نظريات بيزنطية عن الهيبة والضعف والتناحر وصورة الذات في مرايا الآخرين

أكاديمي أميركي ينقب في روايات رومانية ويونانية وعربية عن سنوات الاحتكاك الصاعق بين العرب والامبراطوريتين المتجاورتين

TT

* «خير وسيلة لقتال العرب استخدام عرب آخرين ضدهم»

صاحب هذه العبارة ليس من مراقبي هذه الايام، ولا من المحللين السياسيين الفضائيين المعاصرين ولكنه مؤرخ كنسي من القرن السادس سبقت عبارته الآنفة ظهور الاسلام بنصف قرن وهو القس «أفاغريوس سكولاستيكوس» الذي كان يحكي عن الغساسنة وعرب آخرين في شمال سورية ويبيع نصائحه مجاناً للأباطرة البيزنطيين الذين كانوا يتجهزون للقضاء على نفوذ الفرس كي تخلو لهم الساحة ويتحكموا بالعالم القديم قبل ظهور القوة العربية مسلحة بإسلامها وفتوتها وشراسة محاربيها الذين كفوا عن التناحر الداخلي.

وغير الغساسنة الذين تركوا بلاد العرب الى أرض الروم مع آخر ملوكهم جبلة بن الأيهم كانت هناك قبائل عربية أخرى نعرف واحدة منها على الأقل طالب الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب هرقل بالسماح بعودتها وهي قبيلة اياد بن نزار التي سبقها فخذ من طي، الى بلاد الروم وجعل بعض مؤرخيهم يخلطون فيطلقون على العرب قاطبة اسم «الطائيين» قبل ان يولد اسم السراسين واسماء كثيرة أخرى ليس معظمها حسن الدلالة.

ومعظم هذه القبائل كما يظهر من سياق الاحداث التي رافقت هجرتها كانت تتعاون مع احدى القوتين العالميتين ـ آنذاك ـ الفرس والبيزنطيين وتقاتل بعضها لتكريس النفوذ الاجنبي، وربما يكون «أفاغريوس سكولاستيكوس» قد شهد بعض حروب العرب بين بعضهم لتثبت مصالح الآخرين قبل ان يصك تلك النصيحة التي لم تغيرها الايام، فكأننا في شجار دائم مع بعضنا البعض من ايام القبائل الى زمن الدول الى يوم يبعثون.

ومع القبائل الرئيسية التي كانت تبيع نفوذها المحلي للقوى الدولية هناك قبائل أقل شأنا كانت تكتفي بحراسة الطرق وتقبض ثمن خدماتها فيصير افرادها بمثابة كلاب حراسة وجند من الباطن لهم رواتبهم على قدم المساواة مع جنود الامبراطوريات الكبرى، إذا جاءتهم الرواتب استمروا بالعمالة وان تأخرت تمردوا، وعاد اليهم مؤقتاً حسهم بالعروبة التي باعوها بخساً.

وهناك مؤرخ اسمه «ثيوفانس» يورد نصاً بهذا المعنى في زمن الفتح العربي لمصر، فيجعل من امتناع مندوب الروم عن دفع الجعالة العربية سبباً لفتح غزة التي جعلت مع العريش الطريق ممهداً أمام القوة الصاعدة شمالاً وشرقاً وفي كل الاتجاهات في سنوات الاحتكاك التاريخي الصاعق الذي يزيل دولاً وينشئ أخرى.

يقول ثيوفانس: «كان ثمة عرب يقيمون على مقربة من مداخل الصحراء، وهم الذين كانوا يتقاضون من الامبراطور دفعات مالية صغيرة لحماية هذه المداخل لكن في هذا الوقت قدم خصي ليدفع مرتبات الجند واتباعاًَ للعادة المألوفة تقدم العرب لتلقي حصتهم لكن الخصي طردهم قائلاً: «ان الحاكم بصعوبة يكاد يدفع للجند، والأحرى ألا يدفع لهؤلاء الكلاب، فتملك الغضب العرب وانصرفوا الى قومهم، وأرشدوهم الى ارض غزة إذ ان المدخل كان من طرف جبل سيناء».

