الهزل أكبر اكتشاف في العصر الحديث

مقاطع من كتاب سيصدر قريبا للكاتب التشيكي ميلان كونديرا

TT

بعد «فن الرواية» و«الوصايا المغدورة» اللذين خصصا لفن الرواية الحديثة من خلال اقطابها الكبار، يستعد الكاتب التشيكي الكبير ميلان كونديرا لاصدار كتاب جديد حول الموضوع ذاته ـ أي فن الرواية ـ تحت عنوان: «الستار الممزق». هنا مقاطع من هذا الكتاب الجديد:

* الهزل:

* في «دون كيخوته» نستمع الى ضحك كما لو انه طالع من المسرحيات القروسطية: فنحن نضحك من الفارس ومن خادمه الذي يتلقى ضربات متتابعة، لكن ما عدا هذا الأمر الهزلي الذي عادة ما يكون مقولبا وفاقدا للأصالة، وقاسيا، يتيح لنا سارفنتس ان نستمتع بهزل آخر، اكثر حذقا وبراعة. رجل نبيل من الريف يدعو دون كيخوته الى بيته الذي سكنه مع ابنه الشاعر. وهذا الابن الذي هو اكثر صفاء من الناحية الذهنية من والده. يشعر في الحين ان الضيف رجل مجنون ويروق له ان يحافظ جهارا على المسافة بينهما، ثم يدعو دون كيخوته الشاب الى قراءة شعره. ومتسرعا يلبي الشاب الطلب ويمدح دون كيخوته موهبته بشكل بليغ، ومسرورا ومغترا بما سمع، يجد الشاب نفسه مبهورا بذكاء الضيف فينسى في الحين جنونه، من هو الأكثر جنونا، المجنون الذي يمدح الشاب الصافي الذهن، ام الشاب الصافي الذهن الذي يعجب بمديح المجنون؟ نحن دخلنا دائرة هزل آخر، اكثر رشاقة، ونفيسا للغاية، ونحن لا نضحك لأن هناك احدا جعل نفسه اضحوكة، وموضوعا للسخرية، وانما لان هناك واقعا تجلى فجأة في لبسه وغموضه، والأشياء فقدت مفهومها الواضح، والناس يظهرون مختلفين عمّا هم يتصورون. هذا هو الهزل. الهزل الذي بالنسبة لاوكتافيوباث هو «اكبر اكتشاف» في العصر الحديث والذي يعود الى سرفانتس والى الرواية الحديثة. وانا دائم العودة الى هذه الفكرة الهائلة لاوكتافيوباث: الهزل ليس غريزيا في الانسان انما هو احد مكتسبات ثقافة العصور الحديثة (وهذا ما يعني انه حتى في يومنا هذا، يظل صعب المنال على الجميع وان لا احد باستطاعته ان يحدس كم من الوقت يمكن لهذا «الاكتشاف الكبير» ان يظل بيننا).

الهزل ليس شرارة تنبثق لوقت وجيز عند خاتمة حالة مثيرة للضحك او لقصة هدفها اضحاكنا. نوره الخفي ينتشر على المشهد الشاسع للحياة. لنحاول كما لو ان الأمر يتعلق بفيلم، ان نشاهد للمرة الثانية ما كنت قد رويته سابقا: الرجل النبيل واللطيف يأتي بدون كيخوته الى قصره ويقدم له ابنه الذي يعجل بأن يظهر للضيف الغريب في طبعه تحفظه وتفوقه عليه، لكن في هذه المرة نحن على علم بذلك، فقد كنا رأينا من قبل الغبطة النرجسية التي استحوذت على الشاب عندما قام دون كيخوته بمدح قصائده. وعندما نشاهد بداية هذا المشهد من جديد يبدو لنا سلوك الشاب في الحين دعيا، وغير منسجم مع سنه، وانه مشهد هزلي منذ البداية. وهكذا ينظر الى العالم انسان ناضج تتكوم وراءه كثير من التجارب حول الطبيعة البشرية (وهو ينظر الى الحياة باحساس من يشاهد فيلما كان قد شاهده من قبل) وقد كفّ منذ زمن بعيد عن ان يأخذ بعين الاعتبار جدية الناس الآخرين.

* النسيان الذي لا ينسى:

* في عام 1975عقب اشهر من مغادرتي والى الأبد بلدي الصغير المحتل من قبل الجيش الروسي، وجدت نفسي في المارتينيك، ربما لبعض الوقت، كنت اريد ان انسى وضعي كمهاجر، غير ان ذلك كان مستحيلا، اذ كنت مفرط الحساسية لمصير البلدان الصغيرة وهناك في المارتينيك كان كل شيء يذكرني ببلدي. ثم ان لقائي بهذه الجزيرة تم في وقت كانت فيه ثقافتها تحاول بحماس كبير البحث عن خصوصيتها. ماذا كنت اعرف عن المارتينيك؟ لا شيء، فقط اسم ايميه سيزار الذي قرأت له اشعاره مترجمة في مجلة طليعية تشيكية عقب الحرب الكونية الثانية وانا في السابعة عشرة من عمري، لذا كانت المارتينيك بالنسبة لي جزيرة سيزار. وبالفعل هي بدت لي هكذا عندما وصلت اليها. كان سيزار في ذلك الوقت رئيسا لبلدية «فورت دي فرانس». وقد رأيت خلال الايام التي قضيتها هناك، قرب البلدية، جموعا كانت تنتظره لتتحدث اليه، ولتبوح له بمشاكلها، ولتطلب منه نصائح، ومن المؤكد انني لن أرى أبدا اتصالا حميميا وجسديا كذلك الاتصال بين الشعب وبين من يمثله.

