غراب رمادي أحمق

ربعي المدهون

TT

مثل رذاذ مطر صباحي اتسلل من البيت، اترك سكان «بولتون رود» في ناحية «غروف بارك» في ضاحية «تشيزيك» اللندنية الهادئة، التي بدت لي حين انتقلت اليها تكافح كي تبدو راقية، يمددون سيقانهم في اسرتهم كسلاً. المطر لم يتوقف طيلة الليل، وما تبقى منه هذا الصباح، بعض رذاذ يخجل من الاعلان عن نفسه بقوة، رافقني من بوابة البناية رقم 19، حتى المقعد البلاستيكي السميك، الذي يظلله سقف مماثل، في محطة الباصات.

اجلس في منتصف المقعد بالضبط، لسبب لا اعرفه، انتظر الباص رقم «اي ـ 3»، الذي سيقلني الى ضاحية «آكتون» القريبة، عبر «تشيزيك هاي ستريت». وظهر هو مثل كتلة ضباب تائهة في عاصفة القت به فجأة في المكان، وقد افقدته ملامحه، او هكذا بدا لي في مثل هذا الصباح المكحل بلون الغيوم، قبل ان اتبين فيه وهو يقترب رجلا مربوعا ، ممتلئا بعض الشيء، بمظهر من تخطى الاربعين رغما عنه، لأن ذلك لم يكن ليحدث ابدا برغبة منه، وهو مثلي لن يستشعر ذلك الا بعد فوات الاوان، وسيقول ما قاله القاص الفلسطيني رسمي ابو علي، عندما بدأ يتلمس طفولة شيخوخته، مع ان الحمل بكهولته بدا ظاهرا في السنوات الاخيرة التي لم اره فيها: «لن اعترف بذلك ابدا..». ثم تساءل مضطرا الى الاعتراف: «كيف تسرب العمر من بين اصابعي؟».

يجلس قبالتي على المقعد المكشوف لبعض الرذاذ الذي كان قد توقف تماما، لكي يعفيه من الاضطرار للانتقال الى جواري. لا يلقي بالتحية، وهو ليس مضطرا لأن يفعل على اية حال، وانا لم اكن لاعاتبه ابدا، لذا اقبل صمته، وارد عليه بصمت افضل منه، مكتفيا بالتعرف على لون بشرته، وتفاصيل ملامحه التي تمنحه هيئة ايراني او تركي، وربما عراقي بلا شوارب صدَّامية، مما اصبح شائعا خارج الصورة النمطية في الصحافة الغربية، التي تقدم صدام وحطام ولحام ودحام ولطام ونمام ولمام وسطام وسخام وكمام وزمام وسمام ووطبان وكفران ودحمان وزحمان وطفران وفطسان وخيبان، مثل جنود رقعة شطرنج خرجوا من قالب واحد.

ينعق غراب اسود. يشد نظري اليه، كان قد توقف فوق درابزين جسر المشاة الخشبي المرتفع المعلق فوق سكة حديد القطار، الذي ينتقل عبره المارة على جانبي المحطة. قالت امي ان ام محمد الاستاز (وهذا هو اسم عائلته المجدلية، وهو لم يكن استاذا او مدرسا ابدا، وامي تلفظ اسمه مثل الجميع «استاز»)، قالت ان ام محمد هذه، حلفت ايمانا غليظة، ان غرابا اسود، سمته «غراب البين»، توقف فوق سور بيتهم، قبل اربع وعشرين ساعة فقط من مقتل ابنها الوحيد، ونعق ثلاث مرات: قاق قاق قاق، وكان يهز رأسه وذيله. ثم عاد ونعق ثلاث مرات أخرى، وان ام محمد، على حد قولها، سمعت الغراب ينطق، يا سبحان الله، مثل بني آدم، ويقول: هناك..هناك..هناك.. وكان طرف منقاره يشير الى سرير محمد. رفعت العجوز وجهها الى السماء بالدعاء: اللهم اجعلو خير.. اللهم ابعد الشر عنا وعن جميع عبادك الصالحين..وفي الصباح اطلق جندي اسرائيلي النار على محمد. كان اعتدل في سريره عندما سمع الجنود في الخارج يصرخون: اطلع يا خمار.. اطلع يا خمار. انتفض وقام من طوله ووقف مثل عود الخيزران يا حبة عين امه.. وترنح ترنح ترنح.. وسقط على السرير، وتغطى بدمه. حارتهم كلها قالت ان عيني ام محمد ظلتا ترشان دمعا جرى في قنوات صبت دفقها عند عروق خمس شجرات ليمون عند الطرف الشرقي للمخيم، أطلقن في الخريف زهرا احمر مثل حزن عينيها. مات محمد الاستاز صبيحة الثالث من نوفمبر عام 1956، بعد اقل من ساعتين على سقوط مدينة خان يونس بيد جيش الاحتلال الاسرائيلي. قلت لأمي: «يمَّه فيه ميتين وخمسين واحد انقتلو من غير نعيق غربان، لا قاق ولا ماق.. اصلا خان يونس ما فيهاش عشر غربان". قالت بعصبية: "طب اسكت..انت ايش فهمك».

