غسق الأيام وإشكاليات الانتماء

حياة وأدب شرارة في ندوة لندنية

TT

نظم اتحاد الكتاب والصحافيين العراقيين يوم 12/15 ندوة عن حياة وأدب الكاتبة العراقية حياة شرارة، اللبنانية الاصل، تناولت، بشكل خاص، روايتها «اذا الأيام اغسقت» التي صدرت بعد انتحارها المفجع في بغداد هي وابنتيها، وقد تحدثت في الندوة اخت الراحلة بلقيس شرارة، ود. فاضل الجلبي ومعد فياض.

هذه مقتطفات وافية من محاضرة بلقيس شرارة:

نشأت حياة في عائلة متماسكة، متكاتفة ومنسجمة، فقد كان والدي هو الاب والصديق، ولم يفرض يوما من الايام سلطته الابوية على اولاده وبناته.

ترعرعت في جو ادبي سياسي، تشبعت به منذ طفولتها، تشبعت بالاحاديث الأدبية والسياسية، اللذين كانا كتوأمين في حياتها، منذ نشأتها الاولى. غرست فيها اللقاءات الادبية حبها وتتبعها الأدب بأشكاله، من الشعر والقصة والرواية والنقد. فاصبحت نهمة في القراءة واستيعاب ما كانت تقرأه. كما جعلتها اللقاءات السياسية، تدرك وتؤمن، ان هناك ظلماً واجحافاً في المجتمع. وزاد في ادراكها السياسي، منذ نعومة اظافرها ما تعرض له والدي، من اعتقال وسجن، وانعكاس ذلك على العائلة.

أدت بها هذه الاحداث، إلى الانتماء إلى الحزب الشيوعي في السادسة عشرة من عمرها، وتبعه الالتزام السياسي الصارم في سن مبكرة، مما اثر في موقفها نحو الحياة والمجتمع.

ويظهر الالتزام في المجتمع باشكال متعددة، وكثيرا ما يكون متضاربا ضمن المجتمع الواحد، لان نفسية الانسان مركبة، تجمع احيانا تناقضا، بين الالتزام والتفرد وكرامة الذات. فهنالك الالتزام الديني والطائفي والقبلي والسياسي، والالتزام السياسي على نوعين:

1 ـ الالتزام السياسي الصارم، الذي يتمثل بحزب البعث او الحزب الشيوعي او الاحزاب الاصولية الاخرى.

2 ـ الالتزام السياسي المخفف، الذي يتمثل بالاحزاب الديمقراطية، كحزب الوطني الديمقراطي في العراق.

لا يمكن للفرد في الالتزام السياسي الصارم، ان يخرج عن قرارات الحزب ويتفرد عن الآخرين، وانما يجب ان يكون من ضمن المنظومة الحزبية ويتنازل بذلك عن ارادته.

اما الالتزام السياسي المخفف، فيسمح للفرد بالتفرد، ضمن التماسك الاجتماعي، ولذا فان كلمة (Compromise) اي التسوية، في مثل تلك الاحزاب مهمة جدا. فكل قضية هي تسوية للتوصل إلى حلول لصالح الطرفين، كما نشاهد ذلك في حزب المحافظين او حزب العمال في انجلترا، لانها مجتمعات مدنية، تعتمد على تفرد الفرد وتضامنه في المجتمع.

سئل راجيف غاندي عندما زار الولايات المتحدة في منتصف الثمانينات، عن علاقته بالاتحاد السوفياتي، كان الاتحاد السوفياتي رمزاً للشر في عهد ريغن، عندما اطلق عليه اسم (The Evil State)، اجاب راجيف غاندي: لا يوجد عندنا لونان فقط، الابيض والاحمر، وانما عندنا لون ثالث، وهو اللون الوردي. ويعني باللون الوردي، الحل الوسط.

يفتقد الالتزام السياسي الصارم، الحل الوسط، فحياة الفرد خاضعة للقرارات الحزبية، ولا يمكنه الحياد عنها.

