السرد الذاتي والحكايات الجماعية «مصب الشمس» لعبد الله ساعف محكيات تجمع بين المعرفة التاريخية والسياسية

TT

يعتبر عبد الله ساعف أحد أهم الباحثين المغاربة في العلوم السياسية، وله في هذا المجال العديد من الكتابات الفكرية والمؤلفات التحليلية والمساهمات العلمية والحوارات السياسية المنشورة، والتي تزيد عن عشرة كتب، يتوزعها التأمل في الوضع السياسي بالمغرب وخارجه، والبحث في الخطاب السياسي الراهن، في تعدد صوره وتعالقاته بالمعرفة والفكر الإيديولوجي والاستراتيجي والديمقراطي والتربوي.

غير أن انشغالات عبد الله ساعف الأكاديمية والعلمية، إلى جانب انشغالاته السياسية، لم تحل بينه وإقباله المتزايد والملحوظ على نوع آخر من الكتابة التي ارتضاها لنفسه، ويتعلق الأمر، هنا، بكتابة نمط معين من السرد، هذا الذي يغلب عليه طابع كتابة المحكيات والخواطر والمذكرات. ويعتبر عبد الله ساعف، هنا، أحد الباحثين المغاربة القلائل، في مجاله أو ما يشبهه، الذين استهواهم هذا النمط من الكتابة السردية، في بعض صورها وتجلياتها التعبيرية النادرة، فقدموا، في إطارها، بعض النصوص اللافتة (نشير، هنا، أيضا إلى كل من عبد الله العروي وسالم حميش وأحمد التوفيق، فيما يتصل بانعطافهم نحو كتابة الرواية تحديدا، قادمين إليها من مجال الفلسفة والفكر والتاريخ...).

لقد صدرت لعبد الله ساعف، في المجال السردي، بعض النصوص التي خلفت أثرا لافتا على مستوى الخصوصية والتلقي والمتابعة، ومؤخرا صدرت له «محكيات»، كما فضل تجنيس كتابه الجديد، بعنوان : «مصب الشمس : (حوليات من زمن الانحسار)»، عن منشورات مشتركة بين اتحاد كتاب المغرب ودار الثقافة. يقع الكتاب في 160 صفحة من القطع المتوسط، كتب، في الأصل، باللغة الفرنسية، وقام بترجمته إلى العربية، بصياغة مبدعة، كل من محمد نايت الحاج وعبد الهادي الإدريسي...

وتتشابه كتابات عبد الله ساعف غير السياسية في محاولتها الحفر في الذاكرة الفردية للذات الكاتبة، كتلك التي يحكي فيها تجربته مع استعمال حافلات النقل الحضري، أو الحفر في الذاكرة الفردية لبعض الشخصيات البطولية الأخرى، كما في كتابه «أنه ما»، وكذا الحفر في الذاكرة الجماعية والتاريخية للمجتمع المغربي، ولغيره من المجتمعات الأخرى التي زارها الكاتب أو جال في بلدانها، في هذا السياق أو ذاك... ويتم التعبير عن تلك الأجواء من منطلق حكائي، يمزج بين الحس السردي والمعرفي والاستعادي، في تقاطع ذلك كله، أيضا، مع التجربة الذاتية، في بعدها اليومي الواقعي، والتجربة الجماعية، في بعدها التاريخي والمعرفي العام...

تضم محكيات «مصب الشمس» سبعة عشر محكيا، تتداخل فيها الحكاية بالخاطرة، واليوميات بالذكريات، والوصف بالتحليل، والكاتب في صوغه وسرده لذلك كله، يتوسل بالتأمل والجرأة في الرصد والحكي والاستعادة واستجلاء أغوار الصمت، كما عبر عن ذلك الكاتب نفسه، في أولى محكياته «وقائع الانحسار»، في إطار حكيه عن تجربة الحركة اليسارية في المغرب. بعدها، يأخذنا الكاتب فيما يشبه النبش والسفر في الخواطر والذكريات مع أحداث ووقائع وصور ووجوه ومحطات، من هنا وهناك، تتصل وتتكامل، أحيانا، فيما بينها، بالرغم من المسافة الزمنية التي تباعد، أحيانا أخرى، بين زمن وآخر وبين حدث وآخر أيضا... فمن أحداث مارس (آذار) 1965، في ارتباطها، كذلك، بولادة اليسار في المغرب، فحديث الكاتب عن اليسار العربي الجديد، والنضال اليساري في المغرب، بعد 1970، مرورا بمحاكمة المناضلين الجبهويين، يستمر الحكي، في تنام زمني أحيانا، عن تاريخ الحركة اليسارية وقد احتمت بالسرية، وعن نضالها في فترة السبعينات، مرورا بالعديد من المحكيات الأخرى ذات الارتباط الجوهري بما سبق من تداعيات وأحداث، كالحكي عن معتقلي اليسار وعن نماذج من كتاباتهم السجنية (كتابات عبد اللطيف اللعبي تحديدا)، والحكي عن بعض الشخصيات المرموز إلى أسمائها بحروف فقط، سواء تعلق الأمر، هنا، بـشخصية «ح» في نص «حقيقة ما كان من استشهاد الرفيق «ح»، أو بنفس الحرف/الشخصية في النص الذي يلي: «مد وجزر»، أو بالشخصية المرموز لها بـحرف «ر» في نص «الجسد»، وشخصية «ح.ك» في نص «ريبة وشك»، وهو أسلوب في الحكي عن «شخصيات»، من زمننا المغربي والعربي، ربما يتوخى الكاتب من وراء تغييب تعيينها الاسمي المباشر تجنب خلق أسطورة، أو هالة، ما من حولها، وإن كان في رمزيتها تلك ما يشي بإضفاء نوع من البطولة والأسطرة عليها...