وقد عثر على هذا النص البروفيسور «ولتر كيغي» استاذ التاريخ في جامعة شيكاغو وصاحب كتاب «بيزنطة والفتوحات الاسلامية المبكرة» الذي ترجمه المؤرخ العربي الدكتور نقولا زيادة، وميزة هذا الكتاب غير الفترة الحساسة التي يحكي عنها انه يجعل العرب يرون انفسهم في مرايا الآخرين، فنحن عادة نقرأ سيرة الفتح العربي ممجدة مبهرة وبعين واحدة ونهمل موقف الشعوب المغلوبة على أمرها، وكيف قاومت وتعاملت مع ذلك الحدث الكبير الذي كان بالنسبة لها كالزلزال الذي ينسف الثوابت كلها كما هي الزلازل التي تنسفنا هذه الايام.

وقد يفيدنا، وقد اصبحنا من الشعوب المغلوبة على أمرها ان نتعزى قليلاً ونحاول ان نفهم الظواهر التي تحيط بنا، فكل هذه الفتاوى والبيانات الدينية والسياسية التي تطالعنا بكثافة وتنسب هزائمنا الى قلة ايماننا وتجعل منها عقوبات سماوية ما هي في الواقع الا الصدى البعيد لما كانت تقوله نظريات انتلجنسيا الامبراطورية البيزنطية حين هزمها العرب، فدائما في زمن الهزائم يزدهر سوق اللطم والندب والبحث عن الاسباب التي يراها الجميع الا اصحابها البيزنطيون.

* السيف الشرقي

* ان تحليل الهزائم البيزنطية بردها الى خطايا المؤمنين وليس الى سوء ادارة الامبراطورية يرد في نصوص كثيرة ركز البروفيسور «كيغي» وهو يناقشها على نصر بطريرك القدس لعام 637 واسمه «صفرونيوس» الذي كان يعتقد ان الظهور العربي امام اسوار الحواضر البيزنطية نتيجة حتمية، فالخراب بدأ من قلب الامبراطورية التي نقص ايمانها، فعاقبها الله بتسليم زمامها لمن يذلها ويدنس مقدساتها.

وشهادة هذه البطريرك على عصره تتحدث عن «سيف شرقي» رهيب يبطش ويقترب رويدا منها، وكأنها اي القدس ليست جزءا من ذلك الشرق، فالصراع حتى في ذلك الوقت كان يأخذ اسمه من الجهات قبل ان يولد مصطلح الشرق والغرب كما نفهمه اليوم في الاستراتيجيات والسياق الحضاري.

وأغرب ما في كتابات تلك الحقب انها لا تتفق على اسم معين للعرب فهم ساعة الاسماعيليون نسبة الى ابيهم اسماعيل، وأخرى «الطائيون» وثالثة «السراسي»ن ورابعة «البدو». والطريف في الامر ان الامبراطورية المسيحية البيزنطية كانت تتخوف وقتها من اليهود، فالنبوءة التي سادت في تلك العصور فحواها ان «المختونين» جاء زمنهم ليحكموا العالم، ولأن المعرفة بالعرب وطرق ختانهم كانت قليلة افترض أولئك ان الدور الحضاري لابناء اسحاق وليس لابناء اسماعيل.

ومهما كان القادم الذي لم تكن طبيعة جنسه معروفة فإنه يظل مخيفا يضطهد ويقتل ويدنس الأرض ففي رواية لـ «ميثوديوس» الكاذب نجد ان الحياة ستصبح بقدومهم لا تطاق:

«ستكون طريقة تقدمهم من بحر الى بحر ومن الشرق الى الغرب، ومن الشمال حتى صحراء يثرب، ستكون طريق فواجع وسيسير عليها المسنون من الرجال والنساء والاغنياء والفقراء، في حين يعاني الجميع الجوع والعطش ويرسفون في القيود الثقيلة الى النقطة، حيث يباركون الموتى، سيضطهد الناس وستنفق الحيوانات الوحشية والمواشي وستقطع اشجار الغابات وستتلف جميع النباتات الجميلة في الجبال وستسوى المدن الثرية بالأرض، وسيستولون على الأماكن اذ لن يكون ثمة من يجتازها، ان الارض سينجسها الدم، وسيحمل نتاجها بعيدا عنها».