هذا ما تعرضت له حياة عندما كانت عضوة في الحزب الشيوعي، فكانت تطبق كل ما يمليه عليها الحزب من اوامر. ولم تشعر، في يوم من الايام، بالتناقض بين ارادتها وارادة الحزب إلا بعد ان نضجت فكريا، اي بعد مرور اكثر من عقد تقريبا، وبعد ان اعتزلت العمل السياسي.

اثر ذلك الالتزام في نظرتها وموقفها من الحياة والمجتمع، وفرضت على نفسها، مستوى معيناً ومقياساً قاسياً في تعاملها مع الناس. ولم تستطع التخلص منه نهائيا، على الرغم من انها ادركت ان هنالك ظلالا اخرى والوانا مختلفة في الحياة، وان الحياة اعقد من ان تختزل في لونين.

لم تنتقد حياة رفاقها بالنضال، على الرغم من اختلافها معهم. بعد ان تركت العمل السياسي، وذلك للاخلاق الرفيعة التي تحلت بها. فالتزمت الصمت، بسبب موقف اخلاقي نبيل. وتجنبت الضغط الذي تعرضت له من قبل اعضاء الحزب في موسكو، باسلوبها الهادئ، وابتعدت عن إحداث المجابهة بذلك.

فمثلا، كان نقيض ذلك الموقف، موقف الشاعر بدر شاكر السياب، عندما اختلف مع الحزب الشيوعي، ظهرت ردود فعله العنيفة ومهاجمته البعيدة عن الاتزان، في المقالات التي كتبها في الجرائد آنذاك، منددا برفاقه الحزبيين، واصدقائه التقدميين.

عادت حياة من موسكو إلى بغداد، وانخرطت بسلك التعليم الجامعي، فتعرضت إلى ضغوط اخرى، من قبل حزب البعث، وذلك بالضغط على الاساتذة في الانتماء إلى الحزب، او ترك الجامعة.

نتيجة لمثل هذا الضغط السياسي، انتقل البعض من التزام إلى التزام آخر، عندما تعارض التزامهم الاول مع مصلحتهم. لكن حياة لم تسمح لها كرامتها، بالانتقال من التزام إلى آخر. فقد لازمتها الكرامة كظلها، حتى في الظروف القاسية التي عانت منها.

رفضت حياة الانتماء إلى حزب البعث، مما ادى إلى تعرضها إلى صعوبات، وخلق مشاكل كثيرة لها، اثناء وجودها في الجامعة.

ومن ابسط ما تعرضت له، فتح الرسائل، التي كانت تبعث لها من قبل عائلتها، حيث كانت تفتح وتقرأ من قبل المسؤول عن أمن الجامعة، قبل ان تقرأها حياة، على الرغم من انها بدرجة استاذ. اذ ليس هنالك قدسية واحترام لأعز ما يخص الفرد، وهو فتح الرسائل الخاصة به، والتدخل بخصوصيته، بهذا الشكل المفضوح.

يفترض الفكر الملتزم تنظيما اجتماعيا موحداً وفكراً موحداً، لذا يسعى لاخضاع الآخرين لارادته. فتفتيش الرسائل هو جزء من الاجراءات لهذا الاخضاع، ويعتبر خطراً سلوكا خارجا عن تفكير المنظومة الحزبية، بل يعتبر جسماً غريباً، تجب مراقبته واقتلاعه والقضاء عليه.

واضح ذلك في رواية «اذا الايام اغسقت» في سلطة العميد التعسفية وسطوته، حيث ينتقل ذلك التسلط إلى رؤساء الاقسام، ثم الاساتذة والطلاب، فهي سلطة تراتيبية هرمية، او تدرج هرمي من الاوامر التي لا يجوز تخطيها، والخروج عنها في الفكر الملتزم. فاسكات المثقف هو الهدف الرئيسي في الفكر الموحد.

