بازوليني.. مقاومة بشاعة العالم بالفن

بقلم: إبراهيم الخطيب

TT

هل يمكن اليوم قراءة آثار بيير باولو بازوليني الكتابية والفيلمية بمعزل عن التفكير في مقتله؟ إنه من المؤكد أن الإجابة ستكون بالنفي، وأن علينا أن نصبر وننتظر مزيدا من الوقت حتى تتحقق رغبتنا المستحيلة في قراءة موضوعية مجردة. ذلك أن كتابة بازوليني، رغم مرور ربع قرن على موته، ما تزال ملتحمة الحاما بليغا بتلك النهاية الفظيعة والمنطقية، من نحو ما، التي لا تشكل بحال خاتمة لعمله الجمالي وإنما جزء لا يتجزأ منه.

في ما بين نوفمبر (تشرين الثاني) 1972 ويناير (كانون الثاني) 1975، نشر بازوليني سلسلة مقالات نقدية على صفحات مجلة «IL TEMPO» ـ الوقت». لقد كانت تلك الوقفات الأسبوعية، بالنسبة له، فرصة لصوغ يوميات ثقافية يوازي فيها بين وساوسه الخاصة ووساوس كتاب كبار، إيطاليين وأجانب. لم يكن الأمر يقتصر على قراءة شكلية تنحو منحى التحليل الجمالي، بل كان الكاتب يعتبرها بالأحرى قراءة إشكالية، يصف عبرها أهواءه وانشغالاته في ما يتحدث عن كتاب آخرين. كان بازوليني يسمي نفسه «الوقت»، وهم مثقفون متنورون، يتساءلون باستغراب عما إذا كان الحديث عن عقد الكتاب واستيهاماتهم وتحليلها بجرأة يندرج ضمن الرؤية النضالية لكاتب شيوعي إلى الواقع الإيطالي المهدد، في ذلك الوقت، بالإرهاب السياسي وحرب الاقتصاد المنظمة؟

إن الرد على هذا التساؤل لم يتأخر في الوصول: ففي صبيحة 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1975 (أي بعد مرور أقل من عشرة أشهر على صدور آخر مقالة لبازوليني في مجلة «الوقت» وكانت عن الكاتب الصقلي ليوناردو شاشيا) عثرت الشرطة الإيطالية على جثة الكاتب والسينمائي الإيطالي منطرحة بالقرب من أحد الشواطئ (أوستيا). كان عمر بازوليني إذ ذاك ثلاثة وخمسين عاما، إلا أنه، ورغم صغر سنه، كان قد تمكن من ترك بصمات عميقة في الأدب والسينما الإيطاليين: إذ كتب الشعر والرواية والنقد الأدبي والآيديولوجي، كما ساهم في إصدار مجلة فكرية، وأخرج أفلاما هامة تعكس غرابتها وجرأتها طبيعة مزاجه المغامر، ونوعية الصراع الثقافي والوجودي الذي خاضه طيلة حياته بوضوح واستماتة.

جرت عملية القتل بين منتصف ليلة الفاتح من نوفمبر والساعة الواحدة والنصف من صباح اليوم التالي، غير أن جثة بازوليني لم يعثر عليها إلا حوالي السادسة صباحا، أي بعد مرور أكثر من أربع ساعات على تنفيذ الاغتيال. كان الكاتب والسينمائي الإيطالي مكبا على وجهه، بينما تبلل شعر مقدم رأسه بالدم المنساب من جروح عميقة في جبهته. وقد لاحظ الطبيب الشرعي في تقريره أن فك القتيل كان مكسورا بشراسة، مثلما كانت يده وبعض عضلات جنبيه مهشمة، أما القميص الذي كان يرتديه بازوليني تحت سترته فكانت به آثار مكرورة لعجلات سيارة يبدو أنها دهسته عمدا أكثر من مرة.

نسبت عملية الاغتيال لمراهق جانح يدعى «بينو بيلوزي» كان إذ ذاك في السابعة عشرة من عمره، وكان بازوليني، حسب اعتراف المراهق لدى قاضي التحقيق، قد أغراه بركوب سيارته الجاكوار واصطحابه إلى شاطئ مهجور عند مصب نهر التيبر، على بعد 24 كيلومترا من روما. وحينما رفض الفتى اقتراح بازوليني، حاول هذا الأخير اغتصابه بالقوة، فاستشاط بينو غضبا وشرع في ضرب الكاتب والسينمائي الإيطالي على نحو همجي طيلة نصف ساعة، تارة بقدميه وتارة أخرى بواسطة هراوة عثر عليها هناك، ثم لاذ بالفرار في سيارة بازوليني التي تركها في منعطف طريق بالقرب من روما قبل أن تعثر عليها الشرطة. وقد حوكم بينو بيلوزي بتهمة الاغتيال، وحكم عليه، لكونه قاصرا، بحوالي عشر سنوات قضاها كاملة في أحد السجون. غير أن المراهق القديم، الذي يبلغ حاليا الأربعين من عمره، مازال يرفض بشدة التهمة التي نسبت إليه، ويعتبر أنه لم يتعمد تماما قتل الكاتب والسينمائي الإيطالي وإنما كان يقوم فقط بعملية دفاع مشروع عن النفس. واليوم، عندما يسأله أحد الصحافيين: «هل أنت قاتل بازوليني؟» فإن بينو يجيب بسخرية مراهق محتال: «أجل قتلته أنا والبابا وبرتيني» رئيس الجمهورية الإيطالية حينئذ.

