توفيق الحكيم يعود للمسرح لكن برؤية جامدة

أمينة رزق تعطي في «يا طالع الشجرة» درساً في حلاوة الأداء وتعدد مستوياته

TT

بالتأكيد نحن جيل سعيد الحظ أننا شاهدنا أكثر من عرض مسرحي للفنانة أمينة رزق التي أصبحت رمزاً للفن الراقي والمنهج التمثيلي المتطور.

وكنا استمتعنا منذ أعوام قليلة بعرضها المسرحي الصعب «الأرنب الأسود» مع سناء يونس إخراج عصام السيد على مسرح الطليعة بالقاهرة. ومنذ شهور أطلت علينا أمينة رزق بدورها العميق «زاد الخير»، من خلال العرض المسرحي «الليلة الثانية بعد الألف» على مسرح الهناجر تأليف عبد الله الطوخي ولنفس المخرج.

وللمرة الثالثة يحظى جيلنا ومن يلينا بمشاهدة أمينة رزق، وهي تلعب دور «بهانة» «في العرض المسرحي المصري» يا طالع الشجرة «تأليف توفيق الحكيم وإخراج سعد أردش».

وقبل أن يأخذنا أداء السيدة أمينة رزق ، نشير فقط الى أن النص المسرحي (يا طالع الشجرة) المنشور 1962 من أشهر أعمال الحكيم إثارة للجدل، باعتباره ينتمي لتيار مسرح العبث المستورد من الغرب بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) بما لا يخصنا كمنهج وفكر وتكنيك في الشرق. وقد سبق وعرض هذا النص مرات سواء من خلال الالتزام التام بنص الحكيم ، أو من خلال المعالجات الجديدة التي قدمت له مثلما عرض «يا طالع الشجرة تاني ليه» إخراج أشرف النعماني; وإن كانت التجربة من الضعف بحيث عبرت وزالت بلا ندم عليها.. إذن فالأجدى تركيز اهتمام سطورنا لمناقشة نقطتين بالتحديد.. أولا الرؤية المسرحية الدرامية والبصرية التي دفعت المخرج المسرحي المخضرم سعد أردش، ليعيد تقديم هذا النص الشهير. ثانيا الأداء التمثيلي للفنانة أمينة رزق التي كانت السبب الرئيسي في تدفق جمهور كبير على مسرح الطليعة، رغم صعوبة النص واستغلاق مفاتيح شفرته كثيرا على المتلقى العادي. لكن في النهاية اتفق الجميع دون اتفاق مسبق على السعي للمشاهدة، حتى أن ليلة مشاهدتنا العرض فقط توافد اثنا عشر ناقدا مسرحيا من مختلف الاتجاهات والأعمار دفعة واحدة مصادفة ، للنهل من موهبة وخبرة الفنانة أمينة رزق التي تعتبر حالة عطاء مسرحي نادرة الحدوث في العالم أجمع.

لنبدأ بطرح التساؤل الأول عن المعالجة الفكرية البصرية التي أضافها المخرج للنص، وسنجد أنه ببساطة لم يضف أي شيء على الإطلاق، أي أنه لم يستخرج أي منظور من أي نوع والتزم بالنص بشكل شبه متكامل، دون التعامل مع معطيات وتطورات العصر الحاضر من أي زاوية مختلفة.

ويعتبر هذا العرض من أقل العروض التي بذل فيها سعد أردش جهدا إبداعيا على مستوى الرؤية والحلول التشكيلية الجمالية. وإذا كان قد أتاح للفنانة أمينة رزق الجلوس معظم الوقت على كرسي متحرك لتجنيبها مشقة الوقوف وجهد المسرح الكبير، فلا ندري سببا في حالة الركود الإبداعي التي قيد بها حرية ممثليه على خشبة المسرح ومعهم طاقمه الفني! اللهم باستثناء تقسيم خشبة المسرح إلى مستويين أفقيين، ليمثل مستوى المسطح الأول الزمن الحاضر في مقابل المستوى الأعلى الذي يمثل ماضي الشخصيات مع بعض التداخل أحيانا.

وفيما عدا ذلك كانت الفرص متاحة لابداع ديكور وملابس د. سمير أحمد وموسيقى وألحان هشام جبر أفضل بكثير مما رأينا، لكن ذلك لم يحدث فوقع العرض في حالة من الجمود والاستاتيكية السمعية البصرية خلت معها إحساساً لا يخطئه المتلقي بالملل والتطويل. وبالطبع نحن لا نقصد أننا نصادر رؤية الخرج _ في حالة وجودها ـ أو أننا كنا نتمنى مشاهدة الممثلين يتقافزون على درجة السلم ذهابا وإيابا. لكننا نقصد أبسط قواعد الديناميكية الحيوية والاجتهادات الفكرية، التي يجب توافرها بديهيا في أي عرض مسرحي وتستثير التأويلات المتعددة في قنوات التلقى بدلا من تركها عاطلة لا تعمل; ونعتقد أنه شتان بين وقار الكلاسيكية والكسل الفكري الابداعي.. لكن حالة الملل كانت تنكسر تلقائيا مع اجتهادات الممثل أحمد فؤاد سليم في دور «بهادر» الزوج والدرويش «محمود عبد الغفار»، اللذين ترتفع درجة توهجهما بالتبعية كلما تدخلت الزوجة في مشاهدهما من باب التنافس ومحاولة إثبات الذات أمام أستاذة الأجيال أمينة رزق. وهو ما يصل بنا بالتبعية لمفردات التساؤل الثاني عن الأداء التمثيلي لبطلة العرض، الذي يعتبر بحق أفضل وأميز ما في هذه الليلة المسرحية.

وبدلا من تتبع كل مشاهد الفنانة لعدم توافر المساحة الكافية لتناولها بالتحليل الوافي، سنكتفي بالتوقف أمام مشهد واحد فقط بديع يستحق أن يدرس في أقسام التمثيل، لعبته الفنانة باقتدار بمنهج الوعي والدقة الممتزجين بلغة السهل الممتنع.. فقد ظل الزوج بهادر يسأل زوجته أين كانت طوال الأيام الثلاثة التي اختفت فيها بشتى الطرق، فظل يعدد لها كل احتمالات الأماكن وفرضيات الظروف التي يمكن أن تعطيها عذرا ولو نصف مقنع للتغيب. وقد منحت معطيات الحوار الفرصة للزوج لاختلاف نبرته بين اليأس والرجاء والشك والهدوء والعصبية حتى بلغ درجة الجنون ، وقتل زوجته بالفعل لعجزه عن معرفة الحقيقة. أما الزوجة بهانة فظلت طوال الوقت لا تجيب على مدى أكثر من عشرين سؤالا سوى بكلمة واحدة «لا»، وقد أذهلت السيدة أمينة رزق الحاضرين بقدرتها الفائقة على تلوين نبراتها الصوتية وتطويع تعبيرات وجهها المرنة بشكل يجمع بين البراءة الطفولية والغموض المثير ومكر الأنثى الذي لا مفر منه ولا خلاص; حتى أنها أجبرت أيدينا على مقاطعتها عدة مرات بالتصفيق المصاحب لنوبات متتالية من الضحك المرير في هذا الموقف المأسوي، لتكامل أرجاء هذا المشهد الممتع الذي يروي ظمأ المتعطشين للفن الجميل منذ زمن بعيد.

أما على مدى العرض المسرحي ككل فقد تطوعت أمينة رزق بإعطاء درس مجاني بليغ في حلاوة اللغة العربية الفصحى ومخارج الألفاظ المنطوقة بطريقة سليمة سلسة مفهومة.