إحسان عباس: ذكريات وتعقيبات واستدراكات

مناقشة للدكتور عبد الله الغذامي وسوسن الأبطح وفاضل السلطاني ولؤي عبد الإله * إحسان عباس أراد ل«غربة الراعي» أن تكون نسخة (منقحة) لسيرته التي رواها لـ«الشرق الأوسط» سنة 1995

TT

* أقولها لأستاذي الغذامي: ما نقلتُه عن إحسان عباس غير قابل للطعن أياً كان شكل هذا الطعن وأيا كان مضمونه وأيا كان منطلقه: طعن في الذاكرة أم طعن في الأمانة

* فاضل السلطاني قرأ لعباس حسن لكنه لم يقرأ لإحسان عباس

* إحسان عباس خص ديوان «أباريق مهشمة» للبياتي بدراسة استجابة لمزاج طلبته السودانيين الذين يجمعهم والبياتي الانتماء للأحزاب الشيوعية.

* في إجابة عن أحد الأسئلة التي طرحتها عليه في حوار صحافي طويل أجريته معه عام 1995، قال لي الراحل الكبير إحسان عباس.. «لا يوجد عندنا سوى ناقد حداثي واحد، وهو إدوارد سعيد، أما الباقون فهم يترجمون».

صديقنا وأستاذنا د. عبد الله الغذامى ـ وهو يؤبن الراحل في مادة صحافية أعدها زميلنا محمد السيف ـ قال: «إن الدكتور إحسان عباس لا يقول بمثل هذا القول، وان هذا يحتاج إلى شيء من المراجعة والقراءة.. وان النقل غير دقيق».

ولا أكتمكم، يعز علي ويحز في نفسي كثيراً أن أقول، إن العكس هو الصحيح: فحكمه على نقلي هو الذي يعوزه الدقة وشيء من الأناة وعدم التسرع. وقبل أن أذكر بيَّناتي وشواهدي على وثاقة ما نقلته ودقته، يحسن بي أن أروي قصتي مع الراحل الكبير ومع سيرته الذاتية والثقافية والعلمية، لأن في روايتها ما سيضيء جانباً أساسياً مما أنا بصدد مجادلته، والنقاش فيه وعنه وحوله.

* قصتي مع إحسان عباس ومع سيرته

1 ـ في جنادرية سنة 1993، وفي أحد اللقاءات التي جمعتني بالأكاديمي والباحث السعودي بكر باقادر، أخبرني أن جامعة شيكاغو ستمنح ثمانية من العلماء في تخصصات مختلفة، دكتوراة فخرية، وسيكون من بينهم إحسان عباس.

واقترح علي بهذه المناسبة العلمية الرفيعة أن أعد شيئاً ما عن عالمنا الجليل.

تحمست لهذه الفكرة وشكرته على اقتراحه، وعرضت الأمر على د. محيي الدين اللاذقاني، المشرف على القسم الثقافي بجريدة الشرق الأوسط. ورأى اللاذقاني أن يكون حيز تنفيذها المحاور الخاصة التي كانت تنشر بغير انتظام.

وقبل أن أشرع في إعداد محور خاص عنه كنت بحاجة إلى معلومات كافية عن هذه المناسبة التي سيكرم فيها، فهاتفت د. بكر باقادر بعد عودته إلى مدينته، مدينة جده، لأستزيد منه، فقال: عليك بتلميذته د. وداد القاضي أستاذ كرسي الدراسات الإسلامية في قسم الشرق الأدنى وحضارته بجامعة شيكاغو، وستزودك بكافة التفاصيل وأعطاني أرقام هواتفها الخاصة.

هاتفتها لأستزيد منها فقالت: إن المناسبة هي انتخاب هوجو روبنشاين رئيساً جديداً للجامعة، خلفاً لحنه غراي رئيسها السابق، وستقام هذه المناسبة في العشرين من أكتوبر (تشرين الأول) وستمنح فيها الجامعة ثماني درجات فخرية دكتوراه مقدمة من كل كلياتها.

وقالت: إن هذه الدكتوراهات تمنح عادة للمتميزين في حقولهم من العلماء بتخصصاتهم المختلفة، وتكون أبحاثهم وكتاباتهم معروفة على مستوى عالمي، وجرى الأمر أن ترشحهم الأقسام المختلفة داخل الجامعة، وقد نال درجة الدكتوراة الفخرية في مجال الآداب الإنسانية أستاذي إحسان عباس.

أعددت المحور ونشر قبل أيام قليلة من إقامة حفل جامعة شيكاغو الذي منحت فيه درجة الدكتوراه الفخرية، لإحسان عباس في مجال «الآداب الإنسانية» (الخميس 14/10/ 1993، العدد5434).

وقد استكتبت فيه كلاً من: د. شكري عياد ود.ناصر الدين الأسد ود. أحمد محمد الضبيب ود.عبد العزيز المانع.

شكري عياد وهو أحد كبار مجايليه كانت مشاركته شفاهية فلقد أخذتها منه عبر الهاتف، وعبر فيها عن سعادته بهذه المناسبة وأشاد بمآثره في النقد الأدبي والدراسات الأدبية التاريخية وفي التحقيق، وركز بشكل خاص على ترجمته لموبي ديك، لهرمان ملفل.

أما الباقون فكانت مشاركاتهم مكتوبة وتحدث كل واحد منهم في جانب من جوانبه، فالأسد تحدث عن موسوعيته، والضبيب تحدث عنه كدارس شمولي، والمانع تحدث عن طريقته في التحقيق التي جمع فيها بين أسلوب العلماء العرب الأقدمين ومنهج المستشرقين.

ونظراً، لأن تلميذته وداد كانت مشغولة جداً وقتها، فلقد اتفقت وإياها أن تكون مشاركتها اقتطاع نص من مقدمتها لكتاب "من الذي سرق النار: خطرات في النقد والأدب» ـ وهو الكتاب الذي جمعت مادته من مقالات متفرقة لإحسان عباس، وقدمت له.

وقد فعلت الشيء نفسه، مع كتاب تلميذه أو آخر تلامذته الناقد محيي الدين صبحي «إحسان عباس والنقد الأدبي» وقد فعلت ذلك، لأني فشلت في العثور على هاتفه الشخصي. وكانت هاتان الشهادتان المقتطعتان تتحدثان عن منهجيته في النقد والأدب.

