ربع قرن على رحيل الشاعر اللامنتمي الوحيد في الشعر العربي

أحمد الصافي النجفي أول من حطم قيود الأغراض الشعرية الثابتة.. وفاقت موضوعاته أغراض كل الشعراء ( 1 ـ 2)

TT

قبل أكثر من ربع قرن رحل الشاعر أحمد الصافي النجفي بعد أشهر من عودته إلى بغداد مضطراً ـ جريحاً ـ مصاباً بخمس إطلاقات في الحرب اللبنانية، وهو يسير في الشارع بحثاً عن طعام، إحداها نفذت من رئته وأخرى استقرت في ساقه، وكف بصره وغابت عنه بغداد إلى الأبد وأورثه ذلك لوعة لا تنجلي:

يا عودة للدار ما أقساها

أسمع بغداد ولا أراها

وبالرغم من مغادرته الوطن وتقلبه في الغربة وإيغاله في أقصى حالات الاغتراب والتشرد والحرمان طوال ست وأربعين سنة كانت أجواء بغداد تملأ حياته:

بغداد حار المادحون بوصفها

زين البلاد كثيرة الأوصاف

كانت تحن لقطعة من قلبها

عادت إليها يوم عاد الصافي

وله في مديح بغداد أبيات كثيرة منها:

قد كفاني تغرب وابتعاد

عاتبتني بحسنها بغداد

أين تبغي دناً وتبغي بلاداً

أنا وحدي الدنا ووحدي البلاد

وبقيت لواعج في نفسه أنه لم يستطع أن يرى من بغداد شيئاً:

حفلتْ بغداد بي ترفع من شأني وتغالي

حرمتْ من حسنها عيناي في يوم الوصالِ

وكان قد قال فيها:

إن البلاد لكالحسان تفاوتت

حسناً وان عروسها بغداد

فيها الليالي كالنهار نضارة

وكأنما أيامها أعياد

ومات الشاعر وهو يقارب الثمانين في 27/6/1977 ولولا الإطلاقات التي أصيب بها لهزئ من التسعين فروحه لم تغادر عنفوان شبابها في أية مرحلة من حياته:

سنّي بروحي لا بعد سنين

فلأسخرن غداً من التسعين

عمري إلى السبعين يركض مسرعاً

والروح ثابتة على العشرين

* ناقد أخلاقي لكل الشعراء

* وما حظيت منه بغداد بالإطراء، ومدن ومواقع أخرى، لم ينله شخص من الصافي، مهما كان. إنه لم ينافق ولم يداج ولم يمدح رجلاً، حقاً أو باطلاً، ونأى بشعره عن التكسب والتملق ومسح الأعتاب. وبعد أيام من رجوعه إلى بغداد زاره مسؤول كبير فاستقبله قبل أن يرد على تحيته:

وكبير رام أن أمدحه

قلت أحتاج لمن يمدحني

إن لي فوق معاليك علىً

كنت لو تفهمها تفهمني

وقال في مناسبة أخرى:

يا طالباً مني المديح لحاكم

يمتاز في حس عديم الروح

إن تجمعوا شعراءكم لم يصلحوا

طرا لنظم قصيدة بمديحي

إنه الشاعر الذي نقد بشعره الشعر وبسلوك حياته الشعراء، وأثبت أن الموهوبين يمكن أن يبتعدوا عن الممدوحين وأن ينأوا عن الدنايا والنفاق والتزييف، وأدان ارتداء الأقنعة الشعرية حسب الطلب ووفق المرام وطبقاً لمقتضى الحال مع مراعاة المقام.. الخ، مما جاءت به البلاغة من أصول الكذب والنفاق.

* الهدايا والأعطيات

* وحاول كثيرون من الرؤساء والحكام والأثرياء والمعجبين بشعره أن يقدموا له الهدايا المادية وغيرها، ولم يرفضها، ولكنه كان، من دون أن يمسها، يحيلها على الجهات الخيرية.

والنزر القليل الذي كان يحصل عليه من دواوينه يشرك فيه بعض من بهم حاجة اليه. وأبى أن تكون له دار ثابتة، ورد كثيرين قدموا له سكناً، وآثر أن يعيش حراً في العراء، أو في خيمة أو أية غرفة، وإن لم تتيسر، في أية خرابة يعمر منها قصوراً، ويسعد أن مغريات الدنيا لم تنل منه، وأكثر طعامه، على ما يشهد الذين وافقوه في مقهاه، كسرة خبز يخرجها من جيبه فلا أطيب ولا أهنأ.

* شعر المديح

* إن السعي وراء الممدوحين بغية الحصول على المال قضية قديمة لا يحييها اليوم الا من يعيش في تعاسة الماضي من الممدوحين الممسوسين الذين يتصورون أن المديح يمكن أن يغطي سوءاتهم ويموه شرورهم وجرائمهم، فإذا كان الشعر يوماً الوسيلة الاعلامية الوحيدة التي تنقل الأنباء المطرزة بالمديح الى كل مكان: (قصيدة أبي تمام في معركة عمورية مثلاً) فتنهمر الدراهم على رؤوس الشعراء فهذه الوسيلة، الاعلامية الوحيدة حلت مكانها عشرات الطرائق الحديثة، فتخلص الشعر من هذا الداء الذي أضر به، وهذه المهمة التي فرضت عليه، وبدأ ينصرف الى ما وجد من أجله: الإنسان، وكان الصافي سباقاً الى ذاك منذ مطالع القرن العشرين، فالحياة مصدر شعره الأول، والتجربة الشخصية القطب الذي يدور حوله، وأحداثه اليومية معين لا ينضب لذلك الشعر، ولأنه كان خلاف الحوليين، وزعيمهم زهير، ما عاود النظر في شعر نظمه، لذا لم تخل بعض قصائده من عثرات، ويتعمد ذلك احياناً:

تركت بشعريَ بعض العيوب

أرد بها أعين الحسّدِ

وتحفظني من دواعي الغرور

فمن يكتمل في الورى يعبدِ

لم يكن الصافي يقول شيئاً ويفعل شيئاً مغايراً. ويصعب على الباحث أن يجد له قولاً، شعراً ونثراً وحديثاً عابراً، يخالف سلوكه العام، وهذا أمر نادر ليس بين الشعراء وحدهم، ولكن بين الناس، فالشاعر صادق مع نفسه لم يجد أي تسويغ يبيح تناقض الأقوال والأفعال لديه. إن شعره بوح ذاتي حقيقي استمر طوال حياته، واعتراف دائم ومذكرات تضم ما يمر به الشاعر من أحداث يومية، الى جانب كل الأفكار التي تجول في مخيلته وردود الأفعال الكثيرة التي اتسم بها إزاء من أزعجوا له خلوة حياته من مزيفي الكلمة أو مدمني الغباء أو بعض مطربي الإذاعات أو الباعة المتجولين أو صباغي الأحذية. كان شعره ينطوي على مفارقات وتناقض وطرافة واضحة نادرة وحزن عميق دفين وهزء بهذه الدنيا العجيبة.

* موضوعات شعرية

* ولم يقلد الصافي أحداً في زمن ما كان للتفرد في مضمون أو أسلوب أو جملة شعرية خاصة معنى أو مفهوم نقدي وهنا تكمن أهميته الشعرية، ولأن شعره مرآة لحياته حقاً، كثرت موضوعاته الشعرية كثرة لا أظن أن أي شاعر يستطيع أن ينافسه في عددها لو أجرينا احصاء للموضوعات لدى شعراء معاصرين له أو سابقين أو لاحقين، فلكل قصيدة عنده موضوع ولكل مقطوعة أو بيت. ولم يدرج اسمه بعد في كتاب الأرقام القياسية، وقضية الاغراض كان لها تأثير كبير في الشعر العربي حتى قيدت الشاعر وفرضت عليه حين صارت تقليداً.

والخطأ الكبير أن يكون الشعر مدحاً أو رثاء أو فخراً أو غزلاً أو هجاء.. الخ، وهذا مما أضر بالشعر كثيراً، حتى أن قدامة بن جعفر في (نقد الشعر) رأى الشعر كله مديحاً في مديح، فالمديح إطراء الحاكم وتمجيده، والغزل مديح النساء، والرثاء مديح الميت والفخر مديح النفس، والهجاء مديح معكوس.. الخ، كأن لا فرق بين مشاعر الاعجاب والحب والحزن والاعتداد والغضب، فالشاعر عنده آلة مادحة.

ونشأ الصافي وصار شاعراً في مطالع القرن العشرين وقضية الأغراض الشعرية سائدة عاتية فوجه اليها معوله وحطمها، قصداً أو عفواً، وصار الشعر يتسع للحياة كلها، وشيء من هذا استطاع تحقيقه شعر المهاجر في أمريكا الشمالية، وشعراء الحداثة بعد منتصف القرن الماضي. وكان الصافي رائده الأول.

* للتشرد أصول وقواعد

* قبل الوجوديين أو من يدعون الوجودية وقبل (الهيبز) ومواكب الصعاليك التي سادت أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين يضع الصافي للتشرد وطقوسه أصولاً وقواعد ويتحدث عنه بتبجيل ويدين القيود الاجتماعية والمظاهر الخداعة والتزييف في الصلات الانسانية، وكان التشرد جامعته الكبرى التي فيها تعلم ما لا تتيح جامعات (التجهيل) بكل اساتذتها وشهاداتها، لأنصاف الأميين الذين تخرجهم أن يفقهوا شيئاً، وله في رحلة الطواف والتشرد والمنفى قصائد كثيرة، منها:

قد اخترت منذ القدم عيش التشرد

لفقري وللفوضى وحب التجرد

ولو أنني أسلو التشرد عاد لي

فكيف سلوي رفقتي في التشرد

تعلمت ما لم تعطني الكتب منهمو

فجئت الى الدنيا بهذا التجدد

معاشهمو ما يكسبون بيومهم

ومرقدهم ما عنّ من متوسد

يعيشون في مقاهمو كعشيرة

وان ينتسب كل لأرض ومحتد

وهل نسب مثل التشرد جامع

تجمع فيه كل شمل مبدد

وكانت له قاعدة ينطلق منها في رحلة الطواف والتشرد والتوحد والذهول، قائمة في زاوية من مقهاه لم يغادرها ستاً وأربعين سنة فأمدته بقوة وطاقة متماسكة وموقف واضح لم يحد عنه، وكأنه يقود منها واليها معركة الحياة، جنوده رفاقه في المنفى وسلاحه ايمانه بنفسه. إنه الشاعر اللامنتمي (بالمعنى السياسي وغيره) الوحيد في الشعر العربي الحديث.