نص مسرحي يعرب رؤية شكسبير

المخرج المسرحي العراقي جواد الأسدي يدعونا في كتاب جديد له إلى نسيان هاملت

TT

ماذا تعني ولادة هاملت جديد يضاف الى مئات بل آلاف النسخ المعدلة او المنقحة او الممسوخة، واحياناً كثيرة، المنقلبة على الصورة الاصل لهذا الامير الدنماركي الذي يشغل الادباء والمسرحيين منذ صاغته عبقرية شكسبير عام 1601.

اما كان باستطاعة المخرج العراقي المعروف جواد الأسدي ان يبتكر شخصية يحملها شجونه وقلقه الابداعي والقومي بدل ان يعود الى هاملت تلك الشخصية التي نعرفها جيداً، فينسفها ويرمم حطامها وينبت في كيانها وجداناً مكسوراً ومهزوماً، ويقول لنا بصيغة آمرة، قاطعة «انسوا هاملت» ذاك الذي عرفتموه من قبل. وهاكم هاملت آخر يشبهكم لأنه وليد اللحظة العربية الراهنة بكل فجاجتها وقبحها وعقمها. ولكن كيف لنا ان ننسى شخصية هاملت التي انتصرت على النسيان، وتحولت الى نموذج عابر للآداب والازمنة.

والحقيقة انك إن اطعت امر الكاتب حرفياً وتاهت عنك حيلته الادبية الماكرة خسرت وفوَّت على نفسك لذة قراءة كتابه الجديد الصادر عن «دار الفارابي» والذي يضم اضافة الى مسرحية «انسوا هاملت» نصاً مسرحياً بعنوان «حصان الليلك» وكماً لا يستهان به من الغضب الاستفزازي.

اما النص الاول فلن تنكشف امامك فخاخه ووهاده الا بإدارك انحرافاته الجذرية عن النص الاصل وتركيزه المر على وقاحة التسلط مقابل تصاعدية حالكة، مرضية، لحالات التخاذل والصمت المريعين.

اذن، يشكل النص ادانة صارخة لا تستثني احداً ولا تبرئ سيداً او مسوداً، بعد ان ينقض جواد الاسدي على الشخصيات الشكسبيرية ويلوي اعناقها، واحياناً، مصائرها ايضاً.

فهاملت الذي يفترض انه يجمع التأمل الروحاني اليائس الى القدرة الخارقة على الفعل الشرس، يجرد من ادنى قدرة له على المبادرة، فإذا به مخلوق بارد كلوح ثلج، جامد الحس كتمثال من جبس. وهو لا يحرك ساكناً لمقتل ابيه ملك الدنمارك على يد عمه كلوديوس، واغتصاب هذا الاخير للسلطة وانتزاعها من بين يديه. ولا يبدو هاملت مهتماً باغتيال صديقه لايرتس او بخسارة حبيبته اوفيليا او حتى بخيانة امه لأبيه. بل وتبلغ به البلادة حداً لا يطاق، حين يدخل جنديان غرفته لقتله فيغلق عينيه منتظراً الطعنات التي ستسدد اليه، ليسلم الروح ويرحل بأمان الى حيث الخلاص الابدي.

ولإبراز اقوى واعنف لخطورة الحالة التحنطية التي يعيشها هاملت، فإن جواد الاسدي يجعل «الجريمة النكراء التي تعرض لها والد هاملت واضحة جلية كعين الشمس». والجناة يشار اليهم بالبنان ويتخلى الكاتب تماماً عن فكرة طيف الوالد القتيل الذي يزور ابنه ويطالب بالثأر ويترك هامشاً للالتباس والشك والتردد في نفس هاملت.

انما نحن هنا امام اغتصاب مفضوح لروح وسلطة، وامام صاحب حق قرر ان الصمت بانتظار الموت هو الحل الامثل رغم انه على معرفة يقينة لا بدموية عمه فقط وانما بتورط امه الملكة غرترود ايضاً بتدبير الاغتيال لتتزوج من عمه. وغرترود هذه ستتآمر طويلاً قبل ان تنفجر غضبتها، وقد افلت كل شيء من يدها، واصبحت مقصلة الزوج الجديد انشط من ان توفر حياة احد بما في ذلك حياتها هي.

