طواويس وجنرالات على شواطئ الأنس والدم في هافانا

بيوت على الطراز الأندلسي من عصر كريستوفر كولومبوس وأحزان عصر العبيد تتعتق متمهلة في كباريهات ومتاحف العاصمة الكوبية

TT

«اصحاب التماثيل منعوا بيع الشباشب» تلك كانت الرسالة القصيرة الضاحكة التي تلقيتها في قلب العاصمة الكوبية هافانا بعد اسبوعين من المشاهد البغدادية التي لا تنسى عن شباشب بالية تنهال على صور ملونة وتماثيل لامعة، وتلفت حيث اقف في الساحة الرسمية الكبرى فلم اجد غير تمثال واحد للشاعر ـ الرمز خوسيه مارتي شاعر الاستقلال الكوبي وامامه عبر الساحة جدارية كهربائية لاسطورة اميركا اللاتينية تشي غيفارا فانتبهت ساعتها على حقيقة كانت بمثابة الاكتشاف غير المتوقع وهي ان هافانا على اتساعها وجمالها ليس فيها أي تمثال لكاسترو

ولا اية صورة في الشوارع والساحات.

هل خدعونا كل هذا العمر بالايحاء بأن جميع الحكام الشموليين يشبهون بعضهم البعض وان طريقتهم الوحيدة للاستمرارهي الارهاب بالصوت والسوط والصورة؟

تماثيل هافانا تقول شيئا مختلفا عن تمجيد الماضي والحاضر فأمام حانة «فلوريديتا» التي حولها ارنست همنغواي الى احد معالم الثقافة العالمية يوجد تمثال لأحد المربين المميزين الذين ربوا الاجيال على الاحساس بالكبرياء والكرامة الانسانية، وامام كنيسة مبنية من القرن السادس عشر على ناصية ساحة هافانا القديمة هناك تمثال لسكير فرنسي احبه الهافانيون وتعاطفوا مع قصته الانسانية، فقد حضر كما تقول الرواية بحثا عن الثروة وعمل في منزل احد الجنرالات الاسبان، وبدلا من الثراء وجد نفسه بالسجن فقد اتهمه الجنرال بالسرقة ليتخلص منه فدخل السجن رغم براءته وظل فيه الى ان اخرجه الثوار الذين اقتحموا الجزيرة من جهة المكسيك.

وقد عبرت المدينة الرحبة ذات القلب الكبير عن تعاطفها مع ـ الكلوشار ـ الفرنسي باقامة ذلك التمثال الجميل الذي يتصور معه الزوار ثم يغزون السير باتجاه «بيت العرب» الذي يبعد عنه خطوات معدودات.

وليس ذاك البيت شارة العروبة الوحيدة فمعظم بيوت هافانا على الطراز الاندلسي وما كان لها الا ان تكون كذلك فقد توقف كريستوفر كولمبوس في «لؤلؤة الانتيل» لاول مرة عام 1492 وهي السنة التي صادفت خروج العرب من الاندلس ثم تبعه الجنرالات الاسبان وليس معهم من طراز مفردات الثقافة وطرز العمران غير ما تركه لهم «المورو» المطرودون الذين اختفوا كبشر لكن بصماتهم ظلت تحكم اسبانيا ومستعمراتها الى وقت طويل وظلت لغتهم تشكل النسيج الحي لمعظم مفردات الاسبانية المتعلقة بالعلم والطبيخ والعمارة.

اول قلعة انشت في هافانا القرن السابع عشر ما تزال تحمل اسم «مورو» وهي ذات القلعة التي صوروا فيها اجمل مشاهد فيلم جيمس بوند الاخير (مت في يوم آخر) حيث خرجت عروس البحر السمراء الشاسعة الفتنة، هيل بيري، من الكاريبي ثم توجهت نحو قلعة مورو وخلفها كالمسحور جيمس بوند الذي كان يحتسي المشروب الوطني الكوبي (موهيتو) والبقية معروفة فكل مكان يحل فيه عميلان بريطاني واميركي ينتهي مدمرا، ولك ان تضيف الاسبان الى هذه الخلطة فالدمار الذي سببوه لكوبا ولأميركا اللاتينية اكبر من الوصف وذلك قبل ان يتسلم الاميركيون منهم راية مواصلة تدمير قارة الموز والسكر والغابات الاستوائية.

