المرأة لدى سبعة روائيين أميركيين

تبدو النساء وكأنهن كائنات بلا صوت ضائعات في البرية الروائية

TT

يحاول الكاتب رضا الظاهر في كتابه «الامير المطرود.. شخصية المرأة في روايات اميركية» ان يعيد قراءة رؤية الماضي بعيون جديدة، والدخول الى نصوص قديمة، من وجهة نظر نقدية جديدة، منطلقا من اننا نقرأ، فيؤثر فينا ما نقرأه، ويشبعنا بافتراضاته.

واذ يأتي هذا الكتاب الصادر عن دار المدى في دمشق بـ 312 صفحة من القطع الوسط في اطار مشروع الكاتب لدراسة كتابات النساء، والطريقة التي تناولت بها الكتابات عامة، المرأة وضعا وكيانا، فإنه يستشهد في فصل تمهيدي حمل عنوان الكتاب بمقطعين شعريين للشاعرة الاميركية اميلي ديكنسون يوضحان وضع المرأة في الثقافة البطرياركية، وكيف احست ان شيئا ما قد ضاع منها، وان اول شيء كانت تستطيع تذكره، هو انها كانت محرومة مما لم تعرفه، وصغيرة الى حد ان كل امرئ، كان يرتاب بها، وهي تسير نادبة بين الاطفال، تطوف مثل واحدة تنوح على مملكة طرد منها اميرها الوحيد.

ومن هنا يحاول الكاتب تعقب مصير (الامير المطرود) الضائع في (البرية الذكورية الروائية)، انطلاقا من حقيقة ان الوعي سلطة، وان خلق فهم جديد للادب يعني جعل التأثير الجديد للادب علينا نحن القراء امرا ممكنا، ويعني هذا بالمقابل توفير الشروط لتغيير الثقافة التي يعكسها الادب. فالتساؤل والكشف عن ذلك الخليط المركب من الافكار والاساطير حول النساء والرجال، والتي توجد في المجتمع وتنعكس في الادب، يعني جعل نظام السلطة المجسد في الادب عرضة لا للمناقشة فحسب وانما للتغيير ايضا. ولا يمكن، بالطبع، طرح مثل هذا التساؤل والكشف عن اجاباته الا عبر وعي مختلف جذريا عن الوعي السائد الذي يصوغ الادب. ولا يمكن اختراق هذا النظام المغلق الا عبر وجهة نظر ترتاب بقيمه وافتراضاته وتيسر للوعي ما يرغب الادب في ابقائه مخفيا.

وهكذا يركز المؤلف عبر فصول الكتاب الاخرى على سبعة روائيين ممن يعتبرون اساسيين في دراسة الرواية الاميركية في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهم روائيون لا تعتبر اهميتهم الفكرية والفنية موضع شك، فهم مقرؤون على نطاق واسع، وكان لهم تأثيرهم الكبير في الرواية الاميركية، والرواية العالمية وبينها الرواية العربية. ولكن تناقضاتهم في تصوير شخصية المرأة، كانت منذ زمن بعيد، موضع اهتمام النقاد من مختلف الاتجاهات. وكان «نفوذ هؤلاء الروائيين في التأسيس» هو الدافع وراء اختيارهم في هذا الكتاب وهم: ناثانيل هورثون، هنري جيمس، مارك توين، هرمان ملفيل، ويليام فوكنر، ارنست همنغواي وسكوت فيتزجرالد. ويؤكد المؤلف ان اختيار اعمال معينة لهؤلاء يعود الى اهميتها المتفردة وقيمتها النموذجية وامكانياتها التراكمية ولترابطها في الطرق التي تعلق بها على بعضها البعض، وهي تشكل كلا دراميا يتجاوز معناه مجرد مجموع الاجزاء. ويقصد من الروايات موضوع البحث ان تشكل جزءا من الرواية اكبر منها بكثير، ذلك انه يمكن اكتشاف اغراضها واتجاهاتها في اعمال كثيرة مرة بعد اخرى وبينها بالطبع اعمال روائية عربية.

وبعد ان يتساءل فيما اذا كان الادب شيئا يخلقه كتاب يتمتعون بقدرة وامتياز تخيلي ام انه نتاج للنقد الادبي، يرى ان النقاش بشأن هذه المسألة، حتى الآن، يشير الى انه جزئي على الاقل بالنسبة للنقد، وان «الاعمال البارعة» كان يجري اختيارها والمعايير يجري تجميعها، في الغالب ـ على ما يبدو ـ، لا على اساس المعايير الاصلية للامتياز، وانما على اساس افتراضات جنسية لا يمكن تفنيدها، وانحيازات نقاد رجال مغالين. فدور النشر الادبية واقسام الادب في مؤسسات التعليم العالي تتواطأ في بنية الادب باعتباره نتاج الرجال في الغالب الاعم.

وهو يرى في هذا الاطار ان الواقع المهيمن في حينه، على الروائيين موضع البحث، كان يريد من النساء قبول (حقيقة) انه من الصعب عليهن القيام بفعل لانهن (تابعات) وليس لانهن نساء حرمن من التعبير عن انفسهن، وانهن بلا صوت ومرغمات على الصمت.

وعلى صعيد آخر يرى ان كل من قرأ النقد الادبي في الجيل المعاصر يدرك ان الكتاب الامييكيين متهمون ومدانون بسبب الكثير من اخفاقاتهم في تصوير النساء، واذا كان بين من يوجهون الاتهامات محررو صحف ومجلات شعبية او باحثات نسويات اعدن قراءة الرواية الاميركية، فإن الاجماع العام هو ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته حسب القاعدة القانونية المعروفة. ويستشهد بقول الناقدة الاميركية كارولين هيلبورن: «ان ادبنا لا يترك النساء وحدهن ولا يسمح لهن بالمشاركة، انه يصر على شموليته في الوقت الذي يعرف تلك الشمولية في اطار ذكوري».

لقد اعتمد المؤلف على عدد كبير من المصادر المكتوبة بالانجليزية للتدليل على آرائه، واذا حاولنا التوقف عند خلاصات ونماذج لكيفية تصدي الروائيين السبعة الذين تناولهم للمرأة، سنجد انه يؤكد لدى حديثه عن ناثانيل هوثورن ان الناقدات النسويات لم يكن اول من درس تصوير ناثانيل لهن، غير ان النقد (ما قبل النسوي) له، والذي ركز على شخصياته النسائية، غالبا ما كشف، على نحو لا يثير الدهشة، عن تعصب شديد ضد النساء. فقد كتب معظم هؤلاء النقاد بغرض التدليل على العداء للنساء في اعماله، فكانت اكتشافاتهم منسجمة بالتالي مع توجهات الناقدات النسويات. وقد يكون هذا الانسجام تفسيرا جزئيا للندرة النسبية في الاعمال النقدية النسوية حوله، ويمكن القول، في الواقع، ان النقاد المضادين للاتجاهات النسوية قد ادوا المهمة نيابة عن الناقدات النسويات.

ولدى تناوله هنري جيمس، يرى المؤلف ان كثيرا من الباحثات النسويات كن معارضات لتبنيه باعتباره (سلفا ادبيا) لاسباب عديدة. ويرتبط اول هذه الاسباب بموقفه المحافظ غالبا مما كان يطلق عليه (موقع قضية المرأة). وعلى الرغم من ان جيمس، كان متعاطفا الى حد كبير مع النساء اللواتي يعترفن، على مضض بمحدودية دورهن الاجتماعي فإنه كان انتقاديا على نحو ساخر تجاه النشيطات منهن.

وتبدو الصورة اكثر دلالة بالنسبة لمارك توين الذي نقل لنا المؤلف انه كان قد قال في مذكراته التي كان قد كتبها عام 1895: (نحن ندرك بسهولة ان الشعوب الابعد عن الحضارة هي تلك الشعوب، حيث المساواة بين الرجل والمرأة ابعد. ونحن نعتبر هذا سمة من سمات العبودية. ولكننا من الحماقة بحيث لا نستطيع ان نرى اننا بذلك نعترف صراحة انه ما من حضارة يمكن ان تبلغ حد الكمال ما لم تشتمل على المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة).

وعندما تناول هرمان ملفيل ذهب الى ان القارئ المطلع على اعماله (موبي ديلك)، (بارتلبي) و(بيلي بود) فقط، قد يرى ان النساء لا يلعبن سوى دور قليل الشأن في اعماله، اذ يشكلن في الحقيقة قائمة واسعة نسبيا رغم انها ضعيفة، غير ان عليه ان يأخذ بالحسبان انه رغم وجود النساء في اعمال ملفيل، فانهن بلا صوت.

وبالانتقال الى وليم فكونر يوضح المؤلف ان استخلاص تعميمات حول النساء، وتجسيده لقضاياهن، هو موضوع اشكالي يقيده تعقيد رؤيته، وتعددية قيم ومعاني نصوصه ويبدو عدم كون نسائه اما معبودات او شريرات واضحا تماما، كما ان رجاله ليسوا ببساطة ابطالا او اشرارا تماما. فـ (الاشرار) الحقيقيون الوحيدون في عالم فوكنر هم المجتمع الكابح الذي لا يستجيب على نحو ملائم لحاجات ورغبات افراده، والعائلة التي تخذل اطفالها عبر تقديم امثلة بائسة او الاخفاق في منح ما يكفي من المحبة والضحايا هم الرجال والنساء معا.

وبقدر ما يتعلق الامر بارنست همنغواي، فإن المؤلف يرى ان عددا من النقاد والدارسين اتهموا همنغواي بالعداء للنساء والافتقار الى معرفتهن، وان تناقضات همنغواي في مواقفه من النساء، سواء من تزوجهن او عشقهن او كن شخصيات لرواياته، تقدم مادة غزيرة للنقاد. وتزيد هذا التناقض تعقيدا تلك الاعمال التي نشرت بعد وفاته، والتي يتطلب تحليلها حذرا وبراعة، لان احدا لم يستطع حتى الآن، ان يعرف على وجه الدقة لماذا تركها غير منشورة خلال حياته ولماذا لم يعد الى المخطوطات الاصلية لاجراء تعديلات او تنقيحات معينة.

اما بالنسبة لسكوت فيتزجرالد فيذهب المؤلف الى ان ادراكه للوضع المشوش للنساء، ربما تعود جذوره في الواقع الى طفولته قبل وقت طويل من عقد العشرينات من القرن الماضي. فيومياته تعكس ذكريات مؤلمة عن امه التي (تجلس دائما في غرف انتظار قبل ساعة من الموعد، يجتذبها حافز لا يقاوم من السأم والحيوية). وبالطريقة ذاتها الى حد كبير غالبا ما تتأثر شخصياته النسائية مثل روزالند في (هذا الجانب من الفردوس)، غلوريا في (الجميل والمقيت) وديزي في (غاتسبي العظيم) بـ (حافز لا يقوم من السأم والحيوية)، وفضلا عن ذلك ادت المواقف المتغيرة خلال عصره، حسب فيتزجرالد نفسه، الى (احساس بالكرامة في ظل المعاناة يصبح سمة يفترض ان تظهرها النساء في الحياة او الرواية).