كتاب يبحث في السمات الأسلوبية الفنية ورمزية اللغة

TT

في كتاب صدر اخيرا عن رابطة الادباء في الكويت يبحث المؤلف عباس يوسف الحداد في خصوصية السمات الاسلوبية الفنية لتجليات الانا في النص الشعري الصوفي عند ابن الفارض.

تلك الأنا التي تشكل مركز النص الشعري «فمنها منطلق الشعرية ومنبعها وهي المصب في ذات الوقت».

ويقول المؤلف ان ما يؤكد ذلك هو الحضور المكثف للأنا في ديوان ابن الفارض، حيث تتجلى نحويا وتركيبيا في كثرة استخدامه لضمير المتكلم المنفصل «انا» والمتصل الدال على الفعالية «ت» او «نا» مما يعبر عن حضور الذات بصيغة الفرد والمجموع.

وتجاوز الأنا بتجلياتها العديدة ضمائريا ذلك الحضور المباشر في النص، الى حضور لا يقل اهمية يلحظه المؤلف في تجلي الأنا غير المباشر، حين تحل الأنا في ضمائر مغايرة للذات، داخل ضمير المخاطب، مثلا الذي يحيل الى بعد آخر ينضاف الى الانا بوصفها الأنا الشعرية.

فان كانت الضمائر المغايرة للذات ترمز الى غيرية الاحساس بالأنا، فهي تحيل اليها عبر استخدامها ضمائر الآخر «الغائب ـ المخاطب» كمرآة تنعكس فيها صورة الذات، بالشكل الذي يسمح بتجلي اكثر من وجه للأنا الشعرية واكثر من عمق للأنا داخل النص، فضلا عن تأكيد اتصافها بالتغير والتحول وعدم الثبات وفقا لتجربتها الصوفية وترقيها في الاحوال من كشف ومشاهدة، وفتح إلخ.

ويرى المؤلف ان تركز الخطاب الشعري في النص الفارضي حول «المتكلم» يجعلنا نجزم بأننا مع ديوان ابن الفارض امام تجربة تجعل من الانا اولوية ومركزية في النص لا تنفصل عن مركزيتها في البعد الفلسفي للتجربة الصوفية، التي تنزع الى اعتبار الأنا بنسبيتها هي مركز وحدة الوجود، وما النسبي فيها الا نافذة نطل منها على المطلق، الذي يتكشف لغويا عبر مستويات اساسها تأكيد وعي الأنا الفارق بنفسها من خلال اشاراتها الخاصة لعلاقتها بالوجود، اعتمادا على لغة صوفية تنزع الى استخدام الاشارة لا العبارة والترميز لا الايضاح يراها المؤلف سمة لغوية للنص الفارضي تشترك مع رؤية صوفية عامة في التعبير عن مكنون التجربة الصوفية التي «لا ينبغي كشفها الا للخاصة من اهل الطريق حرصا على استمرارية التجربة وصيانتها».

ويعتبر المؤلف ان رمزية اللغة عند شعراء التصوف بوجه عام وعند ابن الفارض بوجه خاص تؤكد ضدية الفكر الصوفي الذي كان عليه، في فترات تاريخية ان يلجأ الى «قناع» ما في مواجهة الفكر العربي التقليدي وهروبا من قيود السلطة الفكرية.

ويقول ان المتصوفة انشغلوا بفكرة الانا في حديثهم عن الغيبة والشهود والفناء والبقاء والانفصال والاتصال، فالأنا الشعرية لديهم تنطوي على بعد معرفي يحمل البذور الوجدانية الاولى لفلسفة الشاعر التي تعد الذات ارضها الخصبة الصالحة لنمو هذه المعارف عبر علاقة الذات بالموضوع، الأنا والوجد بمعنييه الخاص «الوجود الذاتي» والعام «الوجود المطلق».

وضمن ما توصل اليه المؤلف في كتابه ان استخدام النص لضمائر المتكلم في الديوان بشكل متنوع ومكثف عبر سياقات جمالية ولغوية عديدة، ليعطينا مؤشرا على محاولة ابن الفارض السعي الي تأسيس رؤية مختلفة عن سابقيه من شعراء التصوف للأنا الشعرية التي لا تنفصل في تجلياتها ـ عبر الرؤية الجديدة ـ عن بعدها العميق والخاص في التجربة. فهي، يقول المؤلف «انا شعرية صوفية، فيما يعد تماثلا حاليا للصفات وليس للذوات، الأمر الذي يؤكده عدم غياب الصفات البشرية تماما عن هذه الأنا داخل النص الفارضي، فنحن نراها تتجلي عبر ضمائر مقيدة تدمغ وجودها البشري في بعض النصوص».