واشتمل المحور على لقاء أجريته معه، وكانت الأسئلة والأجوبة فيه مكتوبة، وقد تولى عملية التنسيق بيني وبينه زميلتنا في عمّان نهيل شحروري.

وتضمن المحور ببلوغرافيا عن سيرته الشخصية والعلمية صنعتها على عجل.

وكنت قد حاولت أن أستكتب صفيه الدكتور محمد يوسف نجم لكني فشلت، لرداءة الاتصال الهاتفي ببيروت وقتذاك.

2 ـ قبيل شهر رمضان من سنة 1995، طرأت في رأس محيي الدين اللاذقاني فكرة صحافية، وهي إجراء حوار صحافي مع إحسان عباس يروي فيه سيرته الذاتية، وكان رئيس التحرير السابق عثمان العمير متحمساً لفكرة اللاذقاني.

وقد اختارني اللاذقاني لتنفيذ هذه الفكرة.

فانتدبتني الجريدة إلى عمّان من أجل إنفاذ هذه المهمة، وذلك بعد أخذي موافقة إحسان عباس أن ألتقيه في حوار صحفي مطول.

بعد وصولي عمّان هاتفته، وحدد لي موعداً في منزله، لنتعارف شخصياً قبل الشروع في العمل.

زرته في بيته (حسب الموعد الذي حدده لي) وكان أخوه بكر الذي توفي قبل سنوات قليلة، حاضراً جلسة التعارف الشخصي.

وفي هذه الجلسة سألته: أين يفضل أن تكون لقاءاتنا، في منزله أم في غرفة الفندق الذي أسكن فيه؟

فقال: إنه يفضل أن تكون اللقاءات في الغرفة التي أسكن فيها لا في بيته، ففي غرفتي بالفندق، يتحقق لنا العزلة والهدوء التام من دون أن يقطع ذلك مجاوبة لاتصال هاتفي أو استقبال لزائر.

وفي أول جلسة من جلسات تسجيل الذكريات، أتذكر أني سألته: لماذا لم يكتب حتى الآن سيرته الذاتية؟

فأجابني بنفس الكلام الذي وضعه في الفقرتين الأوليتين من مقدمته لسيرته الذاتية «غربة الراعي» اللتين قال فيهما: «فاتحني عدد غير قليل من الأصدقاء في أن أكتب سيرتي الذاتية، فأخذ اقتراحهم يمثل هاجساً يدور في نفسي، ويستثير ذاكرتي، ولذا توجهت إلى أخي بكر عباس أسأله رأيه في الأمر، فكان جوابه المباشر أن قال: لا أنصحك بذلك، لأن حياتك تخلو أو تكاد من احداث بارزة تثير اهتمام القارئ وتطلعاته. كان ما قاله أخي وصديقي بكر صحيحاً، فانا أعرف أنني لم أشارك في أحداث سياسية، ولم أتول مناصب إدارية، ولم أكن عضواً في حزب، ولم أكن مسؤولاً عن مشروعات اقتصادية إلى آخر ما هنالك من نشاطات تعرّض الفرد للمسؤوليات الاجتماعية والوظيفية».

لمدة خمسة أيام كنا نلتقي يومياً، وكان الوقت الذي تستغرقه لقاءاتنا يتراوح بين الساعتين إلى الثلاث إلى الأربع ساعات، وقد بلغ ما سجلته له من أحاديث اثنا عشر شريطاً من أشرطة الكاسيت.

وكان حديثه لي، بلهجته الفلسطينية المحكية وبصوت خفيض، وفي بعض ما كان يقول ويروي لي، كان ينبهني إلى أن ما قاله وما رواه في هذه الناحية أو تلك حديث شخصي ليس للنشر، وفي بعضه الآخر لم يكن ينبهني إلى شيء من ذلك.

وفي تلك الرحلة أجريت حواراً صحافياً مع د. فهمي جدعان ومع فخري قعوار.

والحوار مع الأخير، نشر بالاشتراك مع زميلنا في عمّان مازن حجازي.

بعد فترة من عودتي من عمّان إلى الرياض، شرعت في تفريغ الأشرطة، وبعد عملية التفريغ، انتقيت مما فرغت ما انتقيت، وأعدت صياغة دردشته وإجاباته باللغة العربية الفصحى، وصممت الحوار وأعدت هيكلته، بحيث يسير في مجرى سردي تقليدي، فتبدأ الرواية: من مسقط رأسه عين غزال، إلى تنقله بين منازل حيفا، إلى القدس، إلى صفد، إلى القاهرة، إلى الخرطوم، إلى بيروت، إلى عمّان التي أجري فيها اللقاء.

وفيما يتصل بمسألة نشر القضايا التي قد تكون حساسة لكنه لم ينص شفاهة على عدم نشرها، وإغفال ما نص على عدم نشرها، شاورت د. محيي الدين اللاذقاني في ذلك، فاتفقنا على الالتزام بهذه القاعدة، فيما ينشر وما لا ينشر.

وقد نشر الحوار على خمس حلقات تحت عنوان «إحسان عباس يروي سيرته الذاتية» في الأعداد التالية 6012 و6019 و6026 و6033 و6040 ابتداء من يوم الإثنين 15 مايو (ايار) 1995 وانتهاء بيوم الإثنين 12 يونيو (حزيران) 1995.

وبعد أن تم نشر الحلقات كاملة أرسلتها إليه عن طريق زميلتنا في عمّان نهيل شحروري.

3 ـ في سنة 1996 كتب بنفسه سيرته تحت عنوان «غربة الراعي: سيرة ذاتية»، وقبل أن ينزل الكتاب إلى الأسواق، نُشر مسلسلاً على حلقات في جريدة «الحياة».

السؤال الذي لا بد لكل متابع أن يجابهه هو: بم تختلف السيرة الذاتية التي كتبها هو بنفسه عن السيرة التي رواها لجريدة «الشرق الأوسط»؟

تختلف في بعض التفصيلات التي لم ترد في السيرة الأولى وأخرى حذفها ـ أو فلنقل تجاهلها ـ وبعض الوقائع والأحداث والقضايا التي أعاد تشذيبها وتهذيبها.

إن الراحل الكبير أراد للسيرة الثانية، أن تكون سيرة منقحة للسيرة الأولى، وتصبح هي المعتمدة في الرجوع إلى معالم حياته وجوانب تاريخه الشخصي والعام، لكن دون أن يشير إلى ذلك بشكل صريح أو حتى يومئ إليه.