لقد تأخر استقلال كوبا قرابة نصف قرن نتيجة ذلك الحلف غير المقدس بين مصالح الاستعمارين القديم والجديد. فقد قامت حرب الاستقلال الاولى عام 1868 واستمرت عشر سنوات وجاء من يسرق نتائجها، الى ان قامت حرب الاستقلال الثانية التي مهد لها خوسية مارتي وكان اول ضحاياها.

ان اسطورة مارتي في القرن التاسع عشر لا تضاهيها نضارة غير اسطورة غيفارا في القرن العشرين، فقد كان ذلك الشاعر الذي يصادفك اسمه فور نزولك من الطائرة على المبنى المتواضع لمطار هافانا الأب الروحي لكل حركات الثورة والتغيير في اميركا اللاتينية، وزاد من اسطرة حياته استشهاده في ساحة المعركة فالشعراء نادرا ما يموتون في ساحات القتال، لذا حصل له ذات ما سيحصل للورد بايرون الذي حوله موته في الحرب اليونانية ـ التركية الى رمز عالمي للاحرار والحرية.

خوسية مارتي الذي عاش منفيا ومسجونا معظم سني حياته القصيرة ليموت مع اول طلقات حرب الاستقلال الثانية له صورة نادرة في متحف الثورة قد تفسر لنا كعرب معضلة تحيرنا، فكل من قرأوا ماركيز ويوسا وبورخيس وغيرهم من اساطين الادب في تلك البلاد يلاحظون عطفا خفيا على العسكر والجنرالات على عكس الادبيات العربية التي تقف ضدهم على طول الخط وتكاد تجردهم من انسانيتهم على عكس ماركيز الذي نرى كولونيلاته وجنرالاته بلبوس بسيط وملامح فيها الكثير من الضعف الانساني الى درجة تجعلك تتعاطف معهم. وحين تقف في متحف الثورة الذي ما يزال مدخله يزدان بالرصاصات التي اسقطت «باتيستا» امام الصورة التي تجمع بين خوسيه مارتي المدني والعسكريين انتونيو ماثايو وماكسيمو غوميز تدرك ان شعراء الثورة وجنرالاتها حاربوا معا ووقفوا مع المصلحة الوطنية، ففي تلك الصورة التي تحمل تاريخ الخامس من مايو (ايار) قررالعسكريان تسليم القيادة للشاعر المدني الذي لم يكن يحارب بالقصائد وحدها، فالى جانب الصورة التاريخية سيفه ورسالة منه قبل يوم من استشهاده في الثامن عشر من مايو 1895 وجهها الى مانويل ميركادو يعلن فيها عدم قبول المساومة على الاستقلال الوطني.

ان قصائد هذا الشاعر ـ الرمز تقطر بساطة ومنها واحدة يؤكد فيها حبه للجبال على حساب البحر، لكنهم اختاروها لكتاب هافانا التي يلطمها بخصب شبق موج الاطلسي ليغري ويغوي بكل انواع الفانتازيا الممتعة يقول مارتي:

رجل متواضع انا من ارض النخيل

قبل موتي سأغني آهات قلبي

مع فقراء هذه البلاد

لأشاركهم ذات القدر

ينابيع الجبال تسعد روحي

اكثر مما تفعل امواج البحار

ومن عجائب هافانا ان عاشق البحر وعاشق الينابيع يتجاوران، فما ان ينتهي الزائر من ارث مارتي حتى يتوجه الى بيت ارنست همنغواي صاحب «الشيخ والبحر» خارج العاصمة هافانا. فهذه مدينة تغفو على شاطئ الاطلسي ولا تبعد كثيراً عن امواج الكاريبي، ولكل عاشق من سحرها نصيب، ولعل قدر همنغواي كان يدفعه دفعا باتجاهها. فأين تجد مدينة بهذه الرحابة وهذه الفتنة حتى لكأن الاطلسي فيها اعنف مما هو في غيرها من الوف الشواطئ التي يغازلها ويهاجمها.

