بحث مشروع عن نظرية نقدية عربية

شعرية الأخطل الصغير بين الجذور التراثية والمناهج النقدية الحديثة

TT

بعد تأكيده حقيقة ان شعر بشارة الخوري الشهير بـ «الأخطل الصغير» قد حظي باهتمام عشرات النقاد في حياته وبعد مماته، يرى الدكتور عبد العزيز المقالح في تقديمه للدراسة الاكاديمية التي وضعتها الدكتورة وجدان الصايغ، انها ارقى الدراسات التي صدرت عن شعره حتى الآن، وانها على الرغم من اقتصارها على تناول زاوية واحدة فيه هي الصورة الاستعارية، فإنها لم تعدم الالتفات الى زوايا اخرى تكشف عن القدرة الشعرية الفائقة لهذا الشاعر الذي كان في طليعة الشعراء العرب المعاصرين الذين نقلوا الشعر العربي المعاصر من عصور الاجترار والتقليد الى عصر التجديد والارتحال صوب المستقبل، وكانوا الجسر المتين بين اجمل الموروث وابدع ما في الحديث. وقد تجلى ذلك في لغته واسلوبية قصيدته القائمة على اختيار المفردة والعناية بالصور والاحاسيس الوجدانية مع اختيار الاوزان المناسبة مما يحقق الايقاع الحديث.

وتستثمر هذه الدراسة التي حملت عنوان «الصور الاستعارية في الشعر العربي الحديث» وجاءت في 282 صفحة من القطع الكبير، نتائج الدراسات البلاغية قديما وحديثا على حد سواء، وخرجت بحصيلة تؤكد منطلقها الاساس في الارتكاز الى الجذر التراثي، بيد انها تتطلع بأغصانها وفروعها الى ما يرفد الدوحة البلاغية الوريفة بالحيوية والتجدد.

فبعد المامة عامة ومركزة بالشاعر، قدمت الدكتورة الصايغ رؤية تنظيرية عن الصورة الاستعارية، استهلتها بالتأكيد على ان ليس من شأن دراستها ان تقف عند تعريفات الصورة او الاستعارة، لأن المصطلحين كليهما مما تقصته دراسات كثيرة، سواء أكان هذا التقصي في كتب علمائنا العرب القدامى، أم المحدثين من عرب واوربيين، وخلصت الى ان الاستعارة تلتقي مع الصورة في ان كلتيهما تشكيل لغوي قائم على هدم علاقات قديمة وبناء علاقات جديدة في اطار اللغة، فضلا عن ان كلتيهما ترتبط ارتباطا وثيقا بعناصر الخيال والعاطفة والحواس، وان صلتهما ببعضهما ما هي الا صلة الجزء بالكل. وعلى هذا الاساس تعاملت الدراسة مع الاستعارة، وتبنت مصطلح الصورة الاستعارية في غضونها تعبيرا عن قدرة الاستعارة على تشكيل الصورة الحية التي زخر بها شعر الاخطل الصغير.

وانتقلت بعد ذلك وعبر ستة فصول الى الحديث عن التشخيص والتجسيم والحواس والتضاد في الصورة الاستعارية، ثم تناولت فاعلية الصورة الاستعارية في القصة الشعرية، والايقاع فيها.

واذ تؤكد الباحثة على ان طموح دراستها يكمن في «ارساء اساس من النقد البلاغي القائم على جذور في اعماق التربة العربية الطيبة من جانب، وتشرئب بأغصانها صوب ضوء العصر ومستجداته من جانب آخر»، تذهب الى ان التهم طالما وجهت الى البلاغة العربية التي أسس ركيزتها علماؤنا البلاغيون، اذ وصفت بالجمود وقيل عنها بأنها توقفت عن النمو، وانقطعت عن الحياة وتحولت من فن فاعل مؤثر الى مجرد تراث يختبئ في غضون الكتب القديمة ـ على حد هذا التصور القاصر ـ والمسألة ليست بهذا الشكل، اذ ان البلاغة تحتاج الى جانبين، احدهما الاساس الصحيح المستمد من تراثنا البلاغي، والآخر المطل على رحاب البلاغة الفسيحة المستمدة من الدراسات الحديثة.