4 ـ في سنة 1998 شرعت في جمع مادة كتابي «العلمانية والممانعة الإسلامية: محاورات في النهضة والحداثة"، وقررت أن يكون القسم الأخير هو حواري الطويل معه، الذي يأخذ شكل السيرة الذاتية، وجعلت عنوان القسم «التراث في الحداثة: إحسان عباس سيرة في حوار». وسوغت لذلك بأن هذا الاسم الكبير يصلح نموذجاً حياً للإشارة إلى زيف الصراعات المفتعلة بين القديم والجديد، ووضع جدار صفيق بين قضايا التراث وشواغل الحداثة، فالتراثيون يقرون له بالخدمات الجليلة التي أسداها في إحياء التراث العربي الإسلامي، والحداثيون يعترفون له بريادته النقدية في آفاق الحداثة، وسماوات التجديد.

وقمت بإدخال الأسئلة والأجوبة المكتوبة التي سبق أن نشرتها في جريدة "الشرق الأوسط" في المحور الخاص عنه عام 1993 في ثنايا سيرته الذاتية التي رواها للجريدة شفاهة عام 1995.

وكان عدد الأسئلة التي طرحتها عليه في الحوار الخاص ثمانية أسئلة.

بعد هذه التوطئة التي كان لا بد منها، أنتقل الآن إلى مناقشة صديقي وأستاذي الدكتور عبد الله الغذامي، فيما ذكره من عدم دقتي في النقل عن إحسان عباس، فأقول: إن هذا الطعن غير مبرر لأنه قائم على أساس غير موضوعي ولامنهجي، للأسباب التالية:

1 ـ لم أكن أعتمد فيما نقلته على الذاكرة، وإنما كنت أعتمد على تفريغ حرفي من شريط مسجل عليه كلامه.

2 ـ ان ما اعتبره نقلاً غير دقيق نشر في صحيفة سيارة سنة 1995، ولم ينفه وقتها صاحبه أو المنسوب إليه بتعقيب مكتوب أو شفهي في الصحيفة التي نشرته أو أي صحيفة أخرى.

ولم يأمر أحداً من تلامذته وخلصائه والمقربين إليه، وفيهم أعلام كبار، بتصحيح ما نقل عنه.

3 ـ في سيرته الذاتية «غربة الراعي» لم يشر من قريب أو بعيد إلى أن ما نقل عنه كان نقلاً غير دقيق، أو غير صحيح.

4 ـ حين صدر كتابي «العلمانية والممانعة الإسلامية» سنة 1999 ـ والرجل كان حياً ولابد أنه أطلع عليه ـ والذي تضمن إعادة نشر سيرته الذاتية التي ورد فيها النقل المشار إليه، لم ينوه الراحل الكبير في أي وسيلة إعلامية أنه نقل غير دقيق أو غير صحيح.

5 ـ صديقي وأستاذي قرأ ما نقلته عن إحسان عباس في جريدة «الشرق الأوسط» سنة 1995 وقرأه مرة أخرى في مسودة كتابي «العلمانية والممانعة الإسلامية» التي سلمتها له بيدى، ليبدى ملاحظاته عليها، فقدم لي اقتراحات أخذت بها، وشكرته عليها في مقدمة الكتاب. ورغم قراءته لما نقلته في المرة الأولى وفي المرة الثانية، فإنه لم ينف حينها ما نقلته، ولم يدعُ إلى أن يُتعامل ازاءه بـ«شيء من المراجعة والقراءة».

وفي كتاب صادر له سنة 2000، وهو يحيل بخصوص هذا النقل إلى جريدة «الشرق الأوسط» سنة 1995 وإلى كتابي، فإنه لم ينبه الى شيء مما يصرح به اليوم، كنفي ما نقلته والدعوة الى مراجعته وقراءته من جديد.

وعلى هذا، يعتبر ما نقلته وثيقة غير قابلة للطعن أياً كان شكل هذا الطعن، وأياً كان مضمونه وأياً كان منطلقه: طعن في الذاكرة أم طعن في الأمانة.

وبخصوص الأولى، رغم أني لم أعتمد عليها في كتابة سيرته الذاتية، سأذكر مصدرين شفاهيين استمديت منهما ثلاثة أسئلة، ليس من باب الاعتداد بحدّة الذاكرة، وإنما من باب الجهر بالامتنان الشخصي.

في المحور الخاص الذي أعددته عن الراحل عام 1993 سألت د. محيي الدين اللاذقاني: ما السؤال الذي تود أن أوجهه لإحسان عباس؟

فقال: اسأله، من أين يأتي بهذا الوقت لصنع المؤلفات الغزيرة؟

وفي سيرته الذاتية التي نشرت عام 1995 ، استمديت معلومتين من الدكتور الغذامي، وهما معلومة متعلقة بالظروف والملابسات التي أحاطت بترجمته لكتاب «الشعر» لأرسطو، ومعلومة أخرى عن قربه من الشيوعيين واحتفائهم به.

المعلومة الأولى استناداً إليها، صنعت منها سؤالاً مباشراً، والمعلومة الثانية صنعت وفقها سؤالاً غير مباشر، وجاءت صيغته كالتالي: كيف كانت علاقتك بالاتجاهات الآيديولوجية والانتماءات السياسية الرائجة يوم ذاك؟

ولعل هذه فرصة سانحة أن أشيد بخصلة من خصال صديقي وأستاذي د.عبد الله الغذامي النبيلة، وهي أن الرجل سواءً أكنت قريباً منه أو تربطك به علاقة رسمية، سخي في وهب المعلومات التي يتوفر عليها، ولقد أفدت كثيراً من خصلته النبيلة هذه، طيلة عملي في القسم الثقافي بجريدة «الشرق الأوسط».

* سوسن الأبطح والقراءة المبتسرة

* زيادة في البينة والبرهنة على أن ما نقلته عن الراحل الكبير كان دقيقاً، سأعود إلى ما كنت فيه لكن هذه المرة من باب آخر، وهو كتابه «غربة الراعي».

في سياق حديثه عن جهود رفيق عمره د. محمد يوسف نجم، وخطتهما في تقسيم العمل الفكري والثقافي بينهما وصل إلى حقل نشاطهما في الترجمة، وعلى وجه التحديد ترجمة الكتب التي تتكفل بمهمة التعريف بـ«المدارس والمذاهب النقدية الحديثة والإفادة منها في حياة النقد في العالم العربي».