الوزير بولونيوس لن يموت بسيف هاملت ـ كما هو معروف ـ لأن هاملت بنسخته الاسدية او العربية الراهنة، بات اعجز من ان يسدد طعنة. وسينغمس بولونيوس في اثم محاباة السلطة غير آبه بمصير ولده لايرتس وابنته اوفيليا. ورغم ان الكاتب يجعل من هاتين الشخصيتين الى جانب هوارثيو، صديق هاملت، نواة اعصار احتجاجي يمكنه ان يعصف ويسحق ويحقق انتصاراً تصحيحاً ما، إلا ان الامور تسير باتجاه القمع والاخماد وقطع الرؤوس بينما يغرق هاملت في حمى تساؤله العقيم: «نكون او لا نكون» ويصم اذنيه عن الصرخة الهستيرية التي يطلقها لايرتس: «كن ولو لمرة واحدة يا جرذ».

حاول جواد الاسدي ان يقضي على المساحات الرمادية في «هاملت» وان يذهب بشخصياته الى واحدة من هاويتين متوازيتين ومتناقضتين في آن معاً: اما هاوية الاستبداد والتسلط وسفك الدماء او هاوية الخنوع والاستسلام. فالذين لم يشاركوا الطاغية تلذذه بطعن الاجساد وقطع الاعناق وغرز الحقد في القلوب وجدوا انفسهم امام مصير واحد، فهاملت استسلم لقاتليه عن طيب خاطر، وحبيبته اوفيليا انتحرت وكذلك فعلت امه التائبة عن غيّها بعد فوات الاوان.

والمفاجأة المشاكسة التي يسدل عليها الستار هي ابقاء القتلة والمستبدين احياء حتى اولئك الذين اختار شكسبير ازاحتهم، بينما قضى الابرياء، ربما ليدفعوا اعمارهم ثمناً لسذاجتهم وجبنهم. وهي رؤيا تثأر من الضعفاء وتعاقبهم على تخاذلهم حتى في النص الثاني من الكتاب الموسوم «حصان الليلك» حيث يتم تقسيم الشخصيات بوضوح فاقع الى ساده ومسودين او متسلطين وعبيد. وابرز هؤلاء العبيد «خيون»، سائس الخيل الذي يستمد اسمه لا من جبنه وانما من خيانته التي لن تنكشف الا في اللحظة الاخيرة. وكأنما الجبن والخيانة صنوان عند جواد الاسدي.

«عشرون سنة من الاحتقار المتبادل، تصوري انه يبصق على وجودي، ويقتحمني وينتهكني ويجثم على نومي». هكذا يصف خيون علاقته بسيده امام صديقته فطوم. ومع ذلك فهو يتصرف كما لو كان يحبه ويخلص له.

في «حصان الليلك» ينجح جواد الاسدي في رسم شخصية السيد قاسية ومدمرة لا بفعل حضورها الصوتي والجسدي وانما بفعل شبحيتها وفرضها كلعنة منزّلة لا نقبض الا على آثارها البغيضة ووهجها المخادع. فالسيدة الفاتنة دليلة والتي هي على نقيض دليلة شمشون تستميت في حب السيد مع انها لا تراه، وتستجدي مقابلته، رغم انه لا يريدها. وتستبدله بالسائس الفقير حين يفلح هذا الاخير في استعارة بعض مظاهر الاسياد وبهرجتهم.

لكن الشخصيتين الاساسيتين هما السائس «خيون» وحصانه الاثير «الرمَّاح»، اللذان يقدمهما السيد هدية ثمينة الى صديقه.

«الرمّاح» كما يدل اسمه يرمح كسهم ويندفع، ويتوثب، وينافس، ويكسب الجولات دون منازع. و«الرمّاح» ينتظر منه ان يسدد الرماح بغزارة وان يقتل ولا يُقتل. وقد فعل السائس المطعون في كرامته وانسانيته كل ما يلزم ليكبر فرسه، الذي هو بمثابة ابن له، مشحونا بالتمرد والجموح.

لكن «الرمّاح» كان يكفيه ان يكبو مرة واحدة، وان يخسر مرة واحدة ليستحق السحق والفناء بأمر من السيد الجديد. ويأتي الحكم على «الرمّاح» بالاعدام بمثابة قتل مزدوج للسائس وحصانه. فالسائس «خيون» الذي ادمن عبارة: «حاضر سيدي» سينفذ الأوامر بحذافيرها ولو كان، في الامر، خيانة لروحه ونحراً لها فنراه: «يذهب، يأخذ البندقية، ويضع الطلقات... بصمت طويل وبألم شديد: يطلق خيون الرصاص على الرمّاح فيموت. ريح خفيفة تتصاعد: خيون يجلس على مقربة من الحصان كما لو كان حارس الموتى الابدي».

هكذا تتضاءل المسافة الى حد التلاشي بين خيون الذي قتل جموحه المرتجى برصاصات الاستسلام وبين هاملت الذي استدعى الموت هرباً من معاركة الحياة.