بعد ثلاثة عقود من ثقافة العنف واللون الواحد والإعلام .. أية ثقافة عراقية ما بعد صدام؟ (2)

مثقفون عراقيون: انفتحنا على ثقافات العالم كله.. وسنغني الثقافة العراقية والعربية

TT

نشرنا في حلقة امس آراء عدد من المثقفين العراقيين حول مستقبل الثقافة العراقية في مرحلة ما بعد صدام، بعد ثلاثة عقود اختزلت فيها هذه الثقافة الى مجرد إعلام بائس موظف في تمجيد الدكتاتور وآلته الجهنمية وحروبه الداخلية والخارجية. والسؤال هو: كيف يمكن اعادة بعث الحياة في العناصر الايجابية لهذه الثقافة، واي شكل سنتخذه في واقع التنوع القومي والديني والطائفي الذي سيشهد بالتأكيد اقصى تعبيراته في المرحلة القادمة؟ هنا آراء عدد آخر من المثقفين.

* سالمة صالح*: ستكون ثقافة أكثر تنوعا وثراء

لا تنشأ الثقافة في الفراغ وانما تستمد مادتها من التربة التي تنشأ فيها، وهكذا نشأت داخل العراق ثقافة القمع خلال ربع قرن من الزمن، وحكم بالصمت والانسحاب على من لم يرد ان يعمل في اطار هذه الثقافة. ونشأت في المنفى ثقافة تعتمد على ذاكرة رعاها العراقيون بحرص وخافوا عليها من النضوب وتابعوا تغذيتها من تقارير الصحف ومما يرويه القادمون الجدد، حيث لا يمكن للذاكرة وحدها ان تغذي العمل الثقافي الى الابد ولا يمكن للمثقف ان يسجن نفسه في الماضي. ونشأ في المنفى الى جانب الثقافة الغنية في تنوعها، وفي ظل حرية التعبير غير المحدودة تقريبا، «ادب الضغينة». فوصلت الى القارئ روايات وكتبت مقالات لا تسعى الى شيء آخر غير تصفية الحسابات، واصابت عدوى الفساد السياسي جانبا من الحياة الثقافية.

الآن وقد حسمت «معركة الحواسم» لغير صالح النظام وسقطت التسمية قبل ان تعلق في الذاكرة.

ربما تحول شعراء «أم المعارك» الى شعراء «سلام العراق».

ولكن حين تعود الحياة الطبيعية الى العراق فإن الحياة الثقافية ستستعيد عافيتها ايضا.

ستنحسر الثقافة الفاسدة وتخلي الساحة لثقافة تمتد جذورها في الفترة التي سبقت الخراب السياسي والثقافي. ستكون ثقافة اكثر تنوعا وثراء لانها تحمل معها ايضا تجارب كثيرة مختلفة اغتنت بالانفتاح على لغات وثقافات العالم كله، ثقافة ربما اغتنت بها البلدان العربية كلها، فلم يسبق لبلد عربي ان يتوزع مثقفوه في انحاء الارض كما حدث مع العراق.

* كاتبة قصة

* سميرة المانع*: الشعب الألماني والشعب العراقي

* بسبب التجارب المرة للعراقيين، استقبل بعضهم مظاهر الفرح والتهاني يوم 9/4/2003 بخشية شديدة، عندما تناقلت وكالات الانباء نبأ هروب وسقوط ابشع نظام عربي في القرن العشرين مبني على الكذب والخداع والقسوة والادعاءات والمجازر وواردات نفط العراق السخية الموضوعة تحت تصرفه.

كان بمقدور هذا النظام ان يشتري القصور والتماثيل والذمم العربية والدولية، بسهولة تامة متصورا ان بامكانه ان يبني دولة قبل ان يهرب اليوم رئيسه واعوانه هروب رئيس عصابة مافيا وليس رئيس دولة، تاركا وراءه المسؤولية الصخمة تجاه الشعب، مكتفيا بنجاته وحده من مطارديه.