ثم انتقل في حديثه إلى ما أسماه بـ«مرحلة الثورة الحديثة في النقد الحديث» وعلل انصرافه هو والدكتور نجم عن ترجمة كتبها وذكر العامل الذي أدى الى عدم تمثلهما لمناهجها على صعيدي النظرية والتطبيق.

وقد استغرقت انتقالته هذه، صفحة وما يقارب من نصف الصفحة.

ولقد قرأت زميلتنا سوسن الأبطح ـ وهي تؤبن الراحل في الملف الذي أعده زميلنا فاضل السلطاني ـ بعض ما ورد في الصفحة الأولى قراءة خاطئة، لأنها عزلت الجملتين ـ اللتين استعانت بهما لدعم فكرتها ـ عن سياقهما العام وأسقطت ما تبعهما من جملتين استدراكيتين.

وفيما يلي ذكر لأخطاء قراءتها:

1 ـ تقول الزميلة: "يعترف ـ وهذا يجب أن يسجل له ـ بأنه لم يتمكن وزميل عمره الناقد محمد يوسف نجم من أن يلحقا بركب الثورة الحديثة في النقد الأدبي، وما حملته البنيوية والتفكيكية"، لأن هذا كله ـ كما تنقل على لسانه: «جَّد بعد الفترة التي كنا من روادها ومعاصريها.. وليس في مقدورنا أن نعيش عصرنا وعصر الأجيال التالية لنا».

وحين نعود إلى الصفحة التي لخصت سوسن بعضاً من أسطرها، وأوردت حرفياً ما لا يتعدى السطرين منها، نجده يستدرك مباشرة بعد السطر الذي استشهدت به حرفياً فيقول: «.. أن هذه المدارس الأحدث والأسماء اللامعة لم يفتنا الاطلاع عليهما وعلى نتاجها ولكن ذلك تأخر في الزمن فلم نستطع أن نتجاوز فيها مرحلة الاطلاع إلى العرض والتطبيق».

المدقق في هذا الاستدراك والمتفحص له ضمن سياقه العام، يستبعد أن الإشارة إلى التأخر في الزمن الواردة في جملته الاستدراكية كان يعني بها التأخر عن الزمن الذي اطلع فيه النقاد العرب من الأجيال اللاحقة على تلك (المدارس الأحدث) وعلى تلك (الأسماء اللامعة) وعلى نتاجهما. وإنما كان يعني بالتأخر في الزمن تأخر زمنهما الشخصي، هو والدكتور نجم، وتأخر كذلك الزمن النقدي العربي عن الزمن النقدي الغربي، وأدلتي على ذلك شاهدان هما:

1 ـ أنه في خلاصته التي انتهى إليها قال: «إنك إذا استثنيت البنيوية وجدت الموضوعات الأخرى مثل التفكيكية، والحداثة وما بعد الحداثة الخ.. مجرد عناوين مستمدة مما يردده النقاد في الغرب وليس لها أي صدى في واقعنا العربي سوى الشهوة للتشبه بمن بلغوا إليها»، وقوله أيضاً في موضع آخر من الخلاصة: «قرأت أكثر ما نقل منها ـ يعني الحداثة ـ فوجدت الخطأ المضلل هو الأغلب عليه.. وهذا يعني أننا سنظل متأخرين في ميدان النقد ـ كحالنا في ميادين أخرى ـ عقداً أو عقدين من الزمان أو أكثر» ثم ينتهي بعد ذلك إلى حكم آخر مفاده أن «معظم ما يترجم اليوم من النقد، فهو أشبه بأشباح للأصول التي ترجم عنها».

2- وفي مقدمة حديثه عما أسماه بـ«مرحلة الثورة الحديثة في النقد الأدبي الحديث»، وعمن وصفهم بالأسماء اللامعة فيها، لم يذكر اسم ناقد عربي بالاسم استطاع أن يتجاوز مرحلة الاطلاع إلى العرض والتطبيق.

وعلى صعيد ترجمة كتب النقد اليوم، لم يسم كذلك ناقلاً وناقداً عربياً بعينه لا تنطبق على ترجمته صفتا «الخطأ المضلل» و«أشباح الأصول».

سيقول أحد ما، أنه وهو يطلق هاتين الصفتين استخدم صيغتي التغليب، ولم يستخدم صيغتي التعميم أو الإطلاق، وسأقول إن هذا صحيح.

لكن علينا أن نلاحظ، أنه كان في مقام ذكر أسماء وفي مقام التشديد على استثناءات، فلقد ذكر اسم بارت، وجاك دريدا، ولاكان، وإدوارد سعيد، وإيهاب حسن وذكر اسم بختين وتودوروف، واستثنى البنيوية من الموضوعات التي وجدها عناوين مستمدة مما يردده النقاد في الغرب.

علام يدل هذا؟

يدل على ضعف اعترافه بالنقد العربي الحديث الذي يعنى بعرض تلك المدارس الأحدث ويسعى إلى تطبيقها. ويفصح عن وهن اعترافه بالنقاد العرب الذين يعنون بعرضها ويسعون إلى تطبيقها.

وهنا أقول: إن الراحل الكبير كان يعيد الفكرة نفسها التي قالها لي، يعيدها باحتراز وتحوط ودون الوقوع في شرك المبالغة أو الاطلاقية، ونحن نعرف أن الاحتراز والتحوط وعدم المبالغة أو الاطلاقية قد لا يتيحه الحوار الشفاهي، والذي بطبيعته لا يساعد على تقليب الفكرة من كافة زواياها، الحساسة والمحرجة.

إننا حين نعيد النظر في الأعلام الغربية التي اختارها لتمثيل (المدارس الأحدث) وننتزع منها اسم إدوارد سعيد، ونسأل أنفسنا:

هل يعقل أن يكون إحسان عباس ذو الثقافة الإنجليزية والثقافة الأميركية المتينة والرفيعة لم يقرأ لإدوارد سعيد، إدوارد سعيد الذي يعرف هو اسمه قبل أن يتحول إلى نجم في دنيا العرب، وذلك بحكم معرفته الشخصية به وصداقته له وقيامه هو وأنيس فريحة بتعليمه مبادئ اللغة العربية وآدابها؟

إن هذين الشاهدين اللذين استدللت بهما مع ربطهما بالسياق العام الذي كان ينتظم الفكرة. أو بمعنى أصح الدعوى التي يريد أن يقيمها على نفسه: وهي الشعور المتأخر الذي خامره ـ ليس بسبب التحقيق ـ بأنه لم يعش عصره، يدفعاننا إلى أن نجزم بأن زميلتنا فهمت ما قاله الراحل، فهماً مخلاً ومبتسراً.

