إبراهيم القرشي: أرجع عبد الله الطيب دعاوى التجديد لدى نزار والبياتي إلى الإفك والتزوير

أحد تلاميذ العالم السوداني يتحدث عن تأثيرات أستاذه وسيرته الثقافية

TT

غيّب الموت في التاسع عشر من يونيو (حزيران) الفائت، الدكتور عبد الله الطيب، الذي يُعدُ واحداً من أبرز أعلام الثقافة العربية في عصرنا الحاضر، بما كان له من أثر وآثار في إثراء وإغناء ساحة الفكر العربي، بعلميته الموسوعية، ومناشطه البحثية وآرائه الجريئة، وتلامذته المئات من مختلف الأقطار.

والدكتور إبراهيم القرشي عثمان، أستاذ النحو والصرف بجامعة الملك سعود، هو أحد أبرز تلاميذ الراحل، وأقربهم إليه، وأكثرهم معرفةً بحياته وأعماله ومآثره الفكرية. وهنا لقاء معه يتحدث فيه عن أستاذه الطيب بداياته وتعليمه وآرائه النقدية.

* ما الذي تعرفه عن بدايات عبد الله الطيب؟

ـ أستاذنا عبد الله الطيب عبد الله المجذوب، هو أبرز وأشهر علماء السودان في الدراسات اللغوية العربية والإسلامية في العصر الحديث. ولد في سنة 1921 في أسرة المجاذيب بمنطقة الدامر على نهر النيل في شمال السودان، والتحق بالخلوة (الكتاب) في سن السادسة وحفظ القران على الشيخ الطاهر. وله في الخلوة ذكريات مفيدة وممتعة مرّ بها في كتابه «حقيبة الذكريات». وهو خريج كلية غردون (جامعة الخرطوم) وحصل على الدكتوراه من جامعة لندن سنة 1950. وتزوج عبد الله الطيب بالإنجليزية (جريزلدا) مُدرسة الفنون التشكيلية، التي أسلمت وحسن إسلامها وبرعت في العربية محادثةً وكتابةً، ولم ينجب عبد الله الطيب ولكنه كان باراً بأهله تبنى منهم أجيالاً على امتداد حياته.

* برأيك، ما الأثر الذي تركه عبد الله الطيب في المجالين الثقافي والتربوي؟

ـ لقد أغنى د. عبدالله الطيب الحقلين الثقافي والتربوي بعطاءٍ ثر غزير، تدريساً ومحاضرةً وتأليفاً وإدارةً، ليس في السودان فحسب، بل في المغرب ونيجيريا وانجلترا وغيرها، وهو رائد وَضع المناهج التربوية بالسودان. عمل محاضراً بجامعة لندن 1950 ومحاضراً بجامعة الخرطوم 1961 ثم أستاذاً لكرسي اللغة العربية وعميداً لكلية الآداب ثم مديراً لجامعة الخرطوم، وضم لها مستشفى سوبا ليصبح مستشفى تعليمياً وهو كذلك إلى الآن، أنشأ كلية عبد الله بابيرو في نيجيريا وأسّس جامعة جوبا وعمل مديراً لها، وأسّس مجمع اللغة العربية بالسودان ورأسه، وهو عضو عامل بمجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ عام 1961 مُنح لقب أستاذ مدى الحياة بجامعة الخرطوم 1979 ومنح الدكتوراه الفخرية من جامعة بابيرو بنيجيريا 1988 ومن جامعة الجزيرة 1989م وهو عضو محكّم في اللجان العلمية لترقية أساتذة الجامعات للكثير من الجامعات العربية والإفريقية والعالمية وعضو محكم في لجان جائزة الملك فيصل العالمية بالرياض.

* ما هي أبرز مؤلفاته كما ترى؟

ـ إنه مؤلف بارع بالعربية والإنجليزية، وله معرفة عميقة بالآداب الغربية، أما في الأدب العربي فله في اللغة والأدب والنقد والتاريخ وعلوم القرآن والدراسات الإسلامية أكثر من أربعين كتاباً وله مجموعة من دواوين الشعر.

