رواية مصرية عن تناقضات الحال العراقي

«أشجار قليلة عند المنحنى» لنعمات البحيري تقدم شهادة نادرة عن داخل العراق

TT

الواقع الذي انطلقت منه الكاتبة المصرية نعمات البحيري في روايتها الصادرة عن دار «الهلال»: «اشجار قليلة عند المنحنى»، هو العراق الآن، وليس العراق المتخيل كما يصوره بعض الكتاب العرب والذين يزورون بغداد بين حين وآخر مدعوين في مهرجاناتها الكرنفالية المختلفة فلا تتاح لهم الفرصة، او هم لا يرغبون اصلا، الا بالاطلاع على فخامة فندقي المنصور ميليا والرشيد، حيث الاقامة المكيفة، ثم بموائد هارون الرشيد العامرة بالرقص والغناء والشراب والطعام والتي تقام للضيوف كسرا للحصار الجائر! ولم يفت الكاتبة تدوين شيئ من تلك الكرنفالات عبر احدى شخصيات الرواية، تبني البحيري روايتها على «حدوتة» صغيرة جدا: عراقي يتعرف الى مصرية فيقرر الزواج منها ومن ثم يقررا معا العيش في وطن الزوج، وهي حدوتة ليست مستحيلة ابدا، فالحب كفيل باذابة الحدود وما بينها، على ان بطلة الرواية (اشجان مصري) تكتشف عكس ذلك بنفسها، فالحب لا يكفي احيانا، او بالاحرى لن يصمد كثيرا امام الضربات المتتالية التي يوجهها له الواقع، وأي واقع؟ لقد تخيلت اشجان مصري بزواجها من العراقي (عائد حسون) انها ستعيش جنة الحب بالرغم من ممانعات والدها، المنطقية دائما، ولكنها اصطدمت بعنف الواقع بشراسة وقسوة. الواقع الذي يتحول فيه الجميع الى متهمين بلا سبب او ذنب اقترفوه، والواقع الذي يدعو الجميع لان يشك بالجميع. لقد كانت في مصر تنعم بقسط وافر من الحرية، حرية اهلتها لان تخرج من البيت لوحدها الى اي مكان تشاء على سبيل المثال، ولكن الامر مختلف تماما في بغداد، فالعيون تراقب الغريبة اينما حلت، والزوج ما انفك يحذرها من مجتمع الخارج (خارج المنزل) فالآخرون في بغداد (هم الجحيم) بامتياز تام.. واذا ما حاولت البطلة ان تعايش ولو اصحاب الزوج فانها سوف تصطدم من جديد بتحذيراته من هؤلاء، فهم على الاغلب: مخابرات!، وهو محق في ذلك كثيرا، بسبب من استحكام عقدة الخوف في نفوس غالبية مواطني هذا البلد، الخوف الذي يدفعهم الى تعليق صور السيد الرئيس في اكثر المناطق حساسية، فالبطلة تؤكد انها شاهدت، وكذلك شاهد غيرها صور الرئيس حتى في الحمامات وغرف النوم، ويستبد بها التوتر وهي ترى الرئيس في صوره تلك مبتسما دائما، او طبيبا في المؤسسات الطبية، او قديسا في دور العبادة او عسكريا في مواقع الحرب ودوائره الاخرى.تصف المؤلفة في اثني عشر جزءا من اجزاء الكتاب الثلاثة عشر مشاعر اشجان مصري في زواجها هذا، فيما لا تترك للزوج سوى جزء واحد يتيم لكي يعبر عن هواجسه وافكاره من الموضوع ذاته، الزواج القدري بوجه من وجوهه، ونعتقد ان ذلك هو ابرز ما يمكن مؤاخذة الرواية عليه.. فأشجان مصري تأخذ مساحتها كاملة في التعبير عن ما يجول بخاطرها بصدد زيجتها من العراقي عائد، الا ان الزوج بالمقابل لم يأخذ حصته، او اقل من حصته لشرح وجهة نظره فيما يجري من احداث، الكثير