ففكرته قائمة على شيء من التأمل الفلسفي الصوفي، وكان وهو يسوق شواهده بأنه لم يعش عصره، يأتي بدفوعات قائمة على جمل استدراكية، إما تضعف الدعوى قليلاً وأما تبرر له أمام نفسه: لماذا لم يكن في هذه الناحية أو تلك (معاصراً).

وفي الواقع أن فكرته هذه، إذا أخذت بحذافيرها، فلن يبق امرؤ ما، وجد في القرن الماضي وفي هذا القرن، يمكن الحكم له، بأنه كان (معاصراً) و(عاش) عصره.

إن إحسان عباس في الأسطر التي اتكأت زميلتنا على بعض ما جاء فيها، كان يريد القول: بأنه لم ينصرف هو ود. نجم إلى ترجمة كتب الثورة الحديثة في النقد الأدبي الحديث ومناهجها، بسبب أنهما لم يهضماها ويتمثلاها بشكل كامل وواف، كما كان حالهما حين استوفيا هذين الشرطين الشاقين في المرحلة التي سبقت مرحلة الثورة الحديثة في النقد الأدبي الحديث.

وكان يريد أن يقول ـ أيضاً ـ إن النقد العربي الحالي وأقطابه ـ وهذا ما تؤمئ إليه استدراكاته ـ لم يبلغ تلك الغاية المطلوبة، وهي استيفاء شرطي الهضم والتمثل لمناهج الثورة الحديثة في النقد الحديث، لاعرضاً ولا تطبيقا!

* ثقافة العجلة

* مناقشتي للزميلة سوسن الأبطح لم تكن مقصودة لذاتها وإنما جاءت هذه المناقشة، لأنها تعرضت للمقطع الذي لو لم تستخدمه، لكنت استخدمته أنا في مجادلتي لصديقنا وأستاذنا الدكتور عبد الله الغذامي.

وقبل ذلك لو أن صديقنا وأستاذنا لم يطعن في نقلي ما كنت سأعلق على ما جاء في مقالها.

وبما أني خضت في هذا الموضوع، فأرى من المفيد استكمال تعليقي بتعليقين آخرين على مقالين تضمنهما الملف التأبيني لإحسان عباس. وهما مقالا لؤي عبد الإله وزميلنا فاضل السلطاني، معد الملف.

يقدم لؤي عبد الإله نفسه في صدر مقالته، بأنه واحد من قراء إحسان عباس المخلصين. ثم يتحدث بعد ذلك عن الحاجة للشعور الوهمي ببقاء الدكتور عباس بيننا لأن فيه ـ كما يقول ـ نوعا من الحجاب الواقي ضد سيادة ثقافة (العجلة والاستعراض)..

وكان لؤي في ذلك يمهد لطرح سؤال صاغه على النحو الآتي: «ما الذي دفع إحسان عباس للالتفات إلى «موبي ديك» لتبني ترجمته، وهو الذي كان مأخوذاً، إضافة إلى التدريس الجامعي، والكتابة النقدية الشعرية، بمراجعة الكتب القديمة؟».

وعلى طريقة بعض حداثيينا، أجاب عن سؤاله إجابة غير مباشرة، وكانت مبهمة نوعاً ما.

ولعلي ـ في حدود ما فهمته منها ـ ألخصها في أمرين، الأول أمر خاص، والآخر أمر عام.

الأمر الخاص، أن إحسان عباس ـ كما يقول ـ تبنى هذه الترجمة لينمي لغته النثرية إلى حدود مدهشة، فكانت هذه الترجمة وسيلة لاختبار هذه المعرفة على أرض الواقع.

والأمر العام هو أنه أراد فيها ـ كما عبر ـ أن يضع أمامنا كشفاً عن حدود وقدرات اللغة العربية الواسعة في ميدان النثر.

والحقيقة أن هذا السؤال لم يكن ليطرح لو عرف صاحبه أن إحسان عباس لم يترجم الرواية اختياراً، بل ترجمها بتكليف من مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، ولأدع إحسان عباس يتولى الإجابة على سؤال لؤي عبد الإله، ويجيب عنه إجابة غير حداثية، يقول إحسان عباس حين سألته عن سبب ترجمته لرواية «موبي ديك»: «لم أترجمها اختياراً بل ترجمتها بتكليف من مؤسسة فرانكلين، وقالوا لي إن هذه الرواية نعتبرها من كلاسيكيات الأدب الأميركي، ونريد أن نترجمها للغة العربية».

وعلى ذكر هذه المؤسسة العلمية والثقافية العريقة، أشير إلى أن ترجمته لهذه الرواية لم تكن هي العمل الوحيد التي كلفته به، ولأدعه مرة أخرى يحكي عن سبب اتجاهه إلى هذه المؤسسة وباعثه على التعامل معها.

يقول اثر حديث مستطرد، قادنا إليه الحديث عن أستاذه محمود محمد شاكر: "ترجمت كتباً لمؤسسة فرانكلين الأميركية مع أن هناك أناساً يشجبون التعامل معها، كنا مضطرين للتعاون مع هذا المركز العلمي الأميركي، فالمجلات لم تكن تدفع لنا شيئاً مقابل ما نكتبه لها، ولا تعتقد أن هذه المؤسسة الأميركية كانت تدفع الكثير، فترجمتي مثلاً لـ«موبي ديك» التي أمضيت فيها أكثر من عام أخذت عليها ثمانمائة ليرة لبنانية، كما أن مرتباتنا لم تكن عالية، فأنا كنت أقبض خمسمائة دولار، يذهب نصفها للإيجار.

لذا كنا نحرص على زيادة دخلنا من خلال هذه المنافذ كمؤسسة فرانكلين الأميركية، لكن أؤكد أن هذا لم يكن على حساب نزاهتنا العلمية، ولا على حساب شرفنا الوطني».

ومما يستحق التدقيق في السؤال الذي أوردنا نصه الكامل، عبارة وردت فيه، وهي عبارة (مراجعة الكتب القديمة).

وأظنه يقصد بها تحقيقاته، وإن كان هذا المقصود، فليعلم أن انشغال إحسان عباس بتحقيق الكتب التراثية من ناحية زمنية جاء تاليا لنشاطه في مجال الدراسات والترجمة.

