أهو زمن النقد الأدبي في المغرب؟

شهدت هذه السنة تراكماً نقدياً وإبداعياً عدا القفزة النوعية في مجال الترجمة إلى اللغة العربية

TT

مما لا شك فيه أن القائلين بموت النقد الأدبي، أو الداعين إلى موته، سوف يعيدون التفكير، من جديد، في هاتين المقولتين «الوهميتين»، وفي غيرهما من المقولات والمواقف الأخرى التي كانت تثير الشكوك حول وجود النقد الأدبي، وحول جدواه، اليوم؟

مناسبة هذا الكلام، إذن، خاصة بعد انعقاد مؤتمر للنقد الأدبي بالقاهرة، هي القفزة النوعية والكمية الملحوظة التي تشهدها الحركة النقدية ـ الأدبية في المغرب، وتحديدا خلال هذه السنة التي تشرف على نهايتها، غير المأسوف عليها بعد كل ماخلفته لنا من تراكم نقدي وإبداعي. كما أن المعرض الدولي للنشر والكتاب، في دورته الأخيرة (2000) بالدار البيضاء، إلى جانب كونه معرضا ناجحا على عدة مستويات، فإنه شكل، كذلك، بداية جديدة يمكن التأريخ، من خلالها، لمرحلة أخرى من مراحل تطور الإنتاج النقدي الأدبي وتحوله بالمغرب، إن لم يكن معرض النقد الأدبي بامتياز، وذلك بالنظر إلى عدد الإصدارات المغربية في مجال النقد الأدبي و(التنظير)، التي عرضت، خلال هذه الدورة، والتي تزيد عن العشرين إصدارا لنقاد مغاربة متبايني الأجيال والاهتمامات. ونذكر، في هذا السياق الكتب التالية: («الكتابة والوجود» لعبد القادر الشاوي ـ «عوالم سردية» لنجيب العوفي ـ «شعرية الفضاء» لحسن نجـمي ـ «تخيل الحكاية» لعبد الفتاح الحجمري ـ «في الرواية العربية» لأحمد اليبـوري ـ «الرواية المغاربية» لعبد الحميد عقار ـ «القراءة التفاعلية» لإدريس بلمـليح ـ «أبو العلاء المعري أو متاهات القول» لعبد الفتاح كيليطو ـ «الزرافة المشتعلة» لأحـمد بوزفور ـ «النص والسياق» لعلي آيت أوشان ـ «فخاخ المعنى» لصلاح بوسريف ـ «الصوفية في الشعر المغربي المعاصر» لمحمد بنعمارة ـ «المسرح والأنتروبولوجيا» لحسن يوسـفي ـ «سؤال الحداثة في الشعرية العربية القديمة» لمحمد أديوان ـ «شعرية السيرة الذهنية» لمحمـد الداهي ـ «سير المفكرين الذاتية» لصدوق نور الدين ـ «الكتابة السردية في الأدب المغربي الحديث» لأحمد المديني ـ «مدخل إلى عتبات النص» لعبد الرزاق بلال ـ «النص، من القراءة إلى التنظير» لمحمد مفتاح ـ «أدونيس والخطاب الصوفي» لخالد بلقاسم ـ «شعريات المتخيل» للعربي الذهبي ـ «سيمياء التأويل» لرشيد الإدريسي ـ «الفضاء المتخيل في الشعر الجاهلي» لرشيد نظيف...، وغيرها من الكتب النقدية الأخرى التي نكون قد أغفلنا الإشارة إليها أو الاطلاع عليها.

من هذا المنطلق، وفي إطار هذا التراكم في عدد الإصدارات والتحول في طبيعة هذه الخطابات النقدية، يمكن التأريخ، الآن، لبداية حركة نقدية جديدة في المغرب، بما هي بداية تفاعلية، لا تنتصر لجنس أدبي دون آخر، أو على حساب آخر، حيث تتعايش الأجناس الأدبية، جنبا إلى جنب، على مستوى الاهتمام النقدي بها، وفي ذلك ما يؤكد بأن النقد الأدبي في المغرب يزداد حضورا وكثافة، في سياق أفق ثقافي يتميز بالاختلاف والتميز في الإنتاج والتنوع في الرؤى والتقاطع في المرجعيات النظرية والنقدية.

هكذا، تحضر الرواية العربية إلى جانب المسرح والسيرة الذاتية والشعـر والقصة القصيرة، هذه الأخيرة التي خصها الكاتب أحمد بوزفور بكتاب هام عنونه، كذلك، بعنوان دال هو «الزرافة المشتعلة». ويعتبر أحمد بوزفور أحد أهم المهتمين بجنس القصة القصيرة والمدافعين عنها، في المغرب وفي العالم العربي، إلى جانب تشجيعه الملحوظ والمتواصل للقصاصين المغاربة الشباب، وهو ما عكسته بالفعل قراءاته لبعض تجاربهم القصصية ضمن نفس الكتاب. ومن بين المفاجآت، أيضا، التي حملتها لنا الدورة الأخيرة للمعرض الدولي للنشر والكتاب، نشير، حصرا، إلى مفاجأتين اثنتين. تتعلق الأولى بصدور ثاني كتاب لأحمد اليبوري في نقد الرواية، أما الثانية فترتبط بصدور أول كتاب في نقد الرواية المغاربية لعبد الحميد عقار، مع ما سيخلفه هذان الإصداران من أشكال الترحيب بهما داخل المشهد الأدبي والنقدي العربي عموما، اعتبارا لجدة الممارسة النقدية التي عرف بها هذان الناقدان، وللأهمية النقدية والمرجعية والتأثيرية لكتابيهما، الصادرين عن منشورات المدارس بالدار البيضاء، وهي إحدى دور النشر التي اهتمت أكثر بنشر الكتاب النقدي ـ الأدبي، إلى جانب دور نشر مغربية أخرى، كدار توبقال ودار أفريقيا الشرق.

