البغداديون عالجوا أنفسهم بالسخرية بينما كانوا ينتظرون الحرب

«لا داعي لأن تخبرني فأنا شاهدتها بنفسي» كوميديا سوداء تسخر من أميركا.. والسلطة

TT

يواصل عمال البلديات أداء واجباتهم من تنظيف للبواليع إلى طلاء حافات الأرصفة في وقت يستمر الحدائقيون بتشذيب أغصان الشجر تهيؤا للربيع، كذلك ما زال مدربو الصقور يبيعون طيورهم الحبيسة داخل أقفاصها للعابرين من سائقي السيارات أو ركابها.

لكن تحت السطح هناك إحساس بالذعر من الحرب التي يبدو أنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى. ومع اقتراب العراق من دخول الحرب راح تلفزيون بغداد يعلن عن ضرورة اللجوء للمخابئ من القنابل من جانب آخر أصبحت محطات الوقود غاصة بشكل هائل بالزبائن، والناس راحوا يشترون محطات توليد الكهرباء، وكميات من الطعام والماء.

وفي يوم واحد قررت ثماني نساء أن يلدن معا بواسطة عملية قيصرية بدلا من المخاطرة بالولادة الطبيعية التي قد تقع وسط تساقط القنابل والصواريخ على بغداد. قال لي محمد نبيل صاحب محل الأسلحة «سنايبرس آي» (عين القناص): «غدا (الثلاثاء) هو اليوم الأخير. هذا بسبب الوضع، بسبب التهديدات الأميركية».

من جانب آخر راح الكثير من العوائل بالانحشار في سيارات قديمة مع البطانيات والوسادات في محاولة للتحرك إلى أمكنة أكثر أمنا. وأولئك الذين بقوا في بغداد راحوا يغطون الشبابيك بأشرطة منعا لتشظي الزجاج تحت وطأة أصوات الانفجارات.

* سخرية عبثية

* لا تبدو هذه الأيام مناسبة لأي نوع من الكوميديا. لكن في نهاية شارع السعدون بعد محل تزييت الأسلحة تُعرض هذه الأيام على خشبة مسرح النصر مسرحية تجعل المتفرجين يسقطون من كراسيهم من شدة الضحك، وهي صاخبة في بعض أجزائها وباعثة على حزن شديد في أجزاء أخرى منها. تدعى هذه المسرحية: «لا داعي لأن تخبرني فأنا شاهدتها بنفسي». وهي عرض يساعد على الهروب من المناخ المتوتر وفيها مزيج من السخرية العدمية والإعلانات السياسية ومن اللامعقول. والمسرحية عبارة عن هجاء لاذع للعذابات اليومية التي يعيشها المواطن العادي الذي عانى لسنوات كثيرة من قسوة العيش التي نجمت عن حربين، حكم صدام حسين الشمولي والعقوبات الدولية التي فرضها الغرب على العراق.

إحدى الشخصيات مغرقة بالحب، لكن هناك من يقول لها: «لا، إذا لم يكن لديك طعام حصص تموينية فلن يكون هناك أي امرأة تقبل بالزواج منك».

* طوابير طويلة أمام المسرح

* يقول ازار عوني صاحب المسرح: «الناس تهرب من مشاكلها هنا». ويستقبل المسرح كل يوم بين 600 و1200 شخص كل مساء لمشاهدة هذه المسرحية التي كتبت قبل ثلاثة أعوام ويبلغ سعر البطاقة ما يعادل 80 سنتا (الدولار يساوي 100 سنت) لكن هناك صدى لها في ما يجري حاليا.

شاهد بعض الناس المسرحية لأكثر من مرة. وقال خليل إبراهيم (الذي تضررت ساقه في انفجار لغم أثناء الحرب مع إيران سنة 1987 ثم كان واحدا من المجندين الذين شاركوا في احتلال الكويت قبل وقوع حرب الخليج الثانية) إنه شاهد المسرحية خمس مرات خلال مدة سنتين.

والجرعة الأكبر من السخرية في المسرحية موجَّه إلى الولايات المتحدة حيث تظهرها كقوة عظمى هائجة وتجري محاكمتها أثناء وقت المسرحية.

تقول رائدة فضاء قادمة من المستقبل لأحد المختطَفين من الأرض: «نظرا لظلم وإساءة استخدام السلطة قررنا إجراء محاكمة هؤلاء الناس على الأرض. وهي ملاحظة ساخرة خفية للقيادة العراقية مثلما هي لأميركا. ثم تقول رائدة الفضاء القادمة من كوكب آخر: «هناك قوة نووية واحدة على الأرض وعليكم أن تتحدوا كي تهزموها».

في لحظة معينة يعم الظلام خشبة المسرح حينما تنفجر قنبلة نووية على الأرض لتترك وراءها خرابا مهولا، وهذا يتم التعبير عنه من خلال مشهد فيديو. وقال واحد من المختطَفين الأرضيين لمختطف آخر» هل شاهدت ذلك القصف؟" ثم أضاف وهو يغمز له: «الأسعار سترتفع غدا» وهذا يثير ضحك الجمهور إذ أنهم يعرفون كيف هبط سعر الدينار العراقي خلال الأيام الأخيرة بشكل درامي.

تصرخ شخصية أخرى: «نحن عندنا عوائل ـ لا نريد حربا أخرى»، وعندها تطفأ كل الأضواء ويمكن آنذاك سماع تعابير التأييد من الجمهور.

ذكر الممثلون لي في الكواليس أن العرض يكتسب أهمية هذه الأيام أكثر من أي وقت آخر مع تهيؤ العراقيين للحرب وسيطرة الخوف عليهم. ففي هذه الحالة يصبح الضحك أفضل علاج، وهذا هو واجبهم الذي يجب أن يقوموا به بأفضل طريقة.

وقال الممثل خالد أحمد مصطفى: «قد يتأذى الناس ويشعرون بالأسى إذا شاهدوا هذه الكوميديا لكن الضحك هو الشيء الأساسي». وأضاف : «أنا مواطن عراقي قبل أن أكون ممثلا، وأنا سأتحدى أي غزو أميركي لا بواسطة البنادق بل بوساطة فني في هذه الظروف الصعبة. أنا سأستمر بترديد كلمات المسرحية حتى قبل لحظات من وقوع الحرب». في سنة 1991 كان مصطفى وفرقته على خشبة المسرح حتى الليلة التي بدأ فيها القصف الجوي. «إنه من الصعب سماع الناس وهم يئنون ومشاهدة البيوت مدمرة. عمر بنتي سنة واحدة وأنا هيأت سدادة أذن لها. إنها ستكون شديدة الهلع». مع ذلك يرى الممثلون الآخرون أن العرض يجب أن يستمر أكثر ما يمكن. وقالت الممثلة رنا شاكر: «أنا أشعر بالراحة حينما اجعل الناس تضحك لأن ذلك ما تحتاج إليه».

*خدمة «كريستيان ساينس مونيتور» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»