* التنظير في الهواء

* أما زميلنا فاضل السلطاني فلقد وقع في مقاله "المعلم في غربته" في أغلاط معلوماتية عدة، هي:

ـ زعمه أن كتاب "فن السيرة" كتاب تعليمي، ترجمه إحسان عباس إلى العربية، والصحيح أنه من (مؤلفاته) وليس من (ترجماته).

كما أن الكتاب يصعب تصنيفه، أنه كتاب تعليمي، فالكتاب يقوم على العرض والتحليل غير المعني بالاستقصاء، ولايخلو الكتاب من المنظور النقدي في تقديم مادته.

ـ زعمه أن إحسان عباس أعقب ترجمته لرواية «موبي ديك» بترجمة رواية «الشيخ والبحر» لأرنست همنجواي والرواية الأخيرة ـ كما هو معلوم ـ لم يترجمها إحسان عباس وإنما ترجمها أكثر من واحد، أشهرهم كان منير البعلبكي.

ـ زعمه أنه (ترجم) الكتاب التعليمي «فن القصة القصيرة» وهذا غير صحيح، فإحسان عباس لم يسبق له أن ترجم كتاباً بهذا العنوان.

والكتاب الذي يحمل هذا العنوان هو كتاب ألّفه رشاد رشدي الناقد المصري سنة 1959 وقبل أن يخرجه في كتاب، كان عبارة عن أحاديث ألقاها في الإذاعة المصرية. ومحتوى الكتاب كما يوضحه عنوانه الشارح: دراسة تحليلة عن كتاب القصة مع شروح لقصص كاملة من تشكيوف وهمنجواي وموباسان وكاثرين مانسفيلد ولويجي بيراندللو.

وأعتقد أني لست بحاجة إلى أن أعَلق على تفسيراته وتعليلاته التي تخللت ذكر عناوين كتب عباس والتي لم يصح منها أي عنوان، مما يشير إلى أن زميلنا العزيز قرأ لشخص آخر قد يكون عباس حسن من الناس، لكنه ـ على وجه اليقين ـ ليس إحسان عباس الذي نعرفه.

ولعل ما يستحق التعليق مدخله النظري والذي لا يخلو هو الآخر من معلومات غير دقيقة وتفسيرات غير صحيحة وسأورد مدخله بنصه الكامل.

يقول زميلنا فاضل: «ففي الوقت الذي انطلقت فيه ثورة الشعر الحديث، بكل ما يحيطها من سوء فهم وعدم وضوح، وإساءة تطبيق واستغلال، وركوب موجة ـ كما يحصل مع أي ثورة ـ كرس نفسه سنوات ليكتب عن هذه الظاهرة الجديدة، ويناقش أسبابها وضرورتها وقوانينها الداخلية، ويعزل السمين فيها عن الغث، ولم يفعل ذلك انطلاقاً من مكتبه الجامعي بل ذهب إلى الأرض الأولى التي انطلق منها هذا الشعر، فزار البصرة وأبا الخصيب موطن بدر شاكر السياب، ووقف على بويب مستذكراً قصيدة السياب «النهر والموت» ليقدم كتابه المرجعي «بدر شاكر السياب والشعر العراقي الحديث»، وقبل ذلك بوقت طويل، حوالي عام 1955 نشر كتابه عن البياتي الذي لم يبلغ عمره الشعري آنذاك سوى ثماني سنوات في جرأة نقدية نادرة في ثقافتنا العربية ما زلنا نفتقد إليها لحد الآن».

التعليق:

1 ـ اتفق معه أن الشعر الحديث في بداياته القوية الأولى في أواخر الأربعينات ومطلع الخمسينات أحاط به (سوء فهم وعدم وضوح) لكن أختلف معه أنه أحاط به (إساءة تطبيق واستغلال وركوب موجة) ففي البدايات كان هذا الشعر يمثله رواده ورياديوه الكبار في العراق وبلاد الشام ومصر. فـ«واساءة التطبيق والاستغلال وركوب الموجة» مظاهر تعاظمت في عقود تالية، وذلك حين انتزع الشعر الحديث الاعتراف به، وصار هو الاتجاه الغالب والمسيطر والمهيمن على الحياة الأدبية والثقافية في العالم العربي.

ولا ننسى كذلك أن الشعر الحديث في فترة فورته كان محارباً من سدنة النقد والأدب والثقافة الكبار، ومحاصراً من العديد من الأقنية الإعلامية الجماهيرية.

وعلى ضوء هذه الحقيقة فإن من ينوي ركوب موجة، فإنه لن يختار موجة الشعر الحديث ليركبها، لسبب بسيط، وهو أن من يقف مع الشعر الحديث كانوا قلة، ومن يعاديه ومن لا يعترف به كانوا هم الكثرة.

وعلى العكس من ذلك فإن إحسان عباس يضع (إساءة التطبيق والاستغلال وركوب الموجة) وما في معناها، علة أساسية، لانصرافه عن العناية بالشعر الحديث وليس علة للاهتمام به. وسيأتي الحديث عن هذا الأمر حين أجعل إحسان عباس نفسه يرد على صديقي وأستاذي الغذامي.

2 ـعناية إحسان عباس بالحداثة الشعرية في مرحلة مبكرة من تاريخها جاء لأسباب مختلفة جداً عن الأسباب التي ذكرها الزميل، وأرى أن هذه الأسباب تتمثل في ما يلي:

أ ـ إحسان عباس منذ صباه وفتوته في الكلية العربية بالقدس كان يشايع الجديد وينتصر للحديث في مواجهة القديم والموروث، وكانت هذه المشايعة والمناصرة تقوم على معرفة وافرة بالتراث الكلاسيكي العربي، وتستند إلى إطلاع ممتاز على الآداب الغربية الحديثة.

ب ـفي السودان ومن السودان (1951 ـ 1960) بزغ نجم إحسان عباس بوصفه دارساً وناقداً يوالي نشر مقالاته في كبريات المجلات الثقافية في العالم العربي.

وإلى هذا كان يزاول نشاطاً ميدانياً آخر، وهو إلقاء المحاضرات في التجمعات الثقافية العامة وتجمعات الدوائر الطلابية، ويشارك في النقاشات والجدل الأدبي والإبداعي والفكري، ويبسط رعاية أبوية حانية على الموهوبين من المبدعين في الشعر والقصة والنقد. وكان معظم المحيطين به من الطلبة، والقريبين منه من زملائه الأكاديميين، ينتمون إلى التيار الشيوعي وإلى التيار التقدمي العام .

