نازلة النوازل

رشيد الخيُّون

TT

قبل مغادرة العراق، كنت أفكر، وأقلب الأمر مع صاحبي، لو منحت فرماناً يضمن لي السجن المؤبد في أبي غريّب، أو أي سجن من السجون الرهيبة البديلة لنقرة السلمان وقصر النهاية، ويحرم هدر دمي لقبلت بذلك، ولم أهاجر إلى أرض ليس لي فيها أقارب وأصحاب، لكنني لم أحصل على هذا الفرمان ولو من أوطإ المستويات، فشعار: «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» لا يقبل للمتخلف عنه بأقل من هدر الدم، فكيف مع مَنْ يفكر ضده؟

كنت أخلو لنفسي وأصغي إلى خلجاتها، فالإصغاء ممنوع لأبعد من هذه المسافة، وأرد عليها بالقول: ما هي جريمتي لتصبح أمنيتي السجن المؤبد؟ وما هو هذا الالتصاق بالأرض والقرآن الكريم غَلبَ الإنسان عليها بالقول: «هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور». وهل تخاف الغربة أو تخشى الموت جوعاً؟ كانت أنفاسي تضيق كلما مرت بخاطري فكرة الهجرة، فأنا المجبول على شعر وأغان تساوي، في مرحها وحزنها، بين الموت والغربة، وللهجران نار تلسع المهاجرين عن أوطانهم، هذا إذا كانت الهجرة من البصرة أو الناصرية إلى بغداد والموصل، فكيف إذا كانت إلى بلاد الإنكليز والحبشة وسقطرى؟ أغان تشرح لك كيف يموت الغريب ولا يجد مَنْ يبكيه ويسير خلف جنازته، فتراثنا يزن منزلة الإنسان بكثرة مشيعي جنازته، وهي آخر الآثار التي تظل في ذاكرة الأحياء. فعندما أراد مبغضو الفقيه الكوفي، وصاحب الرأي، إبراهيم النخعي الحط من قدره قالوا: لم يتبع جنازته غير خمسة أنفار، مع أنه مات ببلاده. ولأننا قوم متشائمون، لا يأتينا الضحك والفرح إلا قبل الفواجع، ففسرنا دموع المكثر بالضحك انه يموت غريباً!

ولبعدنا عن الغربة والاغتراب كثر النخيل بأرض العراق، وسميت مدنه بـ«أكد»، وهي البلاد الكثيرة النخيل، وواحد من أسماء البصرة «تدمر»، وهي بلاد التمر. فالنخلة شجرة لا تمنح ظلها وثمرها إلا بعد حين يقاس بالسنين لا بالأشهر، يزرعها الأجداد للأحفاد. لم تقرأ والدتي رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، ولم تسمع بها، لكن الفطرة والتجربة علمتاها أن تقول ما جاء فيها حول استقرار الناس حول نخيلهم، فمما أملته على كاتب رسائلها لي باللهجة المطروقة: «ما جوش أهلنا اليوم ما جوش شتلوا نخل وتملكوا حوش» وترجمتها «لم يأتوا أهلنا لم يأتوا زرعوا نخيلاً وامتلكوا بيتا».

كنت واثقاً، وثقتي ليس في محلها، أنني سأعود بعد غربة طارئة لا تزيد على ستة أشهر، لكنها امتدت إلى ثلاثة وعشرين عاماً، حصلت خلالها على جوازي سفر دولتين، أحدهما بالصداقة والذلة، والآخر بقوة القانون، بعد أن فشلت في تزوير جوازي العراقي ببطاطا وبيضة مسلوقة، وعندها فعلت كما فعلت حنيفة أن أكلت صنمها، أكلت البيض والبطاطا ورميت جواز السفر، ولم يقبل الجواز غير موظف البريد بمدينة عدن، عندما ذهبت لاستلام طرد قادم من الشام، لكن صاحب البريد لم يتركني وغروري، فقال لي بعد أن أنجز ما أريد: جوازك مزور!

لم تكن فكرة الستة أشهر حمقاء بالكامل، فقد حصل انقلاب بعد انتهائها في رأس السلطة، لكن بما هو أفظع وأمر، ففي يوليو (تموز) 1979، أي في الشهر الذي كنت أحلم فيه بالعودة حدثت المجزرة الكبرى في حدائق القصر الجمهوري، طالت عصبة كبيرة من الوزراء والزعماء البعثيين، وعندها قلت لنفسي: مَنْ أنا حتى أتمنى النعيم بسجن مؤبد؟ وهكذا بقينا في بدوامة ما أن ينتهي تموز لنحلم بتموز قادم، منعنا انتظارنا من زراعة النخيل، مع حياتنا بأرض لا ترفضه، وسمعنا وصية الشاعر ولم ندق مسماراً في الحائط، ولم نستقر استقرار المهاجرين من الصومال ولبنان وبوليفيا، في هذه الأيام تحدث بعضنا عن مراجعة خطوط السفر ليحجز تذكرته بعد انتهاء العمليات الحربية، والبعض الآخر تمنى الدخول مع الجندي البريطاني، فهو ابن البلدين، يعرف نفسه بالبريطاني العراقي الأصل.

هي نازلة النوازل، مثلما أصبح لدينا أم المعارك وشهداء الغضب ومعركة الحواسم (الاسم الجديد الذي أطلقته الفضائية العراقية على ما يجري الآن)، أن لا نعود إلى نخيلنا، الذي ينتصب بالبصرة بلا رؤوس، إلا بعد معارك بين صواريخ كروز وسكود، والطائرات الشبح وغواصات ترعب الأرض رعباً، مثلما أرعبنا جهاز حُنين وحكايات قصر النهاية، كل الدنيا تستبدل حكامها بمظاهرة أو اعتصام أو احتجاج أو انقلاب عسكري أو اغتيال إلا نحن كُتب علينا ألا نستبدل حاكمنا إلا بمطاردته بصواريخ تحت الأرض والقنابل الذكية، نسمع رعيدها بشعور مزدوج يجمع بين الحزن والأمل.

الجواهري الكبير بشعره كبير في تحليله لظاهرة تطرفنا، حين قال واصفاً دجلة بين أن يمور بطوفانه لحد الغرق وبين شحته لحد العطش:

ودجلة إذ فارَ آذيُّها

كما حُمَّ ذُو حردٍ فاغتلى

ودجلة تمشي على هونها

وتمشي عليها رُخاء الصَّبا

ودجلة زهو الصَّبايا الملاح

تُخوِّضُ منها بماءٍ صَرى

تُريك العراقي في الحالتين

يُسرفُ في شحه والنَّدى