وهؤلاء العرب الذين يظهرون بالنبوءات على هذه الصورة وأرهب كانوا في الواقع وقبل حقب قليلة من ظهور الرسالة مادة للاضطهاد الواقعي وفي الاتفاقيات المبرمة بحقهم بين امبراطورية الشرق، وامبراطورية الغرب، ففي معاهدة نصف القرن التي تم توقيعها بين الفرس والبيزنطيين عام 561 نرى فروضات مجحفة بحق العرب تصل الى حد فرض الاقامة الجبرية على شعوب كاملة، فتلك المعاهدة ما كانت تجيز لهم الانتقال عبر طرقات دون اذن مسبق وكانت تحرمهم ايضا من حق المقاومة، اذ لا يجوز لهم حسب معاهدة ليسوا طرفاً فيها ان يهاجموا الفرس ولا البيزنطيين، وباختصار لا يستطيع ان يعيش منهم الا من يرضخ لشروط الغازي ويتحول الى عميل محلي يقبض ويسكت أو يخرس دون قبض فمن لم يغلق فمه الذهب قطع لسانه السيف المسلط على رقاب الجميع.

وتكاد معركة ذي قار التي سبقت ظهور الاسلام بقليل ان تكون المناسبة الوحيدة التي تجمعت فيها القوى المحلية العربية ضد الاجنبي، وبعض المؤرخين يعتقدون ان هزيمة الفرس فيها جاءت لانشغالهم بحروب أهم في مناطق أخرى صار البيزنطيون يجلونهم تباعاً عنها.

ان هرقل الذي سيغلبه الشعب المختون كما قالت النبوءة كان في تلك الفترة يعلن لشعبه السقوط النهائي للامبراطورية الساسانية:

«سبحوا الواحد ومجدوه واشكروه وليكن فرحكم باسمه عظيماً لأن كسرى عدو الله المتغطرس سقط، لقد هبط الى الاعماق وامّحى اسمه من الأرض إذ ان هذا الشرير طعن بسيدنا المسيح بتكبر وازدراء، وبأمه الفائقة النقاوة سيدتنا المقدسة مريم العذراء، كسرى هذا هلك هلاكاً لا رجعة منه، ان اعماله انقلبت عليه وعدوانه سقط على رأسه».

وكسرى هذا هو برويز الثاني الذي سقط وترك فلول جيشه في كل مكان بعده وخصوصاً في سورية وفلسطين ولبنان ولاحقاً سوف نلاحظ وجود اتفاقيات وقعتها القوة الصاعدة بخصوص هذه الفلول، ومنها معاهدة بعلبك التي وقعها ابو عبيدة بن الجراح واكتشفنا من خلالها وجود فرس وروم كثر في سورية، ولبنان وفلسطين، حيث كان هذا الخليط يعيش في المركز بينما الاطراف للعرب وقبائلهم التي اكتفت بدور ثانوي، وبحروبها الثأرية وايامها عما كان يدور حولها فالواقع ومهما حاولنا تجميله يؤكد ان «ايام العرب» التي وضعت حولها كتب كثيرة ما هي الا حروب اهلية وثأرية بين العرب بعضهم البعض فيما الآخرون يتفرجون.

وقد استخدم هرقل سلاح «عرب ضد عرب» فاستمال كما تؤكد روايات معاصرة للحدث بعضها روماني، ويوناني وفارسي وعربي عدة قبائل هاجرت الى الشمال بعد وصول الفاتحين الجدد الى حمص ودمشق، واوشكت قبيلة عربية مسيحية هامة هم بنو تغلب قوم الاخطل ان يرحلوا استجابة للمغريات وهربا من الجزية لولا ان تعديلات اللحظات الأخيرة على نظام الضرائب الجديد أوقفت هجرة تلك القبيلة التي صارت في عهد الامويين من مراكز القوى الاساسية، والمضحك المبكي ان سياسة تحريض القبائل ضد بعضها طبقها الامويون حرفيا وبذات الطرق والاساليب التي تمت وراثتها عن الامبراطوريتين الآفلتين.

* لغز اليرموك

* ان القول بهجرة القبائل المسيحية وحدها عن ارض العرب ليس دقيقاً كما يلاحظ البروفيسور هيغي فقد كان في «انكير» انقرة الحالية ومختلف بلاد الاناضول قبائل عربية ابعدتها التحالفات السياسية عن أوطانها حين تم استبدالها والاستغناء عن خدماتها.