وكان هذان التياران منحازين ـ على الصعيد الفني وعلى الصعيد الفكري ـ إلى التعبير الحديث والحداثي في الفن والأدب والثقافة والفكر، بوصفه التعبير الأعمق عن الثورة والثورية بمعنييهما الثقافي والفلسفي الشامل.

وحركة الحداثة نفسها مع جيل الرواد والرياديين، كان يهيمن عليها اتجاهات فكرية ثلاثة، هي:

اتجاه شيوعي، اتجاه يميني تقدمي أقرب ما يكون إلى خانة اليسار، اتجاه تحرري غير قومي وغير ماركسي.

انطلاقاً من هذا الجو العام المحيط بحركة الحداثة في العالم العربي، وانطلاقاً من الجو العام الذي يحيط بحركة الثقافة والحياة الجامعية في السودان، خص إحسان عباس ديوان "أباريق مهشمة" لعبد الوهاب البياتي بدراسة، وكان هذا الاختيار يستجيب لمزاج الطلبة السودانيين الذين يجمعهم والبياتي الانتماء للأحزاب الشيوعية العربية، فدراسته لهذا الديوان كانت في الأساس معدة لتلقى كمحاضرة في موسم ثقافي طلابي، لكن هذا الموسم لسبب أو آخر تأجلت إقامته، فبعث إحسان عباس لصديقه محمد يوسف نجم دراسته لينشرها له إما في مجلة "الأديب" وإما في مجلة "الآداب".

د. محمد يوسف نجم رأى أن هذا البحث، مع مختارات شعرية للبياتي ترفق به، من الممكن أن يشكل كتاباً مستقلاً، فذهب بالبحث إلى الناشر محمود صفي الدين صاحب دار بيروت، لينشره في كتاب.

ولتقديره وقتها أن اسم البياتي وحده لايسوق لكتاب، وضع له عنواناً عاماً يتعدى البياتي الى الشعر العراقي الحديث وكان العنوان: «عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث". مع أن الكتاب ليس فيه ـ كما يقول إحسان عباس ـ أي كلمة عن الشعر العراقي الحديث.

ت ـالحفاوة والصدى العربي الجيد الذي لقيه هذا الكتاب الذي طبع سنة 1955 حفز إحسان عباس أن يتابع ويستمر في مهمة تقديم الشعر الحديث.

يقول إحسان عباس عن هذه القضية: «بعدما كتبت عن نازك والبياتي، أصبحت أمام الآخرين مسؤولاً عن تقديم الشعر الحديث، فكان علي أن أتابع وأستمر في هذا الاهتمام، فقررت أن أكتب عن بدر شاكر السياب، لكن أرجأت هذا الأمر إلى أن توفي سنة 1964، فجددت إحياء المشروع».

ويحدثنا عن الفترة الزمنية التي استغرقها إعداده لكتاب «بدر شاكر السياب: دراسة في حياته وشعره» فيقول: «استغرقت خمس سنوات، بدأت جمع مادته من سنة 1964، وانتهيت منها سنة 1969، تخللتها سنة توقفت عن العمل فيه وهي سنة 1968 فلقد كان عندي سنة تفرغ قضيتها كلها في مكتبة اسطنبول، غارقاً بين المخطوطات. وبعد أن عدت من اسطنبول، انكببت على هذا العمل ستة أشهر، إلى أن انتهيت منه».

ث ـ نزوح أسرة إحسان عباس ومعارفه وأهل ناحيته الجغرافية من قضاء حيفا بفلسطين بعد حرب 48 إلى العراق، كان له دور أساسي في عنايته الريادية برواد الشعر الحديث.

فمن الملاحظ أن عنايته هذه اقتصرت على رواد كانوا من العراق ولم يتسع نطاقها إلى عناية برواد كانوا من بلاد عربية أخرى.

فإحسان عباس في البداية كتب عن نازك الملائكة (1952 ـ 1953) ثم عن البياتي (1955) ثم عن السياب (1964 ـ 1969) وقد سبق أن أثرت معه هذه الملاحظة، فأجاب عليها قائلاً: «يجوز، ففي ظل فراقنا، كان يصلهم ما كنت أكتبه، وهذا شيء يهمني، حتى يعرفوا أن تعبهم على ابنهم لم يذهب سدى، كان أبي ـ مثلاً ـ مسروراً جداً».

هذه هي الأسباب أراها مجتمعة ـ وعلى نحو متشابك ومتداخل ـ كانت وراء عنايته الريادية بالحداثة الشعرية في العالم العربي.

3- في خاتمة مدخله وهو يشيد بكتاب إحسان عباس عن البياتي ذكر زميلنا فاضل أن الأول نشر كتابه «في جرأة نادرة في ثقافتنا العربية، مازلنا نفتقد إليها لحد الآن».

القسم الأول من جملته صحيح، لكن القسم الأخير منها فيه تعميم جارف يحتاج إلى اثبات وبينة. وأسأله إستناداً إلى الشاهد الذي ذكره (وهو كتابة ناقد مرموق كإحسان عباس عن شاعر واعد كالبياتي يجرب شكلاً جديداً في كتابة القصيدة) ما الجرأة النقدية النادرة التي ما زلنا في ثقافتنا العربية نفتقد إليها، إلى الآن؟!

* إحسان عباس يرد على الغذامي

* سأل زميلنا محمد السيف، صديقنا وأستاذنا الغذامى حول ما أشيع من أن إحسان عباس قد فتر حماسه للقصيدة الحديثة، وأنه لم يعد متحمساً لها كما في بداياته، فرد الغذامى بالنفي، وأشار إلى أن إحسان عباس قد استمر داعماً ومؤزراً للقصيدة الحديثة.

وسأرد على صديقنا وأستاذنا، بنقولات من إحسان عباس نفسه.

يقول إحسان عباس: «انقطعت صلتي بالشعر الحديث، منذ سنة 1969، ولم أعد إلى الكتابة فيه إلا سنة 1978 حينما كتبت كتابي «اتجاهات الشعر المعاصر» الذي أعددته بناء على طلب من المجلس الأعلى للفنون بالكويت، وقد أعددت هذا الكتاب وأنا في أميركا».

