لماذا انتحر الرائد المسرحي العراقي عبد الواحد طه؟

عبد الخالق كيطان

TT

لا يكاد يصل من العراق غير أنباء الموت في هذه الأيام، فبعد فجيعة الوسط الثقافي بغياب الشاعر المميز رعد عبد القادر، بالسكتة القلبية المفاجئة، نسمع أن الرائد المسرحي العراقي عبد الواحد طه قد غاب هو الآخر في لحظة تراجيدية تشبه حياته كثيراً، حيث فضل هذا الفنان الذي عرف بزهده وابتعاده عن ضجيج الساحة الانتحار على مواصلة حياة تتقاذفها التهديدات من كل حدب وصوب.

وإذا كانت الغرابة تلف لحظة انقضاء حياة رعد عبد القادر فإن الغرابة ذاتها ستكون سمة الموت الجديد، المتكرر، لشخصية رائدة هي شخصية الفنان عبد الواحد طه. الأول كشف الشهود عن صورة لافتة له وهو يبتسم لموته جالساً بزيه الرسمي الأنيق في منزله بالغزالية، أطراف العاصمة بغداد، ما يشي بأنه كان قادماً للتو من موعد مهم، قد يكون موعد مع الموت في تفصيل حياتي وليس شعرياً هذه المرة، مشهد رومانتيكي للموت يذكر أيضاً بالبياتي الذي أنهى سهرة اعتيادية من سهراته اليومية المعروفة ليفاجأ الجميع به ميتاً صبيحة اليوم التالي وهو يجلس على ذات الكرسي الذي تُرك جالساً عليه بالأمس... وحديث الموت هنا ولحظته القاسية المباغتة يذكر أيضاً بالبريكان الذي مات قتيلاً بدافع السرقة كما شاعت الرواية! أما عبد الواحد طه فقرر دوناً عن سواه أن يختار موته بنفسه ، وكانت طريقته قاسية حقاً تليق بقسوة الوقائع التي عاشها: لقد اختار أن ينتحر بالحرق. وفي مشهد الموت المتكرر هذا فإن رساماً بارز الأثر هو محمد صبري يعيش في سقم مستمر حياته الكئيبة في بغداد، وعندما يقرر أخيراً استنشاق هواء الحرية في عمان يدهمه الموت بسرعة خاطفة. موت يلتصق بالنبأ الخاطف لشاعر الأغنية العراقية كاظم الرويعي الذي استعجل موته قبل أن يركب الطائرة التي كانت ستقله إلى حيث الأمان في كندا!!

ينتمي عبد الواحد طه إلى جيل الرواد في الحركة المسرحية العراقية، وإذا كان قليل الحضور في نتاج هذه الحركة فإنه في الوقت ذاته كان أحد رموزها.. وقد كنت سألته، عندما أجريت له لقاءً تلفزيونياً لبرنامج مسرحي كنت أعده في تلفزيون العراق أواسط التسعينيات، سؤالاً بهذا المعنى، وأجابني بعيون دامعة عن ( الحال اليوم). كان متعباً جداً، حضر التصوير معه أحد أخوته لكي يعينه على القيام والجلوس ، تحدث بصدق أخاذ عن (ضياع القيم) و(خراب المثل). سجلت حواره ولكن أغلب ما قاله لم يكن يصلح للبث! وقد حصلت معي المفارقة ذاتها مع رائد مسرحي آخر هو الآخر لم ينل نصيبه من الضوء هو الفنان يعقوب القرة غولي، كان يدخن سجائر (لف) مصنوعة من أردأ أنواع التبغ!

رفاق عبد الواحد طه اختلفت بهم السبل: منهم من برز حتى مع تقلب السلطات السياسية في العراق، ومنهم من اعتكف، زكية الزيدي مثالاً، ومنهم من هاجر احتجاجاً، خليل شوقي أهم الأمثلة.. إلا أن عبد الواحد طه كان يموت ببطء.. فالمسرح الذي حلم به اختار أن يماشي (التحولات)، وخشبة المسرح التي دشن افتتاحها في العام 1981 تحولت إلى ملهى.. كان يمثل في مسرحية (الأمس عاد جديداً) مع آزادوهي صامؤيل، تلك المسرحية التي أعدها الفنان يوسف العاني وأخرجها فتحي زين العابدين لتكون الأفتتاح الفعلي لمسرح الرشيد في الصالحية وتبشر بنوع من المسرح الاجتماعي الرصين.. وهي خشبة المسرح ذاتها التي سيعود زين العابدين ليقدم من عليها مسرحيته المليئة بالرداءة (حرامي السيدية) أواسط التسعينيات، وهذه المرة مع كاتب لا علاقة له بالمسرح وممثل انتشله زين العابدين من تكايا الضحك والنكتة!، وبالطبع فإن زين العابدين، هو الآخر، كان يماشي التحولات الطارئة!

أقيمت، بعد مشهد الموت الفاجع هذا، أمسية تأبينية لعبد الواحد طه نظمتها فرقته العريقة، فرقة المسرح الفني الحديث في مسرح بغداد، حضرها رفاق الأمس ومحبوه، ومنهم يوسف العاني وجعفر السعدي وزكية الزيدي ومقداد عبد الرضا، كانت وجوه الحضور تصلح تماماً لقراءة اللحظة التراجيدية التي تحيط بالعراق اليوم، أما الراحل الذي توسطت صورته المسرح فكان يحلم بأمسية تكرمه في حياته فلم ينلها، كان بعيداً على أية حال من منظمي مثل تلك الأمسيات، هل كان محظوظاً بنيله أمسية (كلمات) بعد الموت؟ يذكرني مشهد انتحار عبد الواحد طه بانتحار آخر كان قرره أحمد فياض المفرجي، كبير مؤرشفي المسرح والسينما في العراق. لقد أراد لوثائقه أن تنتحر معه، ولولا جهده السابق في أرشيف دائرة السينما والمسرح الذي حفظ بعضاً من تلك الوثائق لراحت ذاكرة المسرح العراقي وإلى الأبد.. وجدوا في منزله العديد من الوثائق التي كان الراحل قرر قتلها هي الأخرى!

لماذا ينتحر رائد مسرحي في هذا الوقت العصيب؟ والسؤال لا يصح مع موت آخر، موت غير مقصود ولم يكن الفاعل قد ذهب إليه بل أنه كان بمثابة مفعول به. أما والحالة وأن الفاعل يعرف ويدرك تماماً ما هو مقبل عليه فذلك حديث آخر.. لماذا ينتحر المسرح في هذا الوقت العصيب؟ هل لأنه صار بلا جدوى؟ هل كان للسطو المتكرر عليه أثر في ذلك الانتحار ؟ هل كان لزاماً على المسرح أن يصمت في زمن لا ينبغي فيه الصمت؟