قصة قصيرة ــ الظل يحترق

TT

هدى النعيمي الظل الذي كان يجاوره على المقعد، كان أسود داكناً وخشناً وله أنياب حادة ونظرات شرسة، لم يتعود من ظله أن يكون بهذا الجفاف والقسوة، لكنه اليوم يشعل مقعده سخونة وعنفاً، لم يتحمل امتداده الأسود القاتم، هب واقفاً ليتجنب التصاقه به، أمتد الظل على الأرض حتى وصل الرصيف الآخر، كانت العربات تدوس الظل بلا رحمة وكان سعيداً بتعذيب ظله، لكن عين الظل الغولية ظلت تلصقه بأهدابها دون أن تهرب من العجلات الثقيلة والقذرة، أراد لو انه يدحرج على الظل حجراً ثقيلاً يثبته في الأرض لينهي ذاك الألم، كان الحجر ثقيلاً جداً والظل كخرير الماء انساب من ثنايا الصخر، وظل ينظر إليه ويبرز أنيابه، تلفت إلى المشاة بجواره، كان البعض يحمل أكياساً وهموماً والبعض لا يحمل إلا فكرة أو جنوناً وظلالهم تجري خلفهم في استكانة واستسلام وارتعب حين فكر أن ظله قد ينقض عليه ليفترسه لو رآه وحيداً.

قرب محطة الأتوبيس كانت الناس تجري لتلحق قصصها الحياتية، توقف في مهب البشر وجعل الظل يمتد حتى رأس المحطة، كانت الأقدام المسرعة تدوس الظل ولا تبالي، كانت ظلالهم تلتصق بظله وتختلط معه لكنها تظل جافة منه وسعيدة بتخلصها منه، هو فقط لم يستطع أن يتخلص من الظل القاتم، وظل يسحبه وراءه معتلاً وحزيناً وكان الظل ينمو وتطول أظافره كلما أبتعد عن المدينة وكلما فارقته الأقدام الدواسة، فجأة برزت للظل عين نارية وشرر لم تره الشمس، فجرى خلف رعبه والظل متمسك بأقدامه يحاول أن يشده للأرض، فلا هو يهرب من ظله ولا الظل يفلح في إيقافه عن الركض، كانت قفزاته هائلة ولم يدر أي اتجاه يسلك لما اصطدم فجأة بجدار عريض فأستند إليه يلهث والتفت ليرى ظله فلم يجده، وكان ظل الجدار قد أبتلعه، فهدأ روعه واستكان وجلس يلتقط أنفاسه المتقطعة والمتسارعة ولم يدرأ أن عضلاته ارتخت وجفناه ثقلا ولم يشعر إلا بسيخ شمسي يدخل من أذنه اليمنى ويخرج من الأخرى ونظر فرأى رأس الظل وقد انحنى ليبدأ في أكل قدمه فانتفض واعتراه ما اعترى أبا ليلى حين وجد ابن أخيه في الديار، فحسب ظله الشرير ونأى حيث الشجرة العملاقة ليربطه بها، لكنها رفضت لأنها لا تأمن لظلال الآخرين. عجز عن التفكير وعن الركض والقفز وعن الهروب فرأى عجوزاً تماشي كلبها المتوحش، والكلب توقف ورفع رجله الخلفية ليبول، فأقترب حتى صار رأس ظله تحت رجل الكلب، فأبتل الظل وانتشى هو، حاسباً أن الشرارات أنطفأت، لكنها لم تنطفئ.

عاد الظل ليتبعه والرائحة الكريهة وبعض الأشواك المسروقة من جذع الشجرة، كانت أضلاعه تغلي كقطعة لحم صغيرة في قدر من الماء، حين تكوم الظل تحت رجله وكأنه سقط من جسده، وحين حاول أن يدفن الظل وجد أنه مضطر لأن يدفن نفسه معه فكف عن المحاولة، وعاود الركض حتى أطفأت الشمس مصابيحها وتساوت رؤوس البشر والأشجار والصخور الغليظة، توقف حين اختفى امتداده الأرض، كان يلهث، وجد انه يشتهي أن ينام على صدرها، وجد أنه اقترب جداً من جدرانها، تركته حين جاء تاجر العنب ليخطبها.. ثم عادت إليه ليلاً حين اكتشفت أن تاجر العنب لا يُسكر، ما قال «لا» لكنه أبدى مزيداً من «المراحب»، اشتهى أن يشكو إليها قصة الظل الشرير المكسو بالبول والأشواك، جدرانها ليست عالية، توجه نحو الدرجات المكسورة التي أعتاد ارتياد القداسة من خلالها، وجد كومة من القمامة تسد الدرجات، ودّ لو استطاع أن يأمر الظل القذر برفع القمامة لكن الظل كان قد تلاشى، ثم أنه ليس ممن يسمعون الكلام فيتبعون أحسنه، ليته يختفي من كل الصباحات، متأففاً صار يرفع الكومات القذرة ويلقي بها قارعة الطريق، ظهرت الدرجة الأولى، الدرجة الثانية مغطاة بطحالب ميتة وأسرار كونية بائدة، هاجمه خوف فطري لا يعرف التكوم أو الانسلاخ، توجس من امتداد يده نحو الدرجة الثانية، لكن اشتهاه لها كان غزيراً والرغبة في البكاء تأكله، لم يحتط كثيراً وواصل العمل على رفع الموانع، يداه المرتجفتان استندت إلى جدار عكسي الاتجاه، فإذا بنور أزرق يملأ عينه وسمعه وإذا بظله يتعملق من جديد ويصير الدرجة التي لا تقهر. هاجمته الرائحة الكريهة والأشواك ان غرست بأصابعه، توجع وهو يرتد كالريح اصطدمت بصخرة، عاد أدراجه يلعن القذارة والدرجات وصدرها المشتهى وكل تاجر العنب وأصناف الفاكهة وكل الألوان الخضراء.

كان رأسه منتكساً وشفتاه متدليتين إلى الأسفل وعيناه تكادان تسقطان أرضاً وهو يبحث عن ظل أو بقايا ظل قد يعض ساقه، لم يكن من ظلالٍ حوله، قال لنفسه، لا بد من قتل الظلال في صغرها، قبل أن تكبر وتصير ماجدة، قال إن صغار الظلال قادرة على الطيران فوق الرؤوس وقادرة على العبث بالأدمغة، تمنى لو أنه قام بقتل ظله في صغره.

تذكر الصغير الذي ولدته الزوجة الأولى منذ عشر سنين في القرية البعيدة ولم يره حتى اليوم، لا بد أن للصغير اليوم ظلاً في حجم الأرجوحة، ليت الصغير يخنق ظله من الآن فتتقدم ساعاته المريرة، تمنى لو أنه أملى للصغير ما عليه أن يفعله الآن، لكنه تذكر أنه لا يعرف أرض الصغير ولا يعرف أي سيد قائم بتربيته، أي طريق للمدرسة يسلك الآن، طأطأ الرأس أكثر وحدث لنفسه، ربما صادق الصغير ظله وربما صار رفيقه لأيام السفر وربما عليه أن يتحمل بعض أوزار الآخرين، أو عليه عبء الغفران اللذيذ، أنا لن أكون أسير اشتعالات البراءة السخيفة في كفه الأبيض، يكفيني ما أنا فيه من ظل.

سار حتى توقف عن التفكير في الصغير وأمه المختلطة بالنسيان وحين رأى باب بيته أمامه دون أن يقصده، دلف وأشعل الضوء ليهتدي للسرير، كان الظل الكريه في انتظاره، امتلأ جو الغرفة بالبول والرطوبة والأشواك المنثورة، اطفأ النور بسرعة فتحول المكان إلى ظل كبير أسود وعبوس، صلب وبارد، وحش جائع لا يفرق بين طائر الماء أو صوت القادم، سرمد هائل يحتل الأكوان ويساوي بين السماوات والأرض ويملأ الغابات بحزنه وأسرابه السوداء، صمت لا نهائي يعربد في مسامعه ويطفو عند توق تفاحته الآدمية، قبل أن يختنق، