الروائي علاء الأسواني: لا أرسم شخصياتي بمسطرة والعمل الروائي يتسع للخير والشر معا

صاحب «عمارة يعقوبيان» لـ«الشرق الأوسط»: أخاف مصادرة الرواية لأن الذين يقرأون الأدب من المسؤولين لايفهمون عن الإبداع شيئاً

TT

أثارت رواية «عمارة يعقوبيان» لعلاء الاسواني اهتماماً واسعاً بمجرد صدورها لما أثارته من قضايا كثيرة، وما حفلت به من رموز وإشارات. وتتحدث الرواية عن عالمي البزنس والسياسة وخفاياهماعبر شخصياتها التي تنتمي إلى مرحلتين، قبل ثورة 52 المصرية وبعدها. هنا حوار مع الكاتب:

* المرأة في روايتك عمارة يعقوبيان نموذج انساني تعيس ومستغل ومنتهك، ماذا تريد أن تقول من خلال تلك النماذج التي تجلت خصوصاً في شخصيتي سعاد جابر وبثينة؟

ـ أنا لا أميل الى طرح المرأة كنموذج مستقل عن الرجل في الواقع الاجتماعي، فاذا كانت المرأة مضطهدة، فالرجل كذلك، واذا كانت غير متحققة، فالرجل يتساوى معها تماماً في الهم، هي إذن ليست جزيرة منعزلة في المجتمع، فالواقع يكشف عكس ذلك، وما يصيبها يصيب الرجل،

من هنا أطرح وأناقش القضايا الاجتماعية منطلقاً من الواقع الاجتماعي بكل نقائصه وإيجابياته.

* لكن روايتك مليئة بالنماذج السلبية، الممزقة، والضائعة أو المشوهة؟.

ـ الشخص المثالي غير موجود في الواقع والعمل الإبداعي الذي يتعامل مع شخصيات طيبة صالحة لا تعاني من أي شيء يفقد مصداقيته وجاذبيته، وأنا كأديب عندما اقترب من الشخوص أرى أن لديهم ضعفاً انسانياً وخطايا، وهنا يأتي دور الفن في إبراز هذه الجوانب، وأنا مقتنع به، فالأدب وظيفته مواجهة هذا النوع من النماذج الانسانية، بلحمها وشحمها، اقترب منها فتظهر تناقضاتها، وهذا أساس في الفن حتى نلمس داخل القراء تلك الجوانب. هل تعتقد أنني اذا رسمت شخصاً ما صالحاً ومتسامحاً ومحباً سوف يكون مقنعاً، أم أن الرواية أو العمل الإبداعي سوف يفقد مصداقيته؟ أنا أتعامل مع نماذج أراها كل يوم وأعرفها، وقدمتها بصدق في الرواية، وفي الأدب لا وجود لغيرهم، ولا مكان للأشخاص الأتقياء المنزهين من العيوب والسلبيات والتناقضات، واذا وجد أدب يحتفي بهذا النوع من النماذج الانسانية المثالية سوف يكون إبداعاً هشاً وخالياً من العمق.

ليس بالضرورة أن تكون كل الشخصيات مشوهة لكني أتحدث عن نماذج بسيطة وخلابة في نفس الوقت. وقد احتفى ديستويفسكي بمثل هذه الشخوص عندما غاص في عالم الجريمة والمجرمين وقدم نماذج من القتلة، لكنه مع ذلك قدم فيها جوانب إيجابية، وهذه الجوانب موجودة في شخصية «زكي الدسوقي» مثلا، هو سكير نعم، وزير نساء، لكنه معطاء، وقادر على استيعاب غيره ومعرفة أوجاعه ومواساته والوقوف بجانبه، هذا ما أقصده بالنموذج الانساني الذي تتضمن شخصيته الخير والشر معاً.