يطير الغراب، ساحبا معه نعيقا اضافيا، أتابعه بعيني. يتلون رماديا ويذوب في كتلة الغيوم فوق رأسي.

ـ ناستي ويذر (طقس رديء).

يقول الغريب وكأنه جاب شيئا من دار ابيه. فمتى كان الطقس غير «ناستي» إذن.

اجيبه انا بكلام اكثر من فارغ وتافه وتقليدي، يشبه العزاء الذي لا يعيد ميتا (كأنه يمكن اعادة ميت الى الحياة):

ـ انني انتظر في هذا الجو «الناستي» منذ اكثر من ربع ساعة. مر باص متجها نحو المحطة الاخيرة، ثم ثان، وثالث، ولم يعد أي من الباصات الثلاثة.

يعقب بكلام يكشف لي انه امضى وقتا ليس بالقليل في لندن، وربما في تشيزيك ايضا:

ـ سائقو الباصات يتجمعون عند المحطة الاخيرة ويلعبون ورق الشدة.

ونضحك «مثل طفلين معا». هاهاها ه ه ه.... ويشجعني ضحكه على السؤال:

ـ بالمناسبة من اي بلد انت؟

ـ اجبشن.. مصري.

وينظر في وجهي مباشرة كمن يستجوب ملامحي.

اقول بلكنة مصرية مرحة:

ـ الله.. طب ما تقول كدة م الصبح يا راجل، اهلا وسهلا.. تشرفنا يا افندم.(وأصر على يا افندم والا تكون مصريتي ناقصة، مع انه لم يثبت لي حتى اللحظة ان الرجل افندي).

يصمت كمن دلقت عليه جرة ماء باردة. واتابع انا مندهشا:

ـ الله.. مش حضرتك قلت انك مصري؟!

يواصل صمته، ويرفع اليَّ عينين مضطربتين، سرعان ما يصفعانني بنظرة تردد غريبة، وكلمتين لم اتوقع سماعهما:

ـ انا اسرائيلي.

اقول لنفسي: ولماذا يغطي نفسه برداء مصري.. ثم لماذا يخفي جنسيته، كأنه في معسكر في وارسو القديمة، لا غوستابو هنا في تشيزك نصف الراقية؟ اشن عليه هجوما سلميا اختباريا بلا تردد: ـ

شالوم شالوم..

لا يرد تحيتي. ما الامر هذه المرة.. اسرائيلي لا يتحدث العبرية؟ حسنا، ولا يعرف ايضا، كلمة يعرفها العالم كله الباحث عن حل لم يتوفر بعد للصراع العربي ـ الاسرائيلي: عن شالوم لهم وعن سلام لنا؟. تنتابني حيرة، وقلق وانزعاج استراتيجي: اتمنى لو استعيد منه شالومي التي القيتها عليه مرتين لتتردد مثل ستيريو..اريد سلامي الستيريو من هذا الغريب الذي لا يقدِّره. اما هو فيحاول صد الهجوم وتجاوز مأزق ما لا اعرفه:

ـ وانت .. من اين؟

ـ أني م اشكلون.

أقول بعبرية سليمة، مصرا على كشف حقيقته.

يرد بالانجليزية رافضا «عبريتي»:

ـ انا من حيفا.. هل تقيم انت في اشكلون؟

ـ كلا، انا فلسطيني. اؤكد.. واتابع: منذ هاجرت عائلتي اثر النكبة، من المجدل عسقلان، عام 1948، قبل ان تقام اشكلون الاسرائيلية الى جوارها، وتستعير اسمها القديم.. كانت عسقلان عاصمة الفلسطينيين قبل خمسة آلاف عام، منذ ذلك الحين، وكنت في الثالثة من عمري، لم اعد الى المجدل عسقلان، هكذا كان اسمها، بقية عائلتي لم تزل في قطاع غزة.