أما أبرز مؤلفاته، فهو كتابه الضخم، الذي نال به جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب، وهو كتاب"المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها" وهو خمسة مجلدات، وهو كتاب لم يوضع مثله في الأدب العربي الحديث، قال عنه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في مقدمته للكتاب «هذا كتاب ممتع لأبعد غايات الإمتاع، لا أعرفُ أن مثله أتيح لنا في هذا العصر الحديث.. وإني لأسعدُ الناس حين أقدم إلى القراء صاحب هذا الكتاب الأديب العالم البارع لمكانه من التجديد الخصيب في الدراسات الأدبية، ولأني أقدم إليهم طرفةً أدبية نادرة حقاً لن ينقضي الإعجاب بها والرضا عنها، وأخصّ ما يعجبني في هذا الكتاب أنه لاءم بين المنهج الدقيق للدراسات الأدبية العلمية وبين الحرية الحرة، فهذا الكتاب مزاج من العلم والأدب جميعا» وقد نشر الدكتور طه حسين الكتابَ بنفسه، وأوصى بمنحة جائزة الدولة المصرية للأدباء.

* لكنني نلاحظ أنه مقل في التأليف؟

ـ ليست العبرة في التأليف بالكثرة، وإنما المعوّل على الإفادة والتجويد، ومع ذلك كان عبد الله الطيب مكثراً غاية الإكثار. مشكلتنا أننا لا نقرأ أو أننا نقرأ للأسماء اللامعة، وإن كانت كتاباتها غثاءً كغثاء السيل. ألّف عبد الله الطيب أكثر من أربعين كتاباً وكتب مئات المقالات في الدوريات والمجلات والصحف، ولكنها لم تجمع ولو جمُعت لهالك أمرها.

ألف كتاب «المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها» الذي نال به جائزة الملك فيصل العالمية في الدراسات الأدبية وهو موسوعة ضخمة في نقد الشعر من عصوره الجاهلية إلى يوم الناس هذا. يتألف المرشد من خمسة أجزاء مجموع صفحاتها (3132) فأي كثرة تريد بعد ذلك؟ ومن كتبه: مع أبي الطيب، الطبيعة عند أبي الطيب، القصيدة المادحة، التماسة عزاء بين الشعراء، بين النير والنور، من نافذة القطار، حقيبة الذكريات، الفتنة بإليوت، كلمات من فاس، الأحاجي السودانية، المعراج، نوارة القطن، ذكرى صديقين، سمير التلميذ، الحماسة الصغرى، قصائد لذي الرمة، مسرحية البرامكة، تفسير جزء عم، تفسير جزء تبارك، ثم فسر القرآن العظيم كله عبر الإذاعة في خمسة آلاف حلقة، ومن دواوينه الشعرية: أصداء النيل، بانات رامة، أغاني الأصيل، سقط الزند، اللواء الظافر، برق المدد.

* على الرغم من دراسته في بريطانيا في وقتٍ مبكر، إلا أنه لم يكن من أنصار وأشياع الجديد في النقد والثقافة، ما تفسيرك؟

ـ هذه فرية كبيرة، كان عبد الله الطيب من الرعيل الأول والذين تفتحت عيونهم على حضارة الغرب وثقافته. هضم الثقافة والحضارة العربية ثم سافر إلى إنجلترا في سنة 1947م وهضم الثقافة والحضارة الغربية ثم عاد بعد ذلك يتحدث في الثقافتين والحضارتين حديث العالم، ويقارن مقارنة المنصف لم يكن منبهراً ولا متعصباً.

كان من أنصار الجديد، ولكنه كان يأبى الهُجنة ويكره الركاكة، يقول عن التجديد: «ليس لنا ولا لغيرنا أن ينكر التجديد فإنه من سنن التطور والرغبة في التجديد من ظواهر الحياة وبواطنها. ومن التجديد صادق ومنه إفك وافتراء، والإفك والافتراء زبد يذهب جفاءً والصدق يبقى وينتفع به، أقرأ حديثه عن نازك الملائكة وحديث الناس عن سبقها إلى تحرير الوزن من قيود أعاريض الخليل وقوافيه، وقد رد أوائل ذلك إلى مسرحيات شوقي وإلى أصحاب الديوان، بل إلى الباقلاني وضورب منه في الصاهل والشاحج وفي أوزان الموشحات ونحو ذلك.