عدا ذلك، يلجأ الكاتب، أيضا، إلى استعادة بعض مشاهداته أثناء رحلاته وسفرياته في الأمكنة (من قبيل رحلاته إلى اليابان وإيطاليا والبرتغال وجزر الآسور والصين...) وفي الأزمنة والذكريات (أزمنة المراهقة والنضج والنضال والوعي السياسي والتقارير السياسية والممارسة العلمية الأكاديمية)، وفي النظريات والثورات والهزائم، أيضا، (النظرية الماوية، الثورة الثقافية، ثورة مايو 1968، هزيمة 1967...)، وغيرها من أنواع المغامرات والمشاهد والذكريات والأحداث التي يستحضرها الكاتب ويروي عنها، وبالخصوص حكيه عن مجموعة من الوقائع التي حدثت له ضمن نص طويل نسبيا، مقارنة بالنصوص الأخرى، سماه بـ«يوميات الحملة الانتخابية»، وفيه يمتزج البعد الذاتي بالوعي السياسي للكاتب، هذا الذي خلفته هزيمة يونيو (حزيران) 1967 وأحداث مايو (ايار) 1968 بفرنسا، قبل أن تظهر عنده ملامح النضج السياسي بعد التحاقه بالجامعات، في نهاية الستينات، فاعتناقه موجة الحركة الماركسية اللينينية التي اكتسحت الجامعة المغربية أنذاك، عدا حكيه عن مجموعة أخرى من الوقائع التي واكبت ترشيحه للانتخابات التشريعية لعام 1984، وما تلا ذلك من استنطاق على يد سلطات الأمن، ومن حملة انتخابية كشفت عن صورة متناقضة عن العمل الديمقراطي في الأحياء الشعبية، حيث ينعدم الوعي السياسي ويخيم البؤس الاجتماعي.

إن لجوء عبد الله ساعف إلى استعادة مختلف هذه المحكيات الواقعية، لا يعني أبدا، يقول، «كوني استسلم لنزوة منحرفة استلذ فيها اجترار التناقضات والمفارقات وسلوكات الإنكار والجحود والفشل الذريع الذي منيت به طائفة كبيرة من أبناء جيلنا. كما أنني لا أبحث من وراء عملي هذا عن متعة قد توفرها الكتابة، ولا عن توظيف الجهود في مواضيع قد تستهوي طبقة من القراء الحيارى المتعطشين، في زمن طغى فيه الالتباس السياسي، فهم في تردد وارتباك..» (ص112)، بل، يضيف الكاتب، إنه يتوخى، في المقابل، «الحكم عن بعد وبكل موضوعية على تجربة يبدو أن فلسفة منهج قد تركزت فيها كاملة، مجسدة حقيقة واختيارا وأملا ذا بعد جديد...» (ص112).

يتم الحكي في هذا الكتاب، إذن، عن مختلف تلك اللحظات والمحطات، بلغة تعبيرية راقية، يتم عبرها تذويب ذلك الزخم من الأفكار والمعطيات التاريخية والسياسية والاجتماعية والمعرفية، والتحاليل والمقارنات بين الأفكار والتنظيمات السياسية والإيديولوجية والفكرية، السائدة داخل هذا البلد أو ذاك، والقطائع والمصائر والمسارات والصراعات السياسية والمنعطفات التاريخية والثورات الثقافية، تلك التي كانت سائدة في العديد من بلدان العالم، في فترات أساسية من التاريخ الحديث للبشرية، أقول يتم تذويب ذلك كله داخل العديد من الصور والمواقف والشهادات والتعابير الإبداعية، التي غدت مشبعة بنكهة خاصة، تمتزج فيها الشاعرية بالمتعة في التذكر والمزج بين الأسطوري والتاريخي والمعرفي والذهني.. ويكفي، هنا، أن نتوقف عند نص «حداد أفلاطون»، حيث يحكي الكاتب عن رحلته العلمية إلى صقلية، ونص «ميولات استراتيجية»، والذي يروي فيه، كذلك، عن البرتغال وعن رحلته، العلمية أيضا، إلى جزر الآسور، إضافة إلى نص «الجسد»، الذي يحكي فيه الكاتب عن «الجسد» في علاقته بالسلوك التحرري السائد، لكي نلمس، عن كثب، مدى قدرة الكاتب على إعادة تشكيل مادة حكيه، وقد «اتخذت كلماتها معاني جديدة غير تلك التي كانت لها»، بعد كل هذا الزمن الذي أصبح يفصل الكاتب عن زمن تدوينه لها على صفحات مذكراته، وإن لم تتغير حقيقتها في العمق، وأيضا عن مدى قدرته على ترويض لغة الحكي وتحريك الذاكرة واستثمار المدون من اليوميات، بذكاء بالغ، في هذا الكتاب الممتع، وذلك من منطلق انتزاع هذه المحكيات وإخراج لغاتها من مجال التقريرية والتحليل العلمي إلى فضاء الإبداع والسرد والبوح الموحي والشفاف.