ليست هذه هي الحالة الاولى في التاريخ البشري عندما استغلت عواطف الناس ليستبدل بالحس السليم الممكن منطق شعارات طنانة منفعلة غير مجدية، لم تنفع احدا يوما بل ادت الى الهلاك، مع ذلك انقاد لها الملايين بمسيرات تجوب الشوارع من اولئك الذين وصفهم لينين، مرة بـ «البلهاء المفيدين» ينصاعون للساسة الماكرين المملوئين بالنرجسية وحب الظهور، يستمعون لخطاباتهم مستسلمين لهم كالاغنام. لا شك ان الموضوع بحاجة الى دراسات اجتماعية معمقة ومتخصصة لفهم نفسية الانسان عموما، وكيف ومتى يخضع هذا المخلوق البريء لبراثن الاقوياء والقساة، ربما يجد المرء ايضا التطابق والتشابه لما جرى بالعراق وهو قريب الشبه لما جرى بالمانيا قبل الحرب العالمية الثانية. لقد حلل البعض لغز الهتلرية وقبول الالمان بهتلر، فأرى الحالة متقاربة. كيف يجرؤ صدام حسين على اختطاف السلطة لمدة 35 عاما تقريبا. ان الشعبين عانيا من الاقطاع لفترة طويلة، احتكرت الوظائف العليا في الجيش والسلك الخارجي لطبقة الاغنياء والارستقراطية فقط، استعمل الشعب الضعيف المقموع للمسيرات الجماهيرية ووقع اقدام العسكر ورفرفة الاعلام. كلا الشعبين متشابهان من هذه الناحية بالاضافة الى جهل عام بما يجب ان يتمتع به المرء بالنسبة لحقوق الانسان قبل ان يؤمر بالواجبات، ليصبح الاستبداد سائدا متصورا انه جزء لا يتجزأ من سلوك اي حاكم.

النقطة الاخيرة اللافتة للنظر في حالة الطغاة، انهم كثيرا ما يبرزون من المقموعين انفسهم وبدلا من انقاذ امثالهم يبدأون في ممارسة اضطهادهم وظلمهم، دون ان تؤرقهم مسألة العدالة في الحكم لعدم مرورها في تجربتهم الحياتية السابقة على الاطلاق. لا عجب ان شاهدنا فشل معظم الثورات في العالم الثالث، حيث يذبح بعضهم بعضا متكالبين على السلطة، بعد الاستيلاء عليها، خالين من معرفة مفهوم الرحمة او العدالة وهذا ما لا اتمناه لعراق المستقبل، كي لا نظل ندور في حلقة مفرغة.

* روائية عراقية

* علي فوزي*: تعدد المدارس والأساليب الفنية

* أكثر من اربعين عاما من العمل في الفن (السمعيات والبصريات/ اي اذاعة، مسرح، تلفزيون، سينما)، عانيت مع كل زملائي من الفنانين وكذلك الادباء والشعراء والكتاب، من الاحساس بعدم الاطمئنان والامان، عدا الارهاب والترعيب والتهديد والاعتقال والتعذيب النفسي والجسدي، لا لذنب ارتكبناه غير مطالبتنا بالحرية في ما نريد تقديمه لابناء شعبنا الطيب من غذاء روحي وفكري تقدمي، خاصة ونحن احفاد حضارة موغلة الجذور والعمق في وطننا (وادي الرافدين) ولا اريد هنا ان اكرر التاريخ الماضي، انما ونحن نشاهد ونشهد هذا الخراب والدمار والقتل والنهب والسلب في وطننا والذي حل بنا بسبب تلك العصابة الوافدة من مغارات الظلمات الرهيبة وعصور القرون الوسطى ولن نلوم غيرهم لانهم هم السبب والمسبب، والنتيجة المأساوية تدهور ثقافتنا الوطنية والديمقراطية ووصولها الى الحضيض. وها نحن على ابواب مرحلة جديدة لم تحسم مجرياتها بعد، نلملم جراحاتنا ونلملم مآسينا ومآسي شعبنا بعد ان غدر بنا الجميع، خاصة العرب واهل الجوار (عدا الكويت) وغيرهم من دعاة الاسلام المزيف.. نلملم مشاعرنا وافكارنا رغم الحزن المعتق، لنعود الى وطن المحبة والخير والتسامح وطن كل العراقيين الشرفاء لنساهم ولو بجزء متواضع بعد هذا الزمن اللعين الذي مر علينا ونحن في غربة الروح والمنفى القاسي، لنعيد لثقافتنا ولفنوننا الاصيلة وجهها الجميل. ولكن.. لا ندري ماذا يخبئ لنا الزمن؟ نريد الحرية والطمأنينة والامان الذي فقدناه، من جديد نريد ابداعا بلا حدود ولا قيود ولا رقابة ولا اشراف من اي كان لان ضمير المثقف والفنان هو عقله وقلبه ومحبته لوطنه وشعبه.

نريد ان تفتح كل النوافذ المغلقة، وكل الزهور الذابلة وكل الاتجاهات الفنية والثقافية المقموعة والمصادرة في عهد القتلة ولتتعدد المدارس والاساليب الفنية شرط ان تكون جمالية الخلق روحها وعقلها وجسدها لتبدع من جديد معا.

فهل نحن نحلم؟!

* فنان مسرحي وسينمائي