* لعبد الله الطيب، رأي حاد في دعوى التجديد لدى نزار وغيره من الشعراء..

ـ نعم، لأن عبد الله الطيب من أبصر الناس بالشعر، فقد ردّ دعاوى التجديد إلى الإفك والتزوير وضرب مثلاً بالبياتي ونزار قباني والفيتوري وأنهم نظموا على أعاريض الخليل، ولكنهم وضعوا أشعارهم في أسطارٍ وزعوها على مواقف اختاروها وكشف عن هذا الزيف في بعض النصوص.

* من أبرز الشعراء العرب الذين تناولهم الطيب في نقده؟

ـ لأن عبد الله الطيب ضليع في الأدب الإنجليزي والفرنسي وآداب الغربيين عامة، كشف عن سرقات المحدثين السافرة الفاضحة وسطوهم العلني على أساليب الغربيين، ففي حديثه عن الخريف في شعر نازك الملائكة قال: خريف نازك أوروبي لا صلة له بخريف العراق، خريف من قراءة الرومانسيين، وبين ما سرقه المحدثون من بودلير وكولردج وإليوت وآخرين، كما تحدث عن الشابي والمهندس والتيجاني وكل من يخطر ببالك إلى أن عرّج على بقية أنفاس الفحولة والجزالة في البلاد العربية، فذكر العثيمين وبالغ في مدح فحولته وجزالته وذكر محمد سعيد العباسي ومحمد الجواهري، وتكلم عن أحمد محرم وقاسم أمين وقضية المرأة ومال إلى رفاعة الطهطاوي في داليته المعرفة في ذم بلاد السودان، ونقدها بصدر الأديب العالم الناقد وصبره وأبان أن فيها ملاحظات قيمة تدخل فيما يقال له الآن علم الاجتماع انثربولوجيا، ثم فند ما فيها.

* كيف كانت علاقته بطه حسين؟

ـ كان شديد الإعجاب بالدكتور طه حسين، وقرأ له منذ المرحلة المتوسطة. قال: «ولم أدع شيئاً من كتبه أقدر على الحصول عليه، إلا قرأته حتى لقد كان أول إطلاعي على كتابه «الأيام» من ترجمة له، فأفهم» وكان يوصي طلابه بقراءة حديث الأربعاء، وكان طه حسين شديد الإعجاب به، ضمّه إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ سنة 1961 وشجعه على نشر كتابه (المرشد) وقدم له وأشرف على نشره.

* وماذا كان رأيه في كتاب «الشعر الجاهلي» لطه حسين؟

ـ الحقيقة أنني لم أقف للدكتور عبد الله الطيب على رأي مكتوب عن كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي، فقد كانت القضية كبيرة وخطيرة وكانت المحبة بين الرجلين وثيقة، ولكن ليس عبد الله الطيب ممن يقدم الصلات الخاصة على الحقائق العلمية وذلك مشهور من أمره، فالله أعلم بما كان من رأيه في هذه القضية وعسى أن يتحفنا من معه العلم بذلك من تلاميذه الذين يملأون الدنيا، وصحيفة «الشرق الأوسط» ذائعة ولا شك.

* إلى أي التيارات السياسية كانت ينتمي عبد الله الطيب؟

ـ لا ينتمي عبد الله الطيب إلى تيار سياسي، ويلتف حوله أصحاب التيارات السياسية على اختلاف مشاربهم فيجد كل منهم مساحة صالحة في فكر ذلك الرجل، الذي يعرف تاريخ أحزابهم ورموزها وقادتها وأطروحاتها وينتقد ويوجه ويعلق راضياً أو مستنكراً أو حتى ساخراً صادراً في ذلك عن استقلال وذاتية، ويحتفظ له كل صاحب لون سياسي بتقدير خاص لرأيه وعلمه، ويكن الود الصادق للجميع في وطنية خالصة.