* قدمت في الرواية أيضاً نماذج نمطية لشخصيات تعرض لها الأدب كثيراً، مثل شخصية «بثينة» المنسحقة والتي تحاول بيع جسدها حتى تستطيع إطعام أخواتها بعد وفاة أبيها؟

ـ أنا لا أقدم شخصيات كرتونية. «طه» في الرواية لم يكن شريراً، وتحوله الى العنف كان نابعاً مما تعرض له من انتهاك في قسم الشرطة، و«بثينة» أيضاً لم تكن فتاة رخيصة، لكن هناك ظروفا موضوعية أحاطت بها وجعلتها تسلك طريقها، فقد توفي أبوها، وعندما أخبرتها أمها بأنها يجب أن تخرج للعمل، لدى تاجر الملابس، وهي تعرفه جيداً، وتعرف ممارساته، قالت لها بالحرف الواحد: «البنت الشاطرة هي التي تعرف كيف تكسب الفلوس وتحافظ على نفسها»، ومشوار «بثينة» يكشف في نهاية الرواية انها لم تكن سيئة بطبعها، وان بها جوانب إيجابية وضحت عندما رفضت خيانة «زكي الدسوقي» لصالح «ملاك» مقابل خمسة آلاف جنيه وعدها بها الأخير عندما تنجح في أخذ توقيعه على التنازل عن مكتبه عندما يموت. وهنا يتضح ان لشخصيات روايتي جوانب إيجابية لكنها تأتي في سياق خاص، والأدب هنا يقدم هذه الكائنات ولابد أن تكون موازية للواقع الذي تعيش فيه وخارجة منه ومعبرة عنه.

* في الرواية قدمت نماذج رديئة لزمن ما قبل الثورة وما بعده، وكأنك تقول انها لم تكن لتصلح لو استمرت الدولة الملكية، وتتساوى معها نماذج الثورة التي أفرزتها سواء نماذج السلطة أو رجال البزنس؟

ـ تتحدث عن «عزام» رجل الأعمال والسياسي «كمال الفولي» و«زكي الدسوقي» ابن القصر الملكي، لكن ألا ترى ان الثورة قضت على الأخير تماماً، ولو كان فاشلا ولا يصلح في تقديم شيء حقيقي، أكان يمكن أن يتعلم في الخارج وينجح ويعود بشهادته، هذا الشخص لو كان استمرار المجتمع كما هو لتبوأ مناصب مهمة مثل أبيه. نعم هو سكير لكن كلنا يعرف أن مجتمع ما قبل الثورة كان ليبرالياً وعلمانياً، وكان الناس فيه قادرين على الفصل بين ما يقوم به الشخص من أعمال وبين حياته وسلوكه اليومي. كانت النخبة على هذا الأساس مختلفة عن النخبة في الوقت الحالي، انظر مثلا لحزب الوفد، أنا أعرف أن أحد نجومه كان على علاقة براقصة اسمها «ببا عزالدين»، لكن ذلك لم يؤثر على دوره وعمله ونظرة الناس له.

* وماذا عن عزام وكمال الفولي؟

ـ ليس كل الناس عزام.

* لكنك قدمته كنموذج لرجل الأعمال حالياً وجعلته يتحالف مع الفولي رجل السياسة الفاسد الذي يزور الانتخابات ويتقاضى أجراً نظير السماح لعزام بدخول مجلس الشعب؟

ـ نموذج عزام والفولي مطروح في الرواية، وأنا لا أطلب من القراء أن يحبوه أو يقفوا ضده، لكن المهم هو رد فعلهم، والرواية نجحت في ذلك وكتب عنها الكثير، أكثر من 40 ناقداً كتبوا عنها، وتلقيت مكالمات كثيرة من مبدعين وغير مبدعين أعجبوا بها. وقد قال لي البعض ان عادل امام أحب الرواية، كما ان محمد حسنين هيكل وعمرو موسى أعجبوا بها، وأنا أريد أن أقول ان الثورة كانت بالنسبة لجيل كامل من السياسيين بمثابة حكم بالاعدام لمستقبلهم، هذا ليس معناه ان الثورة كانت كلها سلبية لكنها قدمت إيجابيات كثيرة ليس هذا هو مقام الحديث عنها.

* لكن ما فائدة تلك الشخصيات النمطية التي حفلت بها الرواية وحركت أحداثها؟

ـ أنا لا أكتب رواية، وأضع بها شخصيات جديدة، المهم أن تكون مفيدة في بنيتها، هذه الأسئلة التي تطرحها غير مناسبة، وأنا لا يعنيني أن تكون الشخصيات جديدة على القارئ، المهم أن أصدقها، هذه هي النقطة الفارقة، وهي التي تحدد ضرورة وجود الشخصية وعدم ضرورتها، المحدد عندي أن تكون الشخصية لها وجود حقيقي في هذه الحالة أكتبها، واذا استمرت الشخصية فاعلة بعد نصف الرواية أو ثلثها أفقد السيطرة عليها وتتحرك طبقاً لمصيرها الذي تختاره، لأني أكره التخطيط لشخصياتي وأرى أن هذا يقدم أعمالا تكون في الغالب فاشلة.