البحر قدر همنغواي وقدر كل المتأملين لصيرورة الاقدار في تلاطمها وسعودها ونحوسها وقد نؤخر زيارة بيته الكوبي قليلا وهو المتحف الوحيد في العالم الذي تراه من الشبابيك دون ان يسمحوا لك بدخوله. لكن لا تقلق فالنوافذ كثيرة وفسيحة ولا تخفي شيئا، فكأن بيت همنغواي كله شباك كبير على هضبة ترى منها بحر هافانا البعيد وترقب شروق الشمس، وفجأة تتذكر تلك الرواية التي جعلت اسم همنغواي يحلق عاليا «الشمس تشرق ايضا» وهي التي استهلها ذاك الشغوف بالقدر والمصائر بعبارة لسليمان الحكيم من سفر الجامعة:

جيل يمضي وآخر يقبل

الارض تبقى الى الابد

والشمس تشرق ايضا

والشمس تنحدر الى المغيب

ثم تسرع الى حيث اشرقت

الريح تذهب صوب الجنوب

وتعود مرة اخرى الى الشمال جميع الانهار تصب في البحر

بيد ان البحر لا يمتلئ

ومن حيث تجئ الانهار

تعود مرة ثانية

ان الجزيرة الكوبية ـ لؤلوة الانتيل ـ حالة نموذجية لدراسة العذاب البشري تحت مظلة مختلف الثقافات، ودوما تبدأ المأساة من العبودية والملكية فكوبا في الزمن الاسباني الصعب كانت ارض العبيد والسكر، والثاني لا يزدهر ويحلو الا بمرارة اولئك الذين تعذبوا وعبروا وصاروا صورا في المتاحف الاميركية او لوحات زيتية على جدران اوروبا واشهر هؤلاء تجدهم في اعمال «دوبراي» في فرانكفورت الذي حرص بعد مائة عام من كولومبوس على ان يرينا عبيدا اصحاء يقتلون تمساحا على شواطئ هافانا عام 1592 دون ان يدركوا ان الخطر من تماسيح البر اكبر وألعن، ففي متحف الثورة قاعة خاصة بتاريخ العبودية لعلها ذات القاعة التي كان ينام فيها باتيستا وتضم اليوم قيود العبيد وصورا عن اساليب تعذيبهم واحراق بعضهم، وكله كي يشرب المستعمرون شاي العصر المحلى بالسكر الكوبي الذي ساهم في ازدهار تجارة العبيد، فقد كان في كوبا عام 1601 اربعة آلاف رقيق افريقي صاروا بعد قرنين نصف مليون انسان معذب، لذا لا غرابة ان تقترن ثورات الاستقلال بحركات الغاء العبودية قبل غيفارا ومارتي، ففي كوبا الغيت العبودية رسميا منذ عام 1886، اما فعليا فظلت سارية المفعول وظل رقيق السكر وقودا دائما لكل الثورات اللاحقة.

ان اجمل اغاني الجاز والبلوز خرجت من مزارع الفستق والسكر في الاميركتين وهناك من يفضل غناء عبيد الكاريبي على غناء عبيد الميسيسيبي، اما الاغلبية فتجزم ان رقص لؤلؤة الانتيل من النوع الذي لا يضاهى.

لقد تغير كل شيء في كوبا بعد ثورة كاسترو باستثناء الكباريه العالمي الاشهر «تروبيكانا» الذي يشهد على جزيرة قراصنة تعتق متمهلة احزانها وافراحها على شواطئ الفرح والدم، كما يشهد على كثافة ليالي الانس وجمالها في هافانا الديكتاتورية والعسكرية، فالرامبا التي خلطت الفن الافريقي بالفن الكاريبي وخرجت بمعادلة عالمية فنية ناجحة هي المتجذرة هناك رغم انف الجنرالات وارباب الصناعات السكرى فالثابت الوحيد في ليالي الانس الكوبية الكباريه الذي يواصل عروضه الممتعة دون انقطاع منذ عام 1930، ولا بد ان تكون من المحظوظين لتعثر على تذكرة لذلك الكرنفال من الالوان والرقصات الفولكلورية التي يصاحبها غناء شجي لا تعرف اميركا اللاتينية له مثيلا مع انها قارة الشجى والشجن والعذابات المعتقة والمستمرة بفضل جار السوء الذي وجد على الدوام جنرالات يتعاونون معه، وليس باتيستا الا آخر العنقود من ذلك الحبل الطويل من العسكر الذين لا يشبهون عسكر ماركيز الوطنيين البسطاء الطيبين باستثناء البطريرك.

