مصائر إنسانية تتقافز على مربعات الشطرنج

رواية دوستويفسكي الشهيرة «الجريمة والعقاب» في رؤية مسرحية مصرية

TT

البشر صنفان: صنف تقليدي مثله مثل غيره لا يقوى على الخوارق، يعيش ويموت فقط كي يضيف رقما لقائمة البشر. وصنف غير عادي متميز يفتش عن المستحيل ويتشوق إليه، يفكر طويلا ماذا سيضيف للدنيا وكيف ستحتفى به وتتذكره وتبكيه بعد فراقه.

هكذا طرح المؤلف الروسي الشهير ديستويفسكي إشكاليته الفكرية الإنسانية والفلسفية العميقة في رائعته الخالدة «الجريمة والعقاب»، التي قدمها المخرج حمادة عبد الحليم بنفس الاسم في عرضه المسرحي بقاعة عبد الرحيم الزرقاني بالمسرح القومي بالقاهرة.

اعتمد النسق الدرامي لهذا العرض على تقديم حياة أطراف الصراع في دائرة العلاقات الدرامية ، كاستعارة للعبة الشطرنج الشهيرة التي تقوم على الذكاء والتنقل بوعي والحركة بحساب والأسلحة المستخدمة المختلفة بين الجيشين الأبيض والأسود، على أن تنتهي المعركة بينهما دائما بفوز فريق على حساب هزيمة الآخر.

إتضحت معالم هذه الاستعارة على المستوى الدرامي، عندما أقدم العاشق الطيب والمحب المغامر الشاب روديون راسكولينيكوف (رشدي الشامي) على قتل المرابية العجوز التي تكتنز الأموال. من أجل توفير المال اللازم لحبيبته الغانية سونيا (منى حسين)، لتكف عن ممارستها الرذيلة اتقاء للفقر ولإطعام عائلتها الصغيرة.

قسمت دائرة العلاقات الدرامية الفاعلة البناء الفني لهذا العالم المخيف إلى قسمين متصارعين، يضم الأول سونيا ذات السريرة النقية رغم كل شيء، ورودين الذي وعدها أن يكون من صنف البشر المتميز الذي يعيش ليحفر اسمه في ذاكرة الأرض.

ويضم القسم الثاني كل نظم سلطة المجتمع القمعي، الذي يجبر سونيا على البغاء بسبب الفقر الرهيب، ويجبر رودين على فعل القتل لتحقيق العدالة والحصول على حريته التي طال انتظارها. هكذا تجلت سلطة المجتمع القهري على المستوى الاقتصادي والسياسي، من خلال المرابية العجوز التي لم نرها مطلقا.

فقد اعتقد رودين أنه عندما يتخلص منها ، يكون قد أعتق نفسه من قيود المذلة الاقتصادية التي تحتقر أحلامه وتغتال أبسط أمانيه هو وسونيا وأمثالهما.

أما سلطة المجتمع الحاكمة والأقوى فتمثلت في محقق البوليس السيد بورفير (ممدوح عقل)، الذي يمتلك سلاح هدوء العصاب وسلطة السؤال وخبرة أهل السياسة في تضييق الخناق حول عنق رودين حتى وصل به للحظة الاعتراف الكاملة. ساعده على ذلك طبيعة التركيبة الدرامية لشخصية رودين، التي لا تحمل فطرة القتل أو الشر بطبيعتها. لكن العاشق لم يكن يدري أن عذاب السجن الداخلي والإحساس بالذنب المتوحش والوساوس المخيفة، أشد قسوة وعذابا مئات المرات من عذاب الفقر المصحوب براحة الضمير. لهذا كان من الطبيعي تبدل أحوال رودين تماما، لينهار نقاء حبه الحقيقي الصادق لسونيا بعدما ألمت به الحمى واعترف لحبيبته بجريمته . وأخيرا أدرك رودين الضحية أنه بقتله العجوز، قد قتل نفسه وحطم بيديه كل ذرات مرآته الداخلية عن آخرها.

* استعارة بصرية.

* قدم المخرج حمادة عبد الحليم من خلال هذه البنية المسرحية استعارتين فكرية وبصرية على مستويين متداخلين. فبينما لعبت البنية الدرامية دورها الاستعاري المباشر للعبة الشطرنج حامية الوطيس بين طبقات المجتمع المختلفة، إتخذت اللعبة المربعة الإطار بدورها أبعادا أعمق عندما أصبحت هي الأخرى استعارة للصراع الدائر داخل المجتمع الروسي ذاته; الذي يمكن تأويل أبعاده على أفق المجتمع الإنساني عامة.

ولعبت أدوات السينوغرافيا دورا بارزا في ترسيخ وتكثيف هذه الاستعارة المرتبطة بلعبة الشطرنج بأشكال ومستويات مختلفة. فعلى المستوى الاستاتيكي والعلامات الأيقونية الثابتة الدلالة، صممت صفاء عناني أرضية القاعة موزعة بين المربعات الكبيرة السوداء والبيضاء تماما مثل ملعب لعبة الشطرنج . كما تركت في صدارة عمق الخلفية القريبة موتيفات شهيرة كبيرة ثابتة الدلالة لبعض من أدوات لعبة الشطرنج، مثل قطعتي الوزير والطابية الكبيرتين المترابطتين دائما كشهود عيان على كل شيء.

كما أنهما في نفس الوقت يشاركان في اللعبة بصفتهما الرسمية، ليستكملا ملامح الاستعارة المقصودة والأدوار التي يلعبها بإتقان سونيا وروديون والمحقق والمرابية العجوز كاستعارة رمزية للمجتمع بأسره. كما جاء تصميم الملعب المسرحي على شكل مربع متكامل الأضلاع، بحيث يجلس المتفرجون على المقاعد خارج حدوده على نفس مستوى مسطح الأرض مثل تكنيك مسرح العلبة الإيطالي، كعلامة دالة على مشاركة المتلقى الإيجابية المتوقعة في هذا العرض انتظارا لدوره هو الآخر. واستوعبت الملابس جيدا مساحات الخلل الشاسعة التي اجتاحت سريرة روديون، وأحاطته بملابس سوداء داكنة شديدة الكآبة والخوف والإحباط تتناسب مع انعدام الحيلة وفعل القتل. وأيضا مع تخلصه دون أن يدري من حالة سلامه الداخلي، أملا في البطولة وإدراكا لوعوده مع حبيبته كعاشق مخلص وفي. وبعد ارتكاب الجريمة وبلوغ البطل مرحلة قاتلة من الانهيار الداخلي أمام سلطة المجتمع، أحاطت رقبته طوال الوقت بكوفيه باللون الأحمر القاني كدلالة مباشرة للون الدم الطازج.

وقد تم ربطها بقوة حول عنق رودين مثل القيد النفسي، كعلامة تمهيدية لمصير الفناء الداخلي وعقاب الموت الفيزيقي الذي ينتظر القاتل العاشق. كما حملت هذه الكوفية أحيانا دلالة حسية شديدة الإيحاء، وإن لم يصاحبها أدوات تعبيرية حركية جسدية تؤكدها بما يكفي. من هذا المنطلق قصد المخرج إحاطة روديون دائما بإضاءة تعتمد على اللون الأحمر المتذبذب، المتداخل والمتعارك مع الألوان الفاتحة الأخرى المحيطة بسونيا ، وهو ما يتطابق مع لون المربع الذي يقف عليه البطلان. وأخيرا تأكدت هيمنة استعارة لعبة الشطرنج على رؤية المخرج، عندما صاحب اكتشاف البطل أن هذه الدنيا مجرد «لعبة» تركيز حزمة ضوئية مبهرة تسلطت على مساحة الأرض الفارغة الفاصلة بين البطل والبطلة أثناء مواجهتهما، للإيحاء بمدى غموض اللعبة وحتميتها وقوانينها وقسوتها. يتميز ممثلو العرض بقدرتهم على التركيز واستدعاء الشخصيات دون تكلف وتجسيد صراعاتها الداخلية، والتعبير بالانفعالات الجسدية والصوتية قدر المستطاع عن اللحظة الدرامية، بالإضافة لاجتهادهم ورغبتهم في تقديم فن هادف يستحق الاحترام.