منها غريب جدا، ويبدو انه انحياز ابتدائي لشخصية البطلة، ما يدفع بالتالي لكي ينحاز القارئ مع معاناتها الكبيرة.. واذا كانت التفاصيل الكثيرة، والمتكررة، التي تسردها البطلة هي محل اتفاق لا مناص منه بسبب روح (دولة المنظمة السرية) التي تقذف البطلة في متنها، فان بطل الرواية مطالب ايضا بالدفاع عن وجهات نظره، وان تضمن سرد البطلة شيئا ضمنيا من ذلك، اذا ما تذكرنا تناقضه الواضح، والذي تشير اليه الزوجة مرارا بينه في الليل وبينه في النهار، حيث الليل والخمر يكشف تناقضه وتوقه للحرية التي منع عنها: «اي الرجال زوجي؟ اهذا الذي اراه في النهار منسجما مع صور السيد الرئيس والبيانات العسكرية وافراح النصر في التلفزيون، ام انه الذي اراه في الليل غاضبا وثائرا وشاربا ومخمورا وناسيا او متناسيا انني زوجته؟ ص138.تفضح البطلة في سردها المليء بالالم والحنين الكثير من الازمات التي يعاني منها المجتمع العراقي اليوم، وهي تتحدث بالتحديد عن سنوات الحرب مع ايران، حيث تشير بشكل متكرر الى ظاهرة (لافتات الشهداء) التي تتكاثر على حيطان الشوارع والازقة في مدينة بغداد، وتشير ايضا الى ظاهرة الشعراء من مادحي الرئيس من اجل التكسب، وازمة عدم الثقة التي تشمل جميع المواطنين بلا استثناء، حيث تتكرر جملة «ان فلان مخابرات»، او يعمل مع الحكومة او مع الحزب حتى انها تسأل بعفوية طفلة: «بعدها رحت اتساءل في نفسي عن سر الحزب الذي يضم افراد شعب بكامله». ص 124.كما تشير الى صور الرئيس التي تنتشر في كل مكانب لا استثناء، وتلقي البطلة الضوء على نظرة ابناء هذا البلد للمواطنة المصرية المستوحاة غالبا من المسلسلات التلفزيونية، وهي نظرة فيها الكثير من الإجحاف فيما توغل في دراسة ظاهرة الجالية المصرية في عراق الثمانينات، تلك الجالية الضخمة جدا والتي عمل اغلب افرادها في مهن خدمية.«تذكرت انني ظللت انتظر انس الخال طويلا، ثم تكشف لي انها جاءت الى هنا في تلك المرة الوحيدة، زارت الجبهة باعتبارها صحافية وكاتبة، فاذا بعدد كبير من الجنود المصريين يلتفون حولها ويتوسلون ان تبلغ حكايتهم للسلطات. حكوا لها انهم قد جيء بهم من شوارع المدينة وقد صودرت جوازات سفرهم وشحنوا مثل البهائم الى الجبهة، منهم من مات ومن أسر وكثير منهم ما زالوا ينتظرون اقدارهم». ص 136.وتسأل اشجان مصري ثلاثة اسئلة منطقية جدا، ولكنها لا تعثر ابدا على جواب لتلك الاسئلة، تقول في الصفحة 126: «كنت اتمنى ان يكون لي دور آخر غير تبديد السأم على نفسه القلقة. كل وعوده ذهبت قبض الريح، والاسئلة مثل رؤوس حادة وأسنة سكاكين في رأسي. لماذا يجعل بيني وبين الشارع والناس سدا منيعا؟ لماذا تضطرب علاقاته بالآخرين، خاصة الذين يرتدون الزي العسكري؟ لماذا جعلني غير قادرة على مد جسور رحبة بيني وبين الجيران، بيني وبين اهله، بيني وبين اصدقائه وصديقاته؟».