موت الشاعر على الطريقة العراقية

منذ ان بكاه السياب في قصيدته «انشودة المطر» والعراق ينزف دما واليوم هو يعيش اسوأ فترة في تاريخه

TT

على غير العادة، هجرني النوم في الرابعة صباحا فوجدتني في العتمة انظر مستوحش النفس الى جثتي الممددة على السرير ولا رغبة لي في القيام بأي شيء، لا في انارة الضوء ولا في الاستماع الى الراديو ولا في اي شيء آخر. وشيئا فشيئا بدا لي انني مت بالفعل، وانه لم تعد لي اية صلة بعالم الاحياء. وها انا انظر اليه من الضفة الاخرى بدون حسرة ولا اسف على مغادرته، فقد اصبح فيه من الشرور والكوارث والفواجع ما يكفي او يزيد لجعل الحياة فيه اشد قساوة من الجحيم الذي ينتظر المارقين عن الاخلاق والدين. ثم سرعان ما ادركت الاسباب التي عجلت بموتي المتخيل. فعلى مدى الاعوام الماضية، لم اسمع الا اخبارا سيئة عن حروب تدور رحاها هنا وهناك، وعن اخرى يقع الاعداد لها على قدم وساق، وعن حكام اقوياء يحثون الشعوب على محاربة الشر غير انهم لا يفعلون شيئا آخر سواه، وعن طغاة مستبدين يذبحون شعوبهم في الليل والنهار لكنهم يرفضون التخلي عن السلطة، لأنهم يتصورون ان ذلك سوف يبقيها يتيمة عزلاء في العراء، وعن ارهابيين ملتحين يخططون في الكهوف لقتل الابرياء، وعن جنرال مهووس بالدم يسقط كل يوم عشرات المنازل على رؤوس اهلها انتقاما من فتيان في عمر الزهور، يرسلهم محترفو السياسة ليفجروا انفسهم في الاماكن العامة متوهمين ان ذلك هو الطريق الصحيح الى استرجاع الوطن المفقود. وثمة اخبار اخرى اشد شيئا ما ضاعفت من المي ومن اوجاعي، فعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، فقدت اصدقاء اعزاء على قلبي، ولعلهم ماتوا كمدا هم ايضا، يائسين من هذا العالم الذي لم تعد فيه ذرة من الرحمة والحنان والحب. آخرهم كان الشاعر رعد عبد القادر الذي عرفته في بغداد اواخر الثمانينات. كان مهيبا بقامته الفارعة، وكان دائم الهدوء والصمت والتواضع، ولا مرة واحدة فلتت من لسانه كلمة نابية ضد احد. وعند الحديث عن الشعر هو لا يقول شيئا، يظل ينصت بانتباه الى الآخرين لكن من دون اي تعليق، فإن فعل ذلك فانه يوجز الايجاز البليغ، لكأنه يريد بهذه الطريقة ان يقول ان الشعر يعاش، اما الحديث عنه فيفسده. وكان الراحل الرائع عبد الوهاب البياتي هو اول من حدثني عنه، حدث ذلك ذات مرة في مدريد حيث كان يقيم، سألته عن الشعراء الشبان في العراق الذين لفتوا انتباهه فقال لي بعد ان سحب نفسا طويلا من سيجارته: «رعد عبد القادر.. انا لا اعرفه شخصيا.. غير اني قرأت له قصائد راقت لي كثيرا». وعند ذهابي الى بغداد لحضور فعاليات مهرجان المربد، التقيت به بواسطة الصديق العزيز فاروق يوسف الذي يعيش الآن في السويد، كما ابلغني بذلك صديقنا المشترك علي المندلاوي، وفي ذلك المساء البغدادي الرائق، تحدثت انا كثيرا غير ان رعد عبد القادر لم يتلفظ الا بكلمات قليلة ادركت من خلالها ان الرجل مسكون بحزن عميق، حزن الشعراء الموهوبين في الوطن الذي تلجم فيه الالسن بقوة البطش والسلاح والترهيب. ثم حدث ما حدث ولم نعد نسمع عن العراق غير الاخبار السيئة، وانقطعت صلتي برعد عبد القادر وباصدقاء وصديقات آخرين من امثال فاروق يوسف وزاهر الجيزاني ورافع الناصري وزوجته مي مظفر.. وحسبما ابلغني احدهم، فإن رعد عبد القادر حاول اكثر من مرة ترك العراق كما فعل الالاف من الشعراء والكتاب والفنانين لكنه لم يتمكن من ذلك، فقد كانت بلاد الرافدين عزيزة عليه الى درجة ان تركها كان يعني الموت بالنسبة له. وظلت الاوضاع تزداد سوءا يوما بعد يوم، فيما كان الاطفال العراقيون يموتون بالآلاف، والناس تبيع ماء الوجه من اجل الحصول على القوت اليومي. اما بغداد التي احبها رعد عبد القادر وبها تغنى، وعلى صدرها الحنون تعلم كيف ينطق كلمات الحب فقد اقفرت من الشعر ومن الاصدقاء وباتت موحشة، كئيبة، لا شيء فيها غير صور وتماثيل الديكتاتور الذي سلبها روحها، وروح بلاد الرافدين برمتها، ولانه شعر انه لم يعد له مكان هناك وانه من الصعب عليه ان يتحمل المصائب والكوارث الاخرى التي تنتظره وتنتظر بلاده، فإن رعد عبد القادر سقط بعد ان خانه القلب تماما كما كان الحال بالنسبة لبلند الحيدري والبياتي وآخرين كثيرين من تلك البلاد المنكوبة التي اسمها العراق.

وذلك اليوم كنت منشغلا بإعداد اكلة شهية لصديقة المانية تعشق الطبخ المتوسطي عندما رن الهاتف وجاء صوت صديق عراقي يقيم هو ايضا في ميونيخ ليعلمني ان رعد عبد القادر رحل والى الابد.. تهالكت على الكرسي، وظللت غائبا عما حولي الى ان امتلأت الشقة برائحة الاكل الذي احترق على النار.

الموت متعدد الصفات والمواصفات، لكنه بالنسبة للادباء والشعراء والفنانين العراقيين هو يكاد يكون واحدا، انه يفتك بهم دائما انطلاقا من الموضع الاشد حساسية عندهم، اي القلب. وقائمة الذين ماتوا من بينهم بالذبحة القلبية خلال السنوات العجاف الاخيرة طويلة.

اما قلب الطاغية فلا يزال يدق بقوة وكيف لا ما دام التاريخ قد علمنا ان اعمار الطغاة امثاله دائما مديدة، ذلك انهم يتغذون من دماء شعوبهم، ومن العذابات والنكبات والفواجع التي يسببونها لهم، هم يستمدون القوة اللازمة للبقاء اكثر مما يمكن، وكان غابرييل غارسيا ماركيز على حق عندما اختار ان يكون عمر الديكتاتور في رائعته: «خريف البطريق» ازيد من 250 عاما!

منذ ان بكاه السياب في قصيدته الشهيرة «انشودة المطر» والعراق ينزف دما، واليوم هو يعيش اسوأ فترة في تاريخه المديد بعد غزو المغول. فالطاغية الجديد جمع كل مساوئ الطغاة في التاريخ البشري برمته، بحيث بات بإمكانه ان يقتل ابناء شعبه من دون ان يتعب نفسه بمقاضاتهم او ملاحقتهم، يقتلهم وهم هكذا يمشون في الشارع العام ذات صباح او ذات مساء مثلما حدث لرعد عبد القادر وآخرين كثيرين، ذلك انه صادر كل شيء في البلاد.. بما في ذلك الهواء النقي!