* مَن أبرز تلاميذه، خاصةً في مجال النقد؟

ـ ما رأيتُ رجلاً تتلمذت له أمة كعبد الله الطيب، فكل من شدا شيئاً من الأدب وعلوم اللغة في النصف الأخير من القرن المنصرم هو من تلاميذ عبد الله الطيب، خصوصاً خريجي جامعة الخرطوم، لأن محاضراته كانت تكتظ بطلاب الطب والهندسة والقانون قبل طلاب الآداب. وحتى زملاء عبد الله فإنهم يصنفون أنفسهم بين تلاميذه، ولا أنسى عالماً جليلاً كان رئيساً لقسم اللغة العربية بجامعة الخرطوم ترقى إلى درجة الأستاذية، متجاوزاً الدكتوراه، فلما بلغ سن التقاعد عاد إلى جامعة الخرطوم وحضّر درجة الدكتوراه على عبد الله الطيب بعد أن بلغ السبعين من عمره، وهو أستاذ النقد الأدبي الدكتور عزالدين الأمين. وفي هذا الخبر دليل على أستاذية عبد الله الطيب وعلى روح العلماء المتواضعين في عزالدين. وأمثاله كُثر فكم ترى من صُلْع ولحى بيضٍ تزاحم الشباب بالمناكب في مجالس عبد الله الطيب، ومن طلابه الذين ما يزالون يحملون رايات العلم والعطاء الدكاترة يوسف نورالدايم، ومحمد يوسف مصطفى الواثق، وجعفر ميرغني، الذي هجر دراسة الهندسة والتحق بالأدب، وما أحسب ذلك إلا محبة في عبد الله الطيب وعلمه، وغيرهم كثير لا يكاد يحصى.

وفيهم دُعاة التجديد ودعاة التقليد وفيهم الجامعون بين المذهبين وفيهم الإسلاميون واليساريون والوجوديون واللادينيون، وكلهم تجمعهم حدائق عبدالله الطيب المثمرة والفوائد التي يجنيها كل منهم فيما يخص مذهبه.

* عرف عنه قوة الحافظة، إلى ماذا تعزو ذلك؟

ـ نعم، كان عبد الله الطيب آيةً من آيات الله في الحفظ، وحضور الشاهد وبراعة المحاضرة، وكان مثالاً للعالم الموسوعي المتنوع المعارف الضليع المتمكن حتى في أمور الحياة العامة ومشكلات المجتمع، وكان يحاضر من حفظه ويذهب إلى المحاضرات والمؤتمرات الدولية مصحوباً بمحفوظه فقط، لا يعدُّ ولا يكتب، فيقترح عليه أهل المؤتمر ما يريدون فيتدفق لسانه أنهاراً وشلالات علم، بل كان يؤلف من حفظه، وذلك يعود إلى فضل الله يؤتيه من يشاء، ثم نشأة الرجل في بيت علم ودين، فأسرة المجاذيب ضاربة الجذور في العلم والتدين ومنها خرج محمد سعيد العباسي ومحمد مهدي المجذوب، والمجذوب الكبير، وفي الرجل زهد وورع وتقوى وتحرٍ للحلال وليس بعيداً عن الأذهان قول الشافعي في صلة التقوى واجتناب المعاصي بقوة الحافظة وثبات المحفوظ، وقد تهيأت له ظروف الانقطاع للعلم في صغره بحفظ القرآن ثم بوجوده غريباً في الخرطوم في كلية غردون ثم انقطاعه في انجلترا التي نقّب في خزائنها وعاد بما لم يعد به نظراؤه من المبتعثين، ولا ينكر الجو المثالي المنظم الهادئ الذي كانت تهيئة له قرينته الإنجليزية الأستاذة جريزلدا أو (جوهرة) وهي جوهرة حقاً لأنها أدركت مبكراً أنها اقترنت بشخصيةٍ غير عادية فقامت بدورها خير قيام، أحسن الله عزاءها.