ومن بين الخاصيات الأساسية للكتاب الجديد «في الرواية العربية ـ التكون والاشتغال» لأحمد اليبوري، انفتاحه على مدونة الرواية المشرقية والشامية، إلى جانب استحضاره، كذلك، للرواية المغربية، بخلاف الكتاب الأول «دينامية النص الروائي» الذي انتصر فيه أحمد اليبوري للرواية المغربية تحديـدا، مبرزا غنــاها التخييلي وتشعــب علاماتها وانفتاح دلالاتها. أما هذا الكتاب الجديد، فيعنى بمعالجة قضايا أخرى أساسية في الرواية العربية، طارحا أسئلة حـول تكونـها وحول طرائق اشتغالها وأشكال دلالاتها، وذلك من خلال نماذج روائية ونقدية تبـرز، في آن واحد، لحظات التوازن ومظاهر التحول من حالة إلى أخرى. والناقد، في دراسة لذلك كله، يستند إلى مفاهيم أساسية، كالتكون والانشطار والأطروحة وإلى مقياس الملاءمة في اختيار النصوص المدروسة.

أما صدور كتاب «الرواية المغاربية ـ تحولات اللغة والخطاب» لعبد الحميد عقار، فلا يمكن اعتباره إصدارا ساريا، أو حدثا ثقافيا عاديا، فصدوره يجسد، إلى حد ما، استجابة لأفق نقدي طال انتظاره، وهو بذلك (أي هذا الكتاب) إنما يحد من تلك العزلة، غير المقصودة، التي كانت تفصلنا، لمدة، عن قراءة باقي الدراسات النقدية العديدة لعبد الحميد عقار منشورة بين دفتي كتاب، وإن كان لهذا التأخير، النسبي، في إصدار كتاب أسبابه المعروفة، كتلك المرتبطة بتفرغ عبد الحميد عقار للعمل الثقافي والجمعوي والنضالي (تجربة مجلة «جسور» و«اتحاد كتاب المغرب»، على سبيل المثال)، إلى جانب انشغالاته الأكاديمية، طبعا. غير أن ذلك لم يوقف عقار عن نشر أعماله النقدية والثقافية في الدوريات العربية والأجنبية، وعن المساهمة بفعالية في اللقاءات الثقافية، هنا أو هناك.

جاء هذا الكتاب الأول، إذن، مفتوحا على تفكير نقدي مغاير في التجربة الروائية بالمغرب العربي. ويعتبر عبد الحميد عقار أحد أهم الباحثين العرب في هذه التجربة، وأحد المتتبعين الجيدين لديناميتها ولتحولاتها ولتقاطعاتها النصية والشكلية والدلالية، وله في هذا الجانب، أيضا، مساهمات نقدية عديدة وحوارات خصبة. من ثم، يحدد الباحث الغاية من هذه المقاربة في إعادة التفكير في الخطاب الروائي، انطلاقا من الأسئلة الجديدة التي يثيـرها هذا الخطاب قبـل كل شيء (كالتعدد اللغوي والسخرية واللغة الروائية وآفاق التجريب والتأصيل والمغايرة والعجائبي والصوغ الحواري)، وغيرها من المكونات الأخرى التي يغتني هذا الكتاب بالبحـث فيـــها وبتجــديد أسئلــــتها، عبـــر رؤية تستلهـــم تداخل المعارف وتحاورها.

وما يمكن قوله بخصوص تحولات الخطاب النقدي الروائي، يمكن أن ينسحـــب، كذلك، علــى نماذج أخرى من الخطابات النقدية التي تناولت أجناسا أدبية أخرى، ذات حضور أساسي، هي أيضا، داخل المشهد الأدبي والنقدي المغربي، عدا القفزة النوعية الملحوظة، بعد معرض الكتاب الأخير، في مجال ترجمة الكتب الإبداعية والنقدية إلى اللغة العربية، إلى جانب ظهور اهتمام متزايد، أيضا، بالعمل الببليوغرافي. وهو ما يبرر، الآن، أكثر من أي وقت مضى، القول بحدوث تحول جديد في أشكال الممارسة النقد- أدبية في المغرب، وهو جانب سبق لجابر عصفور، من هناك، أن بشر به وأكده في كتابه الممتع «زمن الرواية»، وذلك من خلال ما سماه بـطفرة النقد المغربي في إطار «النقد الحداثي».