزرع والضرع والقمح والثمار وتباركها لتجعلها حلوة وطيبة المذاق لأجلنا كما تزعم الاساطير المتوسطية بمصادرها الاغريقية والرومانية.

وفي شروط عودة «برسيفون» من العالم الآخر كان زيوس واضحاً، فقال لأمها ان لم تكن قد أكلت من طعام ذلك العالم، فهي عائدة دون شرط. اما ان كانت قد ذاقت طعامهم فقد خرج الامر من يدي.

ولدى التدقيق نتبين ان «برسيفون» رفضت ان تأكل عدة أشهر من طعام مملكة «بلوتو»، لكنها لما أوشكت على الموت «مدت» يدها في نفس اليوم الذي جاءت به رسل زيوس وديميترا الى ست حبات من حبوب الرمان، وهكذا لم يعد بإمكانها العودة طيلة الوقت انما صار عليها بسبب حبات الرمان الست ان تقضي كل عام ستة أشهر مع بلوتو في مملكته الكئيبة، لذا لا نراها معنا الا في الربيع والصيف لأن عليها بعد ان تطل علينا في الاسبوع الاول من آذار ـ مارس ان تقفل راجعة في بداية ايلول ـ سبتمبر الى العالم الآخر لتسلي «بلوتو» قليلاً ثم تعود الينا في الربيع التالي بكل خصبها ونضارتها وفتنتها.

لقد ظننا اننا ندفع ثمن اخطاء الأفاعي والتفاح، وها نحن كل ربيع نتذكر اننا ضحايا الكلاب والرمان ايضاً، وفي هذه «البانوراما» الشاملة للوجود جزء أساسي من الحقيقة صاغه كل قوم على مقدار معرفتهم، وكانت المخيلة وسيلة الجميع لوصف العالم وتفسيره بهذه الروح الطفولية المدهشة.