وتعبر عن ذلك حياة في رواية «اذا الايام..» بصورة واضحة عندما تصف ذلك الجو:

«نحن نقول الآن نعم عندما يرفض ذهننا فكرة او عملا مقترحا علينا، ونبتسم عندما تتجهم نفوسنا وترغب في العبوس، ويلوح علينا الهدوء عندما يتملكنا الغضب».

تمسكت حياة بكرامتها، كتمسك الشعرة باهداب العين، وعندما قدمت طلبا إلى السلطات، للسماح لها ولابنتيها بالسفر، رفضت، عندما طلب منها اعادة كتابة العريضة، لانها خالية من التوسل والابتهال، فلم تعتبر السفر مكرمة او هبة من السلطة، بل حق، ولم يكن الابتهال والتوسل من صفاتها واخلاقها التي نشأت عليها، بل هما منافيان لكرامتها والاعتداد بنفسها.

شعرت بعتمة الفراغ ولوعة الفقدان، عندما علمت بموتها المفاجئ، وإقدامها على الانتحار، والتخلص من الحياة، خارجة بذلك عن سياق ونمط الحياة المألوفة، وكما كتب لي صديق: «لقد اختارت حياة اصعب المسالك، ألا وهو اثبات الذات وتحقيق الغاية من الوجود»، ووجدت نفسي اردد بيتا من قصيدة للمتنبي، كان والدي يترنم به منذ طفولتي، ربما يصور تلخيصا جيدا لحياتها:

وإذا لم يكن في الموت بد فمن العجز ان تموت جبانا انهت حياة كتابة رواية «اذا الايام اغسقت» قبل موتها باربعة اشهر، والرواية ليست سيرة ذاتية بحتة، كما كتب عنها بعض النقاد، فقد خلقت حياة عدداً من الابطال. هؤلاء الابطال لا يمثلون شخصية معينة بالذات، انما كل شخصية في الرواية، هي تركيب ومزيج لعدة شخصيات، صورتها الكاتبة من خلال ملاحظتها الدقيقة للواقع الذي عاشته، واضافت اليها من تجربتها الشخصية وخيالها، فجعلت من أولئك الابطال صورة حية تنبض بالحياة، وتعبر عن واقع معيش في العراق.

لم تتعرض حياة في يوم من الايام إلى الحاجة المالية، بل استطاعت من خلال ملاحظاتها الدقيقة، ان تصور الاذلال والاهانات اليومية التي تعرض لها اساتذة وموظفو الجامعة، باصغائها ومشاركتها احاديثهم التي كانت تدور عن كيفية الحصول على المواد الغذائية، والقلق الذي كان يساورهم عندما يعجزون عن سد رمق عوائلهم، واضطرارهم لبيع سياراتهم، او العمل كسائقي تاكسي في ساعات فراغهم.

شعرت حياة بحصار السلطة لها عندما اغلقت ابواب النشر امامها، وهو أقسى انواع الحصار على الكاتب والمؤلف. ولذا عندما سئل الاستاذ «أكرم» احد ابطال الرواية، إن كان يواصل الكتابة؟ أجاب:

«ستدهش اذا قلت لك انها اصبحت تشبه مياه المستنقع الراكد! ماذا تعني الكتابة اذا اصبحت بلا غاية! اعني اذا لم تستطع ان تنشر ما تكتبه وتوصله إلى الناس! ما قيمتها اذا ظلت محفوظة في ادراج مكتبك أو على الرف؟.. ان كل ما يمكن ان آمله هو ان تنشر نتاجاتي بعد موتي، إذا حالفها الحظ!» ان رواية «اذا الايام اغسقت» تسجيل للاجواء المعتمة، الخانقة، نفسيا وفكريا وسياسيا واقتصاديا، اجواء غير طبيعية مر بها العراق، وما زال يعاني منها في المرحلة الراهنة، خاصة الفئة المثقفة من المبدعين والمفكرين.