الوجه الآخر من الحرب الباردة

مسرحية فرنسية على مسرح بريطاني تعكس عبثية الصراع الأميركي ـ السوفياتي

TT

مسرحية «الوجه الآخر للقمر» التي تعتمد على ممثل واحد ليست فقط من تمثيل روبير لاباج، بل من تأليفه واخراجه ايضا. ولانني لم اطلع على اصلها الفرنسي (لاباج كندي فرنسي) لا اعرف مدى اختلافه عن النص الانجليزي. المهم ان الاخير يقدم تصورا ذكيا ساخرا لرحلة الى القمر تقوم بها الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ولا بد ان الفضل في نجاح المسرحية بالانجليزية يعود الى حد كبير الى مستشار النص ادام ناشمان. المسرحية من نوع الكوميديا السوداء، المتوافقة مع خلفية موسيقية غربية تكاد تكون يورو ـ آسيوية من تأليف لوري اندرسن. ويدور العرض على التنافس بين الاخوين فيليب، البروفيسور الجامعي المولع بعلم الفضاء، واندراي، مقدم النشرة الجوية في التلفزيون، وهو الانجح ماديا والمثليّ جنسيا. السؤال الذي يشغل فيليب هو عن وجود الحياة على أي من الكواكب، فيعمل على شريط فيديو يقدمه الى مسابقة لاختيار عشرة اشرطة تطلق الى الفضاء بأمل العثور عليها من قبل مخلوق فضائي يسعى بدوره لاكتشاف حياة على كواكب أخرى. أما اندراي فهو لا يبالي بأي من هذا، ويقضي أوقاتا سعيدة مع معشوقه، ومن هنا اتهام فيليب له بالافتقار الى «الوعي».

ويتسلم فيليب دعوة الى موسكو لالقاء محاضرة حول اطروحته عن تسولكوفسكي، لكنه يفشل في الذهاب الى القاعة في الموعد المحدد لسبب تافه هو نسيان تغيير ساعته حسب توقيت موسكو. ويثير هذا سخط فيليب على نفسه، لكنه يقبل به في النهاية باعتباره قدرا لا مهرب منه، لأنه كان اصلا يخشى مواجهة «جمهور ذكي». ويروي فيليب ما حصل الى اخيه على الهاتف، ويتعاطف اندراي معه، واخيرا يتغلبان على المشكلة.

ويقترح اندراي على فيليب ان يروح عن نفسه بالتسوق، وانه لو كان مكانه لذهب الى حديقة غوركي الشهيرة لملاقاة عشيق عابر، فيما لا يستطيع فيليب سوى البكاء. وكان مما يمس المشاعر ان نرى هذا الوضع المحزن وهو يقود الى المصالحة بين الاخوين بعد تنافسهما المرير في الماضي، واللقاء للاحتفال باختيار شريط فيليب ليكون واحدا من الاشرطة التي ستطلق الى الفضاء. هكذا ينتهي الخلاف العائلي ويتراجع الاهتمام باكتشاف الفضاء. يستعمل لاباج رمز سمكة الزينة السابحة في انائها الزجاجي في شكل كوميدي ناجح. ويقول فيليب ان السمكة هي الشيء الأخير الحي الذي تركته لهم والدتهم، فيما يشكو اندراي من انه هو الشيء الأخير الحي الذي تركته. أما فيليب فيرى نفسه في تلك السمكة التي تدور وتدور في حيزها المقفل، اذ ان اسئلته الى الحياة تبقى دوما دون جواب.

يبدو العرض، ظاهريا، مفككا في افتقاره الى بداية ووسط ونهاية، متكونا بدل ذلك من مشاهد متتابعة، لكن اختيار هذا الشكل تم قصدا، لاعطائه الصبغة السوريالية التي للحلم. وكانت كاميرا ستيف مونتابوي رائعة في ابراز هذه الناحية، كما هي الحال عندما يتحول غطاء آلة الغسيل الى مكوك جوي، ويدخله فيليب لكي يظهر وكأنه في الفضاء، ثم يولد من خلاله طفل فضائي، وتُسقط عليه الصور الفوتوغرافية مثلما في حال السمكة الصغيرة عندما يقارن فيليب نفسه بها.

تكثر المسرحية من استعمال المرايا، بدءا بإشارتها الى الاعتقاد القديم بأن القمر نفسه مرآة، كما تستعمل لتعكس سير حياة كل من الاخوين، ثم هناك الاستعمال الرائع في النهاية، عندما يجلس فيليب على كرسي ملقى على الارضية، لكن المرآة تعكسه وكأنه مستقيم عليها. وهكذا يبدو فيليب عندما يتقلب على تلك الارضية وكأنه يسبح حرا في الفضاء على خلفية من الموسيقى الكلاسيكية المؤثرة. لا شك ان روبير لاباج فنان متعدد المواهب، بتمثيل ايحائي يكتفي بأخف اللمسات، ويعتمد كثيرا على فن الايماء الذي يستغني به عن ملء المشهد بالاثاث والحاجيات، كما ان شكل المونولوغ لم يحل دون فهم التحادث الذي تقوم عليه المسرحية. وكان الاخراج ناجحا في احالة تلك المجموعة البالغة التنوع من المشاهد والتصورات الى كل موحد. انها باختصار، عرض مسل بالغ التشويق، من دون لحظة واحدة من الملل بالرغم من فترات التوقف الطويلة والمتعمدة في المسرحية. وتميز العرض بكفاءة عالية في استعمال التأثيث، مثل باب خزانة الملابس الذي يصبح بابا للمصعد، وايضا وخصوصا لوحة الكي التي تتحول الى دراجة رياضة، واثقال للرفع في الملعب، والسرير الذي يدخل جهاز الكشف بالاشعة، كما ساهم بيار برنييه بأراجوز ناطق ظريف، خصوصا عندما يلعب دور رائد فضاء روسي.

تدور المسرحية على العبثية التي كمنت في قلب التنافس الاميركي السوفياتي على الوصول الى القمر وغزو الفضاء عموما. وهي تقوم بذلك من خلال التنافس الأحمق بين الأخوين، خصوصا بعد موت امهما، الذي كان يفترض له ان يجمع بينهما، لكنهما يتصالحان في الاخير، في نهاية سعيدة للمسرحية.