واللافت في بطل الرواية انه ينتمي لنخبة البلد المثقفة، فقد كان يعمل رئيسا لتحرير احدى المجلات، وصحافيا في عدد من الصحف، بل انه كما يبدو للعارفين في شؤون الصحافة في العراق، كان واحدا من صحافيي السلطة بدليل تمثيله لها في الكثير من المحافل العربية والدولية، وهو تعرف الى اشجان مصري في القاهرة ابان مشاركته في محفل ثقافي فيها ممثلا عن العراق، ومعروف ان من كان يسافر خارج العراق في سنوات الثمانينات هم فقط رجال السلطة، سواء اكانوا سياسيين او صحافيين. اللافت في هذه المعلومة هو السر الذي اقلق بطلة الرواية عندما شاهدت زوجها يخبئ عنها شيئا ما في المطبخ «كانت ثيابا كاكية اللون تماما كثياب الضابط والحرس والعسكر والسيد الرئيس، تحوي بين طياتها مسدسا ثقيلا وبقعا من الدم»، ص 140، واذا ما تذكرنا اشارة البطلة السابقة بكون زوجها كان يعمل ضمن تنظيمات حزبية قضي عليها من قبل الحزب الحاكم اليوم، ولولا تدخل احد اصدقائه من عناصر الحزب الحالي لكان عائد حسون قد لقي حتفه اعداما.. هذه الملاحظة وملاحظة الزي العسكري والمسدس ثم تقلبات الزوج بين الليل والنهار تضع القارئ في حيرة حقيقية: هل عائد حسون نموذج للمثقف الانتهازي الذي يبدل جلده مع تبدل الظروف؟ او انه يلعب لعبة كبيرة مع السلطة التي جردته من وظيفته في رئاسة تحرير المجلة وسحبت عضويته من الحزب وحاصرته بسبب زواجه من مصرية، لعبة شعارها الرئيس هو المقاومة؟ الرواية ممثلة بروايتها الاولى، اشجان مصري، لا تعطينا اجابة شافية عن مثل هذا السؤال الخطير والحيوي.. وامعانا في تكثيف حيرة القارئ بهذا الخصوص تحديدا تنشئ المؤلفة نهاية غير متوقعة في بنائها السردي متوقعة في جانبها المضموني: يقرر الزوج العراقي استخراج وثيقة شهادة الجنسية والجنسية لزوجته المصرية وفي الدائرة المختصة تعيش الزوجة اجواء تحقيق بوليسي حول زوجها الذي عزل في غرفة ثانية، وفي التحقيق تعترف بقصة المسدس والزي العسكري الملطخ بالدم، يجوم وجه الضابط المحقق وفي لحظات حلمية تجد شجان نفسها في: «متاهة الضيق والصدى والدوار ارتطمت بجدار اصم، ورحت افتش عن فتحة في الجدار وانادي «عائد» ولا احد يرد، وانادي ولا احد، واصرخ ولا احد».. ص 166 نهاية الرواية.. فمن هو عائد حسون؟ ومن هي اشجان مصري؟تحيل التسميات الى المضامين، ولعل في تسمية بطلة الرواية دلالة بالغة الوضوح على ان في تسمية الزوج العراقي عائد دلالات عديدة اهمها في تقديرنا رغبة الحبيبة، الزوجة، بعودة حبيبها من سجنه الكثيف اليها كما عرفته في القاهرة متحررا من الكابوس الجاثم على انفاسه والذي لمسته بعمق اثناء حياتها الزوجية القصيرة (امتدت لاقل من شهرين) في مدينة الزوج، السجينة هي الاخرى: بغداد.ان رواية نعمات البحيري «اشجار قليلة عند المنحنى» وان لم تشر صراحة الى هوية موطن زوج البطلة، الا ان كل الدلائل تشير الى انه العراق وليس اي وطن آخر، تمثل قراءة عربية جريئة لوصف حال التناقض المريع الذي يعيشه العراق منذ عقود.

* الكتاب: اشجار قليلة عند المنحنى

* المؤلف: نعمات البحيري

* الناشر: روايات الهلال، العدد 624 عام 2000

* كاتب عراقي