لقد حقق العرب انتصاراتهم الأولى حين توقفوا عن الكيد لابناء جلدتهم وتجمعت اغلبيتهم حول هدف يحركهم ويرسم ملامح مستقبلهم فصاروا بذلك قوة حيرت المؤرخين والاستراتيجيين في سرعة اكتساحها للامبراطورية البيزنطية، وهذا ما وضع لأجله «ولتر هيغي» كتاباً كاملاً اعتمد في توثيقه ليس على الرواية العربية وحدها كما يحصل في تواريخنا، بل قارنها بما هو متوفر من شهادات ووثائق عن تلك المرحلة من مؤرخين ورجال دين شاركوا في الاحداث أو شهدوها وسجلوا ملاحظاتهم حولها بحيادية احياناً وتعصب، وغيظ أغلب الأحيان.

ومهما كانت الروايات المعادية قاسية فإن قراءتها ضرورية لنعرف كيف بدا الاجداد في عيون معاصريهم، فمرايا الآخرين رغم عدم حيادها تظهر الصورة من التضخم النرجسي والاعجاب بالذات، ففي نشوة النصر يضيف البشر لأنفسهم ما ليس فيهم، ويحاولون جعل كل الصورة تتطابق مع أو تعكس مرآة الذات، فالمنتصر ومهما كانت الجهة التي أتى منها يلغي رواية الآخرين للحديث، ويحاول الغاء وجودهم السابق لوصوله.

لقد حاول «هيغي» معتمداً على روايات كثيرة لم يقترب منها المؤرخ العربي القديم ولا المعاصر ان يعيد رسم ما جرى في معركة اليرموك التي تكاد تكون لغزاً في سرعة حسمها وان يفهم سر التراجع السريع للبيزنطيين فليس معقولا كما ينقل المؤلف عن المؤرخ «يوتيخيوس» ان يكون منصور المشرف على الشؤون المالية في دمشق هو الذي تسبب بتلك الهزيمة حين قال انه لا يستطيع جمع الاموال اللازمة لاطعام الفرق العديدة التي احضرها القائد «فاهان»، وقد ذهب منصور الى ما هو ابعد من ذلك، فجمع رجالا يقرعون الطبول ويدقون الصنوج حتى تظن الفرق البيزنطية ان دمشق ربما تكون قد احتلت سلفا، فتعود وتريحه من عبئها المالي الكبير.

وبعد تجريب مختلف انواع التحليلات والاحتمالات وجد «هيغي» نفسه يعود الى رأي صائب لـ «كلاوز فنس» قال فيه: «عند خسارة معركة تتحطم قوة الجيش، القوة المعنوية اكثر من القوة الطبيعية. ان معركة ثانية من دون العون الناتج من عوامل جديدة واعدة قد تعني الانكسار حالاً وربما الدمار الشامل، هذه بديهية عسكرية ومن طبيعة الاشياء ان التراجع يجب ان يستمر الى ان يستعاد التوازن في القوة سواء عن سبيل النجدات أو في حماية حصن قوي أو عقبات طبيعية كبرى أو انتشار العدو انتشارا واسعا. ان فداحة الخسائر ومدى الانكسار، وما هو اكبر اهمية النظر الى طبيعة العدو التي تحدد الوقت الذي تعود فيه لحظة التوازن».

وبالنسبة للعرب في تلك اللحظة التاريخية التي مهدت لسقوط نظام عالمي وصعود آخر كان التناحر الأخوي قد توقف جزئيا، وكانت العمالة للأجنبي قد اختفت لعدم وجود من يطلبها ويدفع ثمنها، وهكذا لم يبق امام «الاخوة الاعداء» غير الانضواء حول الراية الجديدة والهدف الجديد.

وهكذا نامت (النظرية ـ النصيحة) «خير وسيلة لقتال العرب استخدام عرب آخرين ضدهم»، ولكن الى زمن قصير عادت بعده خلافات القيسية واليمانية والقحطانية والعدنانية ليعود العرب سيرتهم الأولى، فهم اشداء في ما بينهم ضعفاء رحماء مع الأجانب حتى حين يأتون في ثياب الغزو، وتلك نقيصة ما تزال تلازمهم وتعيق الى اليوم اجتماعهم حول اي هدف جماعي رشيد يعيد اليهم بعض الهيبة التي يظنونها موجودة حين ينظرون في مراياهم، ولو جربوا ونظروا الى انفسهم في مرايا الآخرين لوجدوا الصورة الأخرى التي يتحاشون الاعتراف بها مجسمة ومضخمة لتشهد على قرون من الازدواجية المزمنة في الممارسة والخطاب.