يمر باص رابع في الاتجاه الذي لا نريده، لكن رفيق الانتظار لا يلتفت اليه، بل يعلق بنبرة عدوانية محايدة، (مع ان العدوانية لا تعرف الحياد):

ـ العدوّان اذن!

ـ لم لا تقول الجارين؟

لا يجرؤ على قولها، ولو قالها مكرها، لرددت عليه بالقول: خرايا عليك وعلى هيك جيرة. لكنني لا افعل، ولا اعرف لماذا لا افعل.

يحطُّ غراب اسود فوق سطح المحطة، فوق رأسي تماما، لكنه لا ينعق، بل يطير ثانية ويحلق بعيدا، ولا ادري ان كان هو نفسه الغراب الاول الناعق ام لا، لكنه يعيد الي صورة محمد الاستاز يتلحف دمه.

يرد الغريب علي:

ـ مستحيل.

أسأله:

ـ لماذا؟

ـ انه الارهاب.

ـ ارهاب من..ارهابنا نحن ام ارهابكم، من منا يحتل بلاد الآخر؟

ـ باكستان تمتلك قنبلة نووية، وايران تسعى الى انتاج قنابل مماثلة..انهم يهددوننا.

أشعر بكلماته مثل حجارة مستوطنة تبنى فوق قلبي.. لكني لا املك سوى متابعة الحوار، الذي يجعل من دردشتنا حول الطقس والباصات تسلية عظيمة. يمر باص خامس في الاتجاه نفسه، هذه المرة انا من لم يكترث له. اما هو فيقول ان سائقي الباصات الاربعة، وهذا سيلحق بهم، غارقون في لعبة ورق مسلية وقد نسوا عملهم.

لا اكترث لتعليقه:

ـ حسن.. اين تنتهي حدودكم الامنية اذن؟

يسكت، وتبدو لي مخاوفه ممتدة الى حوافي الكرة الارضية قبل ان تعود الى اسرائيل وتعثر على الفلسطينيين هناك، وتتذكر انهم الخطر النووي الاول..

أصمت بدوري. الغراب لم يأت ثانية، بل الباص الذي سنصعد اليه هو الذي أتى اخيرا.

ينهض الغريب ويسبقني صاعدا الى الباص. يجلس في المقعد الاول خلف السائق مباشرة، يريد اجباري على تحديد شكل العلاقة على امتداد الطريق الذي يسلكه الباص. يترك لي حرية اختيار مقيد. اقرر: لن اجلس الى جواره بالطبع، ولن افعل حتى لو كان جواره خاليا، مع انه لم يكن كذلك. بل اجلس في مكان بعيد. أجد مكانا في المقعد الاخير. ويمضى الباص باتجاه السوق الرئيسي، تشيزيك «هاي ستريت». وخلال الدقائق السبع التي يستغرقها الباص للوصول الى هناك، بعد توقف اجباري عند ثلاث محطات، لا يفارقني سؤالي الاخير: هل عنت مبادرتي بطرح السلام شيئا لهذا الاسرائيلي؟

اسأل نفسي واكرر عليها السؤال وانا اتطلع الى قفا رأسه، كأنما اريد ان احشوه بالسؤال: لماذا ترفض سلاما طرحته عليك. يتوقف الباص في «الهاي ستريت» قبالة سوبر ماركت «سانزبري». ينهض الرجل من مقعده. كيف سيكون الفراق؟ اسائلني وعيناي تتابعان حركته. يخطو نحو الباب، يمسك بالعمود الحديدي الطويل المجاور، وفجأة يلتفت خلفه كمن نسي شيئا. تنمو على شفتيه شبه ابتسامة غامضة. يرفع يده بالتحية.. ويتمتم من بعيد....اظنه يقول .. شالوم، ويكررها عدة مرات.

أهز له رأسي، ولا اتمتم. يهبط من الباص، ويغوص في الزحام مثل غراب رمادي، يختفي في كتلة ضخمة من غيوم لندنية... يتابع الباص رحلته، وتشيزيك لم تزل تمدد سيقانها في الفراش كسلا. سكانها لم يتبادلوا أي تحية بعد.

[email protected]