حين يكون اللغويُّ أديباً

خيل لكثير من اللغويين المعاصرين أنهم قادرون على جمع قصائد هذا الشاعر ونقدها وتمييز أساليب الأدباء

TT

استجدّت عندنا نحن العرب دُرْجَةٌ (أعني: موضة) هي أن يخوض اللغويون المعاصرون في شؤون الأدب، ولا اعتراض لي على هذا; لأنّ الأدب موهبةٌ، لا تخصُّص، فقد يكون الطبيب شاعراً، وقد يكون المهندس، وإلاّ أفلم تسمع بعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي، ومحمد جواد الحِلّي؟ ولكنّ الذي لديَّ اعتراضٌ عليه أن يخوض في شؤون الأدب، وأن يؤلِّف فيه من لم يُرزق هذه الموهبة.

لقد خاض ابنُ الأعرابيّ مثلاً في شؤون الشعر فروى «المُفضّليات» عن زوج أمّه المفضَّل الضبّي فكانت روايته أصحَّ الروايات، وروى ديوان جرير، ورواه عنه تلميذه محمد بن حبيب فكانت روايته أصحَّ الروايات، وجمع نفائس مراثي العرب في كتابه: «مُقطَّعات مَراثٍ».

هذا وابن الأعرابيّ هو صاحب «كتاب النوادر» وهو الذي لا تكاد تمرُّ بك مادّة لغوية في المعجمات العربية إلاّ وجدتها مرويّةً عنه.

وقد كان تلميذه ثعلب مثلَه، فهو إمامٌ في النحو، واللغة، وهو صاحبُ «قواعد الشعر» الذي نشره في القاهرة الدكتور رمضان عبد التوّاب.

وخُيِّل لكثير من إخواننا اللغويّين المعاصرين أنّهم مثل أولئك أدباء يستطيعون أن يجمعوا شِعر هذا الشاعر، وأن ينقدوه، وأنّهم يقدرون على رَوْز أساليب الأدباء وفَرزها، وتمييزها، وردِّها إلى أصولها.

فماذا صنعوا؟

صنعوا أن دلّوا الناس أنَّ العلم بالأدب والشِّعر ليس من عَملِهِم.

أقول هذا، وأرجو ألاّ يُعمَّم قولي فيكون كلّ لغوي جاهلاً بالأدب ضربة لازب، فمن شواهدي على خطل هذا الرأي أن كان العلاّمة الشيخ محمد رضا الشبيبي رئيساً للمجمع العلمي العراقيّ، وكان من أرقّ الشعراء العراقيّين المعاصرين، ولو شئتَ أن أضرب لك مثلاً على رقّته لضربتُه لك بقوله:

فتنةُ الناسِ وُقينا الفِتَنـا

باطلُ الحمدِ، ومكذوبُ الثَّنا

أيُّها المُصلحُ من أدوائنا

أيُّها المُصلِحُ: ألداءُ هنــا

كلُّنا يطلُبُ ما ليس له

كلُّنا يطلبُهُ حتّى أنـــا

وضربتُه أيضاً أن كان الأستاذ عبّاس محمود العقّاد عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة، وكان هو الذي أبدع قصيدة «الشيطان».

وإذا كان لأحد أن يختلف معي في قيمة قصيدته: «الشيطان» فما أظنّ أنّ متأدّباً سيختلف معي في قيمة كتابه النقديّ: «الديوان».

وإذاً، أرجو ألاّ يُعمَّم قولي; لأنّني أريد أن أُخصِّصه; فمن هذا التخصيص أن صدر للدكتور عبد الصبور شاهين كتابٌ عنوانه: «في العربية والقرآن» عن مكتبة الشباب في القاهرة سنة 1998 فكان ممّا ورد فيه: «...أنّ اللسان العربيّ قد وقع في إسار لغة القرآن، واستسلم لها قريراً راضياً، بل لقد أصبح ولا خيار له خارج هذه اللغة إلاّ في النادر القليل من لغة ما قبل القرآن...».

ولكي يُثبت صواب رأيه أخذ نصّاً لطه حسين من كتابه حديث الأربعاء، وكنت أنتظر أن يحلِّله، ويعود به إلى أصوله القرآنية، ولكنّه لم يفعل هذا، وإنّما سلك طريقاً لا أستطيع أن أصفه; لأنّه يستعصي على الوصف فقال:

«جذور النص

الألف/ أول/ أتى/ أمر/ أهل/ أرخ/ أدب/ أنس/ أثر/ أدم...»

وسار على هذا النمط مرتِّباً هذه الأفعال على وفق حروف الهجاء جميعاً «ليخلص إلى النتيجة التي سبق أن قرَّرها من أنّ أسلوب طه حسين واللسان العربي عامة» قد وقع في إسار لغة القرآن».

وهذا منهج عجيبٌ في دراسة الأساليب، منهج لا يمكن أن يقول شيئاً بَله أن يُثبت صحةَ رأي.

ولكي أثبت ما أقول سأُذكِّر الدكتور عبد الصبور أنّ مادّة «أتى» قد وردت في الشعر الجاهلي، وإذا كان لا بدّ من مثل فهو قول النابغة الذبياني:

أتاني ـ أبيتَ اللعنَ ـ أنَّك لُمتني

وتلك التي تستكُّ منها المسامعُ

فلماذ لا يكون الدكتور طه قد اقتفى أثر النابغة، وشعره أقدم تأريخاً من القرآن الكريم؟!

وأنّ مادة «أمر» جاهلية أيضاً; فقد قال دُريد بن الصِّمّة:

أمرتُهمُ أمري بمنعرج اللوى

فلم يَستبينوا الرُّشدَ إلاّ ضحى الغدِ

فلماذ لا يكون الدكتور طه قد اقتفى أثر دُريد وشعره أقدم تأريخاً من القرآن الكريم؟!

وهكذا يستطيع الدارسُ أن يتتبّع المواد التي سردها الدكتور عبد الصبور مادّةً مادّّةً فيجدها قد وردت في الشعر الجاهليّ، ونظرةٌ واحدة في لسان العرب، وفي شواهده من الشعر الجاهليّ فيها مقنَعٌ.

أجيء الآن إلى لغويّ آخر هو الدكتور حاتم صالح الضامن; فقد جمع الدكتور طائفةً من دواوين الشعراء من بينها كتابُهُ «عشرة شعراء مقلِّون» الذي صدر عن جامعة بغداد سنة: 1990، فكان في كتابه من بين الشعراء شِعرُ بكر بن النطّاح، فتعالوا ننظر إلى صنعته هذا الشِّعر.

وأقول ابتداءً: إن شعر بكر كان يقع ـ كما يقول ابن النديم ـ في «مائة ورقة» فما معنى أن يصفه الدكتور الضامنُ بأنَّه شاعرٌ مُقِلٌّ؟ وإن عجبتَ فاعجب من قول الدكتور حاتِم على الصفحة: 246 «... ولم أقع على ذكر ديوانٍ لبكر بن النطاح ولا على شعرٍ مجموع له...».

وأقول: أمّا ذكر الديوان فقد ذكرَه ـ كما قلتُ ـ ابنُ النديم، وأمّا جمعُ شعرِه فقد جمعه الأستاذ غازي النقّاش، فنشرَه في مجلَّة المورد العراقية في العدد الثالث من المجلّد الخامس سنة 1976، فما معنى القول؟!

وإذاً، وقع الدكتور الضامن وهو يستهلُّ عملَه في وهميْن لا يدلاّن على أنّ الأدب من عَملِه.

فإذا نظرنا إلى العمل نفسه وجدنا أنّه لم يرجع إلى مخطوطة الدر الفريد التي صُوِّرت في فرانكفورت سنة 1988 واقتنتها بعض مكتبات العراق، ولو رجع لأضاف إلى شعرِه أشياء لم ترد في صنعتِه، وإذا كان لا بدَّ من أمثلة فهو قوله:

إذا حبسَ الإنسانُ غربَ لسانِه

عن النّاسِ لم تُسرِعْ إليه القواذفُ

وكلُّ امرىءٍ لا يأمنُ النَّاسُ غيبَهُ

لهُ حاذِفٌ بالغيبِ منهمْ وقاذفُ

وقوله:

له قلبانِ في بدنٍ فمَــن ذا

له قلبانِ في بَدَنٍ وحيدِ؟

فقلبٌ من حريرٍ حين يرضى

وقلبٌ حين يغضبُ من حديدِ

ولبكر في «الدر الفريد» أشياء أخرى، لم أشأ ذكرها.

وأورد له الدكتور حاتِم تائيّتَه في مديح أبي دُلف نقلاً عن طبقات الشعراء لابن المعتز بتحقيق فرّاج.

ويلاحظُ عليه أنَّه إذ أورد القصيدة أهمل حواشي المُحقَّق إهمالاً تامّاً، وكأنَّ كلَّ ما أثبتَه المحقّقُ في المتن صحيحٌ لا غبار عليه. على حين أن من يرجع إلى الطبقات يجد المُحقّق نفسَه قد شكَّ ببعض قراءته. وسنرى أن بعض هذا الشكِّ كان في محلِّه.

والمُهمّ في الأمر أنَّ الشَّيْزَري روى القصيدةَ نفسَها في: «جمهرة الإسلام» ـ وقد صُوَِّرت مخطوطة الجمهرة في فرانكفورت سنة 1986ـ رواها بزيادة أبيات لم يروِها ابنُ المعتز، وأنّ رواية الشيزري تختلف في طائفةٍ من الأبيات عن رواية الطبقات.

فمن هذه الخلافات المهمّة أن ورد قول ابن النطّاح في الطبقات، وعند الضامن:

متى تشتمِلْ بكرٌ عليَّ بدارِها

أبِتْ واثقاً بالمالِ والثرواتِ

ثمَّ بعدَ ذلك ببيتين قولُه:

وإن تشتملْ قيسٌ عليَّ وتغلِبٌ

أبتْ واثقاً بالمالِ والثَّـرواتِ

ويمكن أن يلاحظ أن العجز تكرَّر في البيتين مما يبعدُ أن يرتكبه شاعرٌ في قصيدةٍ واحدةٍ; إذ أن هذا التكرار لا يُعرِّض الشاعر للإيطاء فحسب، وإنَّما يُعرِّضُه إلى الظنِّ بقلَّة بضاعتِه من اللغة والقوافي، ولم يكن بكرٌ كذلك; فقد كان أبو هفّان يقول: «خُتِم الشعرُ ببكرٍ».

وروى الشيْزريُّ البيتين وهما مُتتاليان عندَه:

متى تشتمِلْ بكرٌ عليَّ بدارِها

أبِتْ واثقاً بالجودِ والنَّخواتِ

وإن تشتمِلْ بكرٌ عليَّ وتغلبٌ

أبِتْ واثِقاً بالمـالِ والثرَواتِ

وورد قوله في الطبقات، وعند الضامن:

نفى الكُردَ عن شعبيْ نهاوند بعدَما

سقى فرض القربان بالرقفاتِ

فعلَّق عليه فرّاج بقولِه: «كذا في الأصل». وسكت الدكتور حاتِم وكأنَّ القول مُستقيم. والحقّ أنَّ البيت برمّتِه مُحرَّف عمّا قال بكر; إذ هو:

فقال بكُردٍ في نهاوندَ بعدَ ما

شفى قَرَماً للبيضِ بالعزماتِ

أما قوله:

وأورد ماءَ البئر بالبيضِ فارتوتْ

وعلَّ رماحاً من دمٍ نهِـلاتِ

فصدر البيت لا يكاد يدلّ على معنى، إذ ما معنى أن يورد ماء البئر بالسيوف؟ وما معنى أن ترتوي السيوف من ماء البئر، وأيُّ فخرٍ في هذا؟ فإذا لم يكن هذا فهماً صحيحاً ـ وهو غير صحيح إطلاقاً ـ فمن هم الذين أوردَهم ماءَ البئر بالسيوف؟ أتُراه تَرَكَ ذكرَهم لأن السياق يدلّ عليهم؟ إنّ السياق لا يقول شيئاً عمّا إذا كان الممدوح أبو دلف العِجليّ قد أورد الناسَ ماء البئر أم الإبل أو سواهما.

ولن أطيل فرواية البيت عند الشيزريّ:

سقى البيضَ يوم الكوفةِ الدمَ فارتوتْ

وعلَّ رماحاً من دمٍ نهلاتِ

وورد قولُه في الطبقات وفي شعرِه:

تركت طريق الموتِ بالسيفِ عامراً

تخرّقه القتلى بغير وفاةِ

ولم أسمع قبل هذا البيتِ بِقَتلى غير مُتوفَّيْن. إنَّ هذا يُشبِه أن تقول: فلان كوسجٌ عريضُ اللحية، أو أعمى حديدُ البصر. ثم ما معنى تُخرّقه القتلى؟ وكيف يُخرِّق القتلى الطريق؟!

ورواية البيت السليمة كما أوردها الشيزريُّ هي:

تُجَرُّ به القَتلى بغيرِ دِيَاتِ

ولن أُطيل القول في الذي رأيته في ديوان بكر، وسواه ممّا جمع الدكتور الضامن، ولكنّني أريد أن أقول للدكتورين شاهين، والضامن:

أوردَها سعدٌ وسعدٌ مُشتمِلْ

ما هكذا تُورَدُ يا سعدُ الإبلْ