وفي هذا الاطار بحثت الدراسة في التراث البلاغي عن المهاد القوي الذي نقف عليه، ثم استثمرت من الجديد ما يتلاءم مع هذا المنطلق، كي تشكل الرؤية الجديدة على استثمار انجازات السلف البلاغية والدراسات البلاغية الحديثة على حد سواء.

ومن هنا كان الانطباع الرئيس الذي طمحت الدراسة الى توكيده، هو ان الاستعارة فن متجدد حي يتواصل مع النصوص الحديثة، وتنفتح في جانب منها على ما يرفدها بالجديد من الادوات الفنية التي تعين على معالجة النص المعاصر وبكفاءة عالية دون ان تفقد هويتها الاصلية وركيزتها الرصينة المتماسكة المستمدة من تراثها البلاغي العريض.

اما لماذا اختارت الدكتورة الصايغ الاخطل الصغير دون غيره محورا لدراستها، فإن ذلك يعود ـ كما ترى ـ الى ان هذا الشاعر قد تميز بقدرة خاصة في مجال رسم الصورة الاستعارية الدالة المستمدة من طبيعة شعره المتفاعل مع روح عصره ومؤثراته من جانب، ومن جانب آخر جذور ابداعه الشعري الراسخة في ارض التراث، وبذلك فإنه النموذج الذي وجدت فيه هذه الدراسة بغيتها، وبعد استقراء دقيق لاستعاراته، اطمأنت الى انه الميدان الخصب لهذا النمط من انماط الصور البيانية.

وبعودة الى الدكتور المقالح نجده يؤكد ان هذه الدراسة العلمية الجادة، هي ليست دراسة عن شعر الاخطل الصغير وحسب لكنها ـ في الوقت ذاته ـ دراسة عن البلاغة العربية التي لقيت صدودا كبيرا من ابنائها حتى بعد ان اولاها اللسانيون الغربيون قدرا واضحا من التقدير، وهي ترد ـ بطريقة غير مباشرة ـ على عدد من النقاد العرب الذين لا يكفون عن اتهام النقد العربي المعاصر بأنه لم يستطع ان يفرز من مصادره ومرجعياته نظرية نقدية واحدة يعتد بها، ومن المؤكد ان هذه الدراسة ستضاف الى دراسات مماثلة تنادي الى رد الاعتبار لموروثنا النقدي الادبي، لا سيما بعد ان بدأ الغرب يتنكر لمذاهبه النقدية، واتجهت دراساته اللسانية الى ما يشبه ما كان لدى نقادنا القدامى من عناية بالنص الابداعي لغويا وبلاغيا وما نشأ على ايديهم من خلال تلك العناية مما يمكن تسميته بالبنيوية المبكرة. وفي خط مواز آخر يرى انه ليس عيبا ما أخذناه من مناهج نقدية غربية على مدى القرن العشرين، لكن العيب ان ندير ظهورنا لموروثنا النقدي وفيه من الاتجاهات والاصطلاحات ما يضيف ويبلور النظرية النقدية العربية التي ظل نقادنا الكبار ينشدونها وينادون اليها منذ عشرينات القرن الماضي، وهو بحث مشروع عن نظرية نقدية عربية لا تتنكر لما لدى الآخرين ولا ترفض ما يقدمه النقد الادبي الحديث من مستجدات ومتغيرات، فنحن احوج ما نكون الى كل جديد في الفكر والفن، بعد ان نكون قد استوعبنا ماضينا من رؤى وانجازات بعضها يبدو صالحا للبقاء وقادرا على الاضافة.

لقد نجحت هذه الدراسة في تذليل معظم الصعوبات التي واجهتها، ولعل ابرزها تناقض الآراء في شعر الاخطل الصغير وكثرتها، وقد ذللت هذه الصعوبات بوساطة الانصراف الى المحور الرئيــس للدراسة وبطابعها البلاغي مما لم يسبق لدراسة اخرى ان درست شعر الاخطل الصغير في ضوئه من جانب، ومــــن جــــانب آخر الركون الى رؤية الدراسة، وهي تعايش النصوص، وتستوعبها وتعيد النظر فيها وتنفذ الى اعماقها.