ويقول ان رؤية ابن الفارض المختلفة للأنا الشعرية لا تنفصل عن تمثلاتها اللغوية الفارقة ايضا، فاللغة تتشكل لديه من خلال معجم خاص، تفارق فيه المفردات قيود معناها المعجمي، وتنفلت عبر التجربة الى فضاء من الصور والمعاني عبر سياقات تسمح للغة بطاقة شعرية تمكنها من حمل دلالات كثيفة ومتجددة، فيما يكوّن لغة وكأنها المرآة «الاصل» التي تنعكس من خلالها «الصور» كأصول متجاورة ومتداخلة في الوقت نفسه، وقد ساهم في ذلك رمزية اللغة واشاريتها.

ويتكون الكتاب المعنون بـ«تجليات الانا في شعر ابن الفارض» من اربعة فصول يتناول المؤلف في الفصل الاول منه «التجربة الشعرية الصوفية عند ابن الفارض» من خلال مفهوم «التجربة» لغة واصطلاحاً متتبعا الرؤى المختلفة وتطور المفهوم، ثم بحث خصوصيته في التجربة الشعرية الصوفية بوجه عام، وارتباطه بمفاهيم مثل «العرفان» و«البرهان» وغيرها من الرؤى الصوفية الخصوصية التجربة، مؤكدا باطنيتها، واختلاف مظاهرها شعريا عند ابن الفارض على نحو خاص، يعين على فهم وتوصيف دقيقين لملامح تجربته الشعرية الصوفية.

ويناقش المؤلف في الفصل الثاني من كتابه بداية عنصري الانفصال والاتصال، بعد التقعيد الاصطلاحي لهما، باعتبارهما محورين رئيسيين لتجربة واحدة، ويتعدى ذلك الى رصد البعد الروحي الموازي في تجربته الصوفية لرؤية الانفصال والاتصال، وكيف انهما يمثلان عند ابن الفارض مفصل رؤيته لوحدة الوجود، فضلا عن كونهما جوهر تجربته في الحب اللإهي.

وفي الفصل الثالث «الأنا مرآة الذات» يبحث المؤلف في مفهوم «الأنا» معرفيا وفلسفيا حيث يرصد تطور وتنوع هذا المفهوم، مؤكدا صعوبة تقييده في رؤية محددة اصطلاحيا، ثم يخصص البحث في مفهوم الأنا الصوفية، وبشكل اخص عند ابن الفارض وتجلياتها في علاقتها بالذات، وانعكاس الأنا بهذا المعنى في مرآة الذات، بعد تحديد دقيق لمفهوم المرآة بوجه عام وعلى نحو خاص في التجربة الشعرية الصوفية، وعلى نحو اخفى في تجربة ابن الفارض الشعرية، راصدا تلك الخصوصية عبر مثالين للأنا في مرآة الذات، هما مرآة المعاناة ومرآة الانسان الكامل.

وقد اعتمد الباحث المنهج التطبيقي التحليلي للنصوص في سعيه لتأكيد ما ذهب اليه من رؤى خاصة في هذا الكتاب الأمر الذي استدعى في بعض الاحيان الرصد الاحصائي اضافة الي السمات البلاغية والاسلوبية لعدد من الظواهر الفنية والابداعية الخاصة في تجربة ابن الفارض الشعرية.

ويخلص المؤلف في الختام الى انه كان لابد من البحث في مفهوم «التجربة» اصطلاحيا في حقول معرفية عديدة ، الامر الذي خرج منه «المؤلف» بنتيجة مؤداها صعوبة تحديد تعريف جامع مانع لهذا المفهوم، مشيرا الى ان بحثه يكشف عن وجه الخصوصية الذي يكمن في رؤية الصوفية بوجه عام لـ«التجربة»، اذ تتعلق لديهم التجربة بطبيعة الفكر الصوفي نفسه.

=