الشاعر كمؤسس للثقافة، ولأمة، هذا شيء عرفته جيدا في اوروبا الوسطى، حيث عشت. هكذا كان كاريل هيناك ماشا في تشيكيا، وادام ميكويكز في بولونيا وساندور بيتوفي في هنغاريا، غير ان ماشا كان شاعرا ملعونا، وميكويكز مهاجرا، وبيتوفي ثوريا شابا قتل في عام 1849 خلال احدى المعارك، واذن لم تسمح لهم الحياة بأن يعيشوا ما عاشه ايميه سيزار: الحب المعلن عنه بوضوح من قبل مواطني بلده، ثم ان سيزار ليس رومانطيقيا من القرن التاسع عشر، لقد كان شاعرا حديثا، وريثا لرامبو وصديقا للسورياليين. واذا ما كان ادب البلدان الصغيرة في اوروبا الوسطى منغرسا ومتجذرا في الثقافة الرومانطيقية، فإن أدب المارتينيك وكل جزر الانتيل ولد (وهذا ما يثير اعجابي!) من رحم الفن الحديث. قصيدة سيزار لما كان شابا: «العودة الى البلد الأم» 1939 هي التي فجرت كل شيء بعودة الزنجي الى الجزيرة التي يسكنها الزنوج. دون أي رومانسية، ودون أي امثلة (سيزار لا يتكلم عن السود، وانما هو يتكلم قصدا عن الزنوج)، تتساءل القصيدة المذكورة بشراسة: من هم يا الهي هؤلاء الزنوج الذين يسكنون جزر الانتيل لقد جلبوا من افريقيا خلال القرن السابع عشر، لكن من أين بالضبط؟ والى أي قبيلة هم ينتمون؟ ماذا كانت لغتهم؟ لقد نسي الماضي. شنق، شنقَ برحلة طويلة في قعور البواخر، بين الجثث او الصيحات، والدموع، والدم، وحوادث الانتحار والاغتيال. لا شيء تبقى بعد هذا العبور عبر الجحيم. لا شيء غير النسيان. النسيان الجوهري والمؤسس.

صدمة النسيان التي لا يمكن نسيانها حولت جزيرة العبيد الى مسرح للأحلام، ذلك انه فقط بالاحلام تمكن سكانها من ان يتخيلوا وجودهم ذاته، وان يبتكروا ذاكرتهم الوجودية. وصدمة النسيان التي لا تنسى رفعت الرواة الشعبيين الى منزلة شعراء الهوية. وقد احببت روائيي المارتينيك كثيرا (ليس هم فقط وانما ايضا روائيي هايتي مثل رنيه ديباستر المهاجر مثلي وجاك ستيفان الكسيس الذي قتل من قبل الفاشيين عام 1961 تماما مثلما حدث للروائي التشيكي فلاديسلاف فانكورا الذي اغتاله النازيون والذي كان من احب الكتاب لدي في بداية مسيرتي الأدبية). ان شاعرية رواياتهم كانت دائما جد متميزة (الحلم، السحر، الطرافة، الخيال المبدع الخ... كل هذا يلعب دورا استثنائيا) وجد هام ليس فقط بالنسبة لجزيرتهم وانما بالنسبة للفن الحديث للرواية (وهذا شيء جد نادر اريد التأكيد عليه).

* مسرح الذاكرة:

* في Terra Nostra (عام 1975) لكالرلوس فيونتاس، هناك عالم مجنون يملك مخبرا مثيرا للفضول: «مسرح الذاكرة»، حيث هناك طريقة خارقة تخول له ان يستعرض على الشاشة ليس فقط الاحداث التي وقعت وانما ايضا تلك التي يمكن ان تقع، وحسب هذا العالم المجنون، الى جانب «الذاكرة العلمية» هناك ايضا «ذاكرة الشاعر» التي باضافتها للتاريخ الواقعي الاحداث التي كانت محتملة الوقوع، تحتوي على «المعرفة الشاملة للماضي الشامل». وكما لو انه متأثر بعالمه المجنون، يقدم لنا كارلوس فيونتاس الشخصيات التاريخية الاسبانية خلال القرن السادس عشر، الملوك والملكات، غير ان مغامراتهم لا تتشابه مع ما حدث بالفعل. وما يعرضه كارلوس فيونتاس على شاشة «مسرح الذاكرة» ليس تاريخ اسبانيا، وانما رؤية خارقة حول موضوع تاريخ اسبانيا. وهذا ما يذكرني بمقطع جد طريف في «هنري الثالث» (1974) للكاتب كازيميوز برانديس: في جامعة امريكية، يدرّس مهاجر بولوني تاريخ ادب بلاده. وعالما بأن احدا من طلبته لا يعرف شيئا عن ذلك، يبتكر هدف التسلية، ادبا خياليا، مكونا من أدباء ومن اعمال أدبية لا وجود لها البتة. وفي نهاية السنة الدراسية، هو يعاني مندهشا ان التاريخ الخيالي لا يختلف كثيرا عن التاريخ الحقيقي وانه لم يبتكر شيئا لم يحدث وان كل تصوراته تعكس الأسس الجوهرية للأدب البولوني.