تشير هذه الإجابة تلميحا إلى وضعية بازوليني في مجتمع إيطاليا السبعينات، حيث كان منتقدا بعنف من طرف الدولة والكنيسة والرأي العام في نفس الوقت. ويدل السجل العدلي للكاتب والسينمائي الإيطالي، خلال عقد يمتد من أوائل الستينات إلى سنة 1972، أنه اتهم بمساعدة لص على الفرار، كما توبع بتهمة الفحش والإساءة إلى الأخلاق العامة، وبشتم العقيدة الكاثوليكية ورجالها، وبتحريض الجيش على العصيان، لذلك اعتبر «أصدقاء بازوليني» (وهي جمعية تأسست بعد موته) أن اغتياله لم يكن إجراميا حسب تأويل المحكمة، وإنما كان سياسيا، ووجهوا أصابع الاتهام إلى العصابات الفاشستية التي لم تكن تكف، في وسائلها الإعلامية، عن مؤاخذة الكاتب والسينمائي على شيوعيته ونزوعاته الصريحة وعدائه العميق للبرجوازية ونفاقها. لذا طالبوا بإعادة فتح ملف الاغتيال، ولاحظوا أن التأمل في جثة بازوليني وفي تقرير الطبيب الشرعي يدفعان إلى الاعتقاد بأن عملية الاغتيال نفذت من طرف أشخاص وليس من طرف بيلوزي الذي يذهبون إلى أنه كان مجرد واجهة «قاصر» تخفي الدور الحقيقي لعصابة مدربة على العنف السياسي الممنهج.

إن إعادة قراءة أدب بازوليني ومشاهدة أفلامه مجددا تعطيان الانطباع بأنه لم يكن يعتبر هذين الشكلين الجماليين سوى مرآتين تعكسان الموضوعات المركزية في بنية تفكيره الذاتي والاجتماعي: الجنس، وكراهية البرجوازية، والعودة إلى قيم العالم الفلاحي، والبحث عن لغة أصيلة. غير أن هذه الموضوعات لم تكن في إبداعه مجرد تحققات مجازية متخيلة، وإنما شكلت دائما فرصا عميقة لمحاسبة الذات والجسد وهويتهما على نحو علني وصريح. بيد أن اهتمام بازوليني بلا وعي الكائن إنما هو أحد وجهي عملة نضاله الاجتماعي كمبدع ملتزم: فوراء ذلك، هناك تراثه الكتابي الذي شرع بعض الناشرين والباحثين حاليا في نفض الغبار عنه، ليس لأسباب ظرفية وإنما لعمق التحليلات وحصافة الرؤى التي ينطوي عليها ذلك التراث. ويدل كتابه «بترول» الصادر مؤخرا أن بازوليني، ومنذ أوائل السبعينات، كان قد توقع التطور الأنثربولوجي والخلقي لمواطنيه الذين سيسعون، عبر مؤامراتهم الكثيرة وأحابيل أحزابهم ورجال صناعتهم الخاضعين لدهاقنة الجريمة المنظمة، إلى استرضاء آلهة المال، حاملات قيم هذا العصر المنهار.

لقد عاش بازوليني حياته القصيرة بكثافة وتوتر على جميع الأصعدة، وكانت الممارسة الجمالية، بالنسبة له، الجواب الحقيقي على بشاعة العالم المتواري وراء أقنعته. لم يكن الأمر في حالته يتعلق بتشاؤم فلسفي مؤسس للوعي كما قد يبدو، وإنما برغبة عميقة في العيش تعتبر التحدي الذي يشارف الموت الوسيلة الوحيدة لإدراك بهجة الحياة.

ورغم مرور خمس وعشرين سنة، فلا يزال مصرع بازوليني يثير جدلا حادا. وقد أعاد الفيلم الوثائقي «بازوليني، جزيرة إيطالية» الذي أخرجه ماركو جيوردانا، وعرض في مهرجان البندقية السينمائي قبل خمس سنوات، فتح ملف مقتل الكاتب من جديد بعد أن قدم محامي عائلة بازوليني طلبا بذلك لدى المحكمة اعتمادا على الشهادات التي أوردها الفيلم المذكور والتي توحي بأن اغتيال بازوليني لم يكن عملا فرديا من تدبير بينو بيلوزي فقط.

بيد أنه من المؤكد أن هذا المنحى في استرجاع ذكرى مثقف وكاتب طبع بحضوره أكثر من ربع قرن من تاريخ الثقافة الإيطالية الحاضرة لن يساعد إلا على إلقاء مزيد من الظلال على آثاره المكتوبة والمرئية التي لا تزال بحاجة ماسة إلى البحث والتمحيص لاكتشاف منحاها التعبيري وعمقها الفكري والنظري ونزوعها الاستثنائي إلى نهج السبل الملتبسة بحثا عن حلم الانفراد الخطر: هناك حيث يترصد الموت عزلة الغنم الضالة.