ومما يحسب لآخر قلعة من قلاع الكبرياء الانساني انها لم تلغ تواريخ هؤلاء كما فعل الروس، فالجنرالات الغزاة إرثهم محفوظ في قلعة مورو والبقية في بيت الحاكم العسكري الاسباني الذي يطاول نخله السقوف وما يزال فيه الى اليوم طابق خاص للطواويس التي تسرح على راحتها على درج القصر البديع وتغازل الزوار وتفرش ذيولها لتغويهم، وسبحان خالق الطواويس الذي اعطاهااجمل الاشكال الملونة وحرمها من الصوت الجميل، فصوت الطاووس الذي تسمعه بكثافة في بيت الجنرالات يؤكد لك انه ما من كائن ينافس الحمار في قبح الصوت غير الطاووس.

لكن هل هناك شبه بين الجنرالات والطواويس؟

في قبح الصوت والرسالة نعم، وكذلك في الخيلاء، فملابس الجنرالات ومشيتهم كما تراهم في التماثيل التي نجت من الشباشب، فيها الكثير من خيلاء الطواويس الذين لا ينقلب عليهم احد، فهم في عصر كاسترو كحالهم في عصر كريستوفر كولومبوس ما يزالون يفرشون ريشهم الجميل ويباهون بذيولهم التي تتحول في الايام المشمسة الى كرنفال الوان الكاريبي.

ان بيت الجنرالات الذي بني عام 1776 صار مقرا لقوى الاستقلال الوطني ثم متحفا اجمل من القصر الجمهوري الذي صمموه على غرار قصور اللواوسة الفرنسيين قبل ان تصادره الثورة لتراثها. فقد رفض كاسترو ان يسكن فيه بعد انتصار الثورة وبقي يحكم من فندق هيلتون الذي حول اسمه الاميركي الى «هافانا الحرة» ثم انتقل للعيش في مكان لا يعرفه احد. وقبل الكوبيون ذلك على مبدأ ان الحياة الخاصة للقائد لا تعني شعبه، لذا هم لا يعرفون ايضا كم امرأة عنده ولا كم ولدا، وقد سألت الدليلة الكوبية السمراء: ولكن ماذا عن غيفارا ؟ فقالت: ماذا تعني بالضبط.

قلت: اين وزارة الصناعة التي كان وزيرها؟ فأكدت انها الغيت، ثم سألت عن البنك المركزي الذي كان مديرا له، فقالت ليس له مقر فالمكتب الوحيد الذي مارس منه غيفارا عمله الرسمي هو الآن داخل مبنى وزارة الداخلية الذي تحتله صورته المواجهة لتمثال خوسيه مارتي الذي لن يزيحه احد عن موضعه، ولن يضربه الناس بالشباشب، فهناك فرق كبير وخطير بين التمثال الذي يقيمه المتحكم لنفسه وذاك الذي يقيمه بعد رحيله محبوه.

وما يزال عندنا عن هافانا الكثير من الانس مع همنغواي وغيفارا وغيرهما من الذين احبوا تلك المدينة الساحرة المفتوحة للشمس والعصافير والسيجار والامواج القدرية والبحرية التي قد تفيق

قريبا على مشهد إسدال الستار على حقبة من اخصب حقب التاريخ الانساني في جزيرة قراصنة اوشكت ان تكون شبه منسية لولا رجال ونساء حولوها وتحولوا معها الى اساطير نضرة تستحق ان تروى

في زمن يوغل في الظلم والبلادة.