وقبلها بسنتين في نفس الجريدة عبر إجابة مكتوبة بخط يده عن سؤال وجهته له كتابياً، وكان نص السؤال يقول: «بعد مضي هذه السنوات الطويلة ماذا تقول عن دراستيك المبكرتين للبياتي والسياب؟ ولماذا لم تتابع هذا الاهتمام بالشعر الحديث إلى اهتمام متواصل بحركة الحداثة؟».

قال من ضمن ما قاله: «.. لم أتابع الاهتمام بالشعر الحديث على إثر صدور كتابي الثالث «اتجاهات الشعر العربي المعاصر» الذي حاول أن يكشف ما هي الزوايا التي تجعل من هذا الشعر حداثياً. ولكن الذين تصدوا للكتاب أساءوا فهمه، وكان إخفاقه يمثل إجهاضاًَ متعمداً لما بدأته في الكتابين السابقين. أضف إلى ذلك صدمة أخرى تقع مسؤوليتها على كثرة الدخلاء والمتطفلين في هذا الشعر، وهم الذين انحرفوا به عما رسمه الرواد».

وأضاف: «لم أنقل اهتمامي إلى ما تسميه: حركة الحداثة، لاعتقادي الراسخ بأن الحداثة عندنا لم تتجاوز الشعر في بعض مراحله، بينما الحداثة عند غيرنا تتناول العلم والاقتصاد والتكنولوجيا والفكر الفلسفي والسياسي وقضية المرأة وغير ذلك من الحقول، فأين الحداثة في هذه الحقول لدينا؟ دعنا نتواضع في استعمال هذا المصطلح، فلا ندعي الحداثة لأن غيرنا يتحدث عنها».

استناداً إلى هذه الإجابة المكتوبة والمنشورة في جريدة «الشرق الأوسط» سنة 1993، سألته وأنا أسجل سيرته في عمّان سنة 1995، هذا السؤال: أعرف أن لك تحفظات على الإطلاقية التامة في الحديث عن الحداثة عندنا، فأنت لا تخرجها عن نطاق الشعر، لكن ألا ترى أنه كما يوجد شعراء حداثيون عندنا، يوجد ـ أيضاً ـ نقاد حداثيون.

فأجاب: «مع محبتي للنقاد الحداثيين وتقديري لهم، إلا أنه لا يوجد عندنا سوى ناقد حداثي، وهو إدوارد سعيد، أما الباقون فهم يترجمون».

وشرح فكرته قائلاً: «الحداثة عندنا لا تتجاوز الفن وخصوصاً الشعر، والذين يجادلونني بالحداثة، دائماً ما أقول لهم: دعونا نأخذ قضية المرأة: فهدى شعراوي عندما خرجت سافرة مع مجموعة من النساء كانت هذه الحركة تعتبر بدايات الحداثة، لكن مالذي حدث بعدها؟

الذي حدث هو أننا نشهد في العالم الإسلامي قاطبة عودة للحجاب، إذن فهي حداثة لم تبدأ إلا لتنتهي. ففي الفكر الأوروبي حركة المرأة كانت مقرونة بحركة النقد الأدبي.

فالحداثة وما بعد الحداثة في أوروبا، لها نقاط يمكن أن تؤرخ لها، من ديكارت إلى فوكو، لكن الحداثة العربية، نشأت في زاوية ضيقة هي زاوية الشعر، وأنا أستغرب كيف تستعمل هذه الكلمة دون تحفظ، ويعمم ما يحدث في الحركة الشعرية مقياساً على كل شيء، مع أن التخلف هو المسيطر على كامل المشهد عندنا». انتهى.

ويلاحظ القارئ أن إجابته المكتوبة سنة 1993 هي نفس إجابته الشفاهية سنة 1995.

الاختلاف يبرز في حدّته المبالغ فيها، في نفي وجود نقاد حداثيين عندنا، وأعزو ذلك إلى أن سؤالي له كان قائماً على مجادلة منطقية أطروحتها، كالتالي:

كما يوجد باعترافه عندنا شعراء حداثيون.

إذن ـ ومن منطوق هذا الاعتراف ـ يوجد نقاد حداثيون عندنا.

لأن الحداثة في الشعر وفي النقد الأدبي عمليتان متصلتان، لا يمكن ـ وبشكل متعسف ـ الفصل بينهما.

ثم أن صديقي وأستاذي الدكتور الغذامي ـ وهنا نجعله، إلى حد ما، يرد على نفسه ـ تكأ في كتابه «النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية» على ما نقلته عن إحسان عباس، وذلك في حديثه عما سماه بـ«الحيل النسقية التي تتوسل بها الثقافة لتعزيز قيمها الدلالية"، والتي رأى من مظاهرها تبرير كل قول شعري وكل شخصية شعرية والذي ظل ينتجه ـ حسبما يقول ـ «حتى أولئك الموصوفون بالتنوير والتحديث ولا عجب أن يقول البعض إن الحداثة العربية ظلت شعرية فحسب، ولم تؤثر على أنماط الخطابات الأخرى كالفكر والسياسة والاقتصاد، قال ذلك كل من أدونيس وإحسان عباس».

ثم أحال إلى كتاب أدونيس «ها أنت أيها الوقت»، وأحال إلى جريدة «الشرق الأوسط» 13/6/1995 وإلى «العلمانية والممانعة الإسلامية».

ولا أدري كيف يكون مقدمة ما نقلته عن إحسان عباس غير دقيق ويكون شرح النقل وتفصيله دقيقاً، ويحال إلى ناقله، كاتب هذه السطور، بوصفه مصدراً موثوقاً بنقله؟،

فإن كانت المقدمة غير دقيقة، فمن باب أولى أن يكون شرحها وتفصيلها غير دقيق،

هكذا أرى الأمور.

* إشارة:

تعتمد هذه المادة في نقاشها وفي النصوص المقتبسة فيها والمشار إليها على المصادر التالية:

1 ـ حواران أجريتهما مع إحسان عباس في جريدة «الشرق الأوسط» سنتي 1993 و1995.

2 ـالقسم الأخير من كتابي «العلمانية والممانعة الإسلامية».

3-عددا «الشرق الأوسط» 9014 ـ 9020، الأحد 3/8/2003، السبت 9/8/2003.

4 ـ«غربة الراعي»، إحسان عباس، ص 5 ومن ص 229 إلى ص 236.

5 ـ «النقد الثقافي»، عبد الله الغذامي، ص 83.