أما حكاية الشخصيات النمطية هذه فأنا معترف بها وهناك شخصيات نمطية سوف تستمر في العوالم الروائية ولن تختفي إلا اذا اختفت الحياة، والذي يحدد وجود شخصية ما في أدبي شيء واحد هو أن تكون حية، وهناك شخصيات كثيرة مثيرة جداً كتبت في الأدب أكثر من مرة، ولم يشعر القراء بأنها معادة أو مكررة.

* لكن ما فائدة وجود العمارة كعنصر في بناء الرواية؟

ـ استعملتها كحيلة فنية لكشف علاقات اجتماعية وشخصيات انسانية موجودة في الواقع، أعرفها حالياً، أو عرفتها منذ سنوات.

* هل هذا معناه أن الرواية أرخت لشخصيات حقيقية في العمارة؟

ـ لا، معظم الموجودين في عمارة يعقوبيان لم يكن لهم وجود في الواقع، لأنها ليست عملا تسجيلياً، لأني أرى الأدب كذلك، ومع ذلك فقد رصدت الرواية شخصيات موجودة فعلا، وظهرت فيها متكاملة ومرسومة بدقة كي تشير إليهم، أما 90% من شخصيات الرواية فخيالية.

* قلت انك اتصلت بالجماعة الاسلامية عاماً ونصف العام ما الذي جعلك ترفض الاستمرار معهم؟

ـ أنا انضممت للجماعة التي كانت موجودة في كلية الطب حيث كنت أدرس، وقد كنا نجتمع ونصلي، لكني لم أنضم لتنظيم الجماعة الاسلامية. كان الموضوع في بداياته، وقد خرجت وانفصلت عنهم بمشاجرة معهم لأنهم كانوا يريدون منع الأفلام، وفصل الطلبة عن الطالبات، هذه هي تجربتي معهم ولم تأخذ في أبعادها أكثر من ذلك، لكن مع ذلك فقد رأيت في داخلهم أناساً أتقياء ومخلصين جداً. كانوا يبحثون عن أي فرصة لتغيير المجتمع، وقد رأيت أيضاً نماذج فاسدة، أظن أنها موجودة في الرواية وقد استعرتها من مشاهداتي، وقد كان الهدف منها طرح وجهة نظري في ظاهرة العنف والتي كانت راجعة للظلم الاجتماعي والفراغ السياسي وحرمان المواطنين من كثير من حقوقهم السياسية ووجود أدوات قمع جهنمية لدى الشرطة طحنت الآلاف من الشباب، ودفعتهم لاختيار طريق الثأر من المجتمع.

* رأيك هذا يشير الى انك عندما بدأت كتابة الرواية كانت لديك أفكار مسبقة حملتها بعض الشخصيات؟

ـ أنا متحفظ على هذه الطريقة في قراءة الأحداث لأني لا أرسم الشخصيات بمسطرة، ولا أقدم تخطيطاً عقلياً لها، أسوأ أنواع الروايات في رأيي هي المخططة سلفاً، وأنا لا أتعاطى مع وجهات النظر التي تقول بتخطيط الرواية، وأقدم شخصيات تبحث طول زمن العمل الإبداعي عن مصير أنسب لها، ولا أميل للقراءات السياسية البحتة للأدب، وأرى أن العمل الأدبي يحمل مستويات متعددة لتلقيه.

* هل تعتقد ان زواج الثري زكي الدسوقي من بثينة في نهاية الرواية كان منطقياً؟

ـ طبعاً، أعرف انك تريد أن تقول انها ذهبت لزكي لتحصل على المال مثلما كانت تبحث عن المال عند تاجر الملابس طلال، لكن هناك فرقاً بين الاثنين، طلال كان يعاملها بحيوانية أما زكي الدسوقي فقد اهتم بها، وتعامل معها بانسانية، وانسانية كبيرة، وهو ما جعلها تحبه في النهاية وتقرر أن تتخلى عن مؤامرتها التي اتفقت عليها مع هلال الترزي ليحصل على مكتب الدسوقي نظير منحها خمسة آلاف جنيه، وقد رفضت خيانة زكي الدسوقي لأنها أحبته، لذا أرى أن الزواج رغم كبر سن الدسوقي منطقي جداً، لأن كلا منهما تواءم مع الآخر، ووجد فيه بلسماً لجراحه التي تؤلمه ليل نهار.

* لكن لماذا قدمت شخصية «أبشخرون» بهذا العجز والخنوع، هل لهذا ظلال نابعة من كونه يشعر دائماً بأنه من الأقلية؟

ـ شخصية أبشخرون استوقفت النقاد كثيراً وبعضهم نظر لها باعتبارها مسيحية، وربط ما تفعله وعجزها بهذا السياق، لكنها من وجهة نظري لا علاقة لها بهذا المفهوم، كما أني لا أنظر للأقباط باعتبارهم أقلية لأنهم جزء من نسيج المجتمع المصري، وأبشخرون بما ان الرواية هي تعبير عن واقع المجتمع وما يدور فيه فمثله مثل المسلم، وما يقع عليه يقع على الآخرين سواء جاء على هذا النحو وهذا النموذج العاجز، الحريص على المال لأنه يعرف أن المال هو الوسيلة الوحيدة لكي يكون موجوداً في هذا المناخ. انه مقاتل، قادر على التكيف مع كل الظروف المحيطة، وجعل الآخرين لايستغنون عن وجوده وهو ما ظهر في علاقته مع زكي الدسوقي وخدمته له. أبشخرون يمثل نموذج الأقباط الذين ما إن انحسر المشروع القومي حتى اتجهوا مثل المسلمين الى جمع المال وانجاز المشروعات، قال ذلك أحد النقاد عندما كان يتحدث عنه، وهذا الكلام أعجبني جداً، لأنه قريب من الواقع.

* قلت انك تخاف مصادرة الرواية. ماذا يخيفك بالضبط مادمت نشرتها في أقل من عام في طبعتين لدى ميريت ومدبولي؟

ـ المصادرة تخيف أي كاتب، لأنها تمنع وصول العمل الأدبي الى الناس، ومع أن الطبعة الثانية من «عمارة يعقوبيان» انتهت، لكني مازلت خائف من المصادرة، هذا لان الذين يصادرون الروايات لايعرفون أن يقرأوا الأدب أساساً، ولايفهمون ماذا يعني. واعتقد أن ذلك هو ما حدث مع رواية «وليمة لأعشاب البحر»، والروايات الثلاث الأخرى. وعدم الفهم هذا نابع من أن السلطة التي تصادر لاتفهم الأدب، ومن يفهمون خارج دائرة السلطة، وكلام دعاة المصادرة حول وجود مشاهد جنسية في عمل أدبي ما متهافت لان القراء لايحتاجون لهذه المشاهد حتى يثاروا جنسياً، فالكمبيوتر الذي انتشر في كل مكان يوفر لهم ذلك، وبضغط بعض الأزرار يدخل الواحد الى هذا العالم، فما الذي يدعو القارىء إذن الى قراءة رواية ليبحث عن الجنس فيها.

* أشرت في مقدمتي مجموعتيك «الذي اقترب ورأى» و«جمعية منتظري الزعيم» الى ان ممارسات بعض المثقفين، أدت الى منع صدورهما في سلسلة أصوات وهيئة الكتاب؟

ـ نعم حدث هذا وهو خطير جداً، لأن النخبة المثقفة عندما يتم شراؤها مقابل مصالح ما تتخلى عن دورها وتسكت عن الحق، ومشكلة مصر ان رموزاً من النخبة تعمل لحسابها مقابل السكوت والصمت، والتخلي عن دورها، وهي عندما تفعل ذلك تنظر لمصالحها الضيقة، لكنها ما تلبث أن تخرج من السلطة وتدرك حجم الأخطاء التي ارتكبتها في وقت لاينفع فيه الندم، وقد مررت بتجارب مريرة معهم مللت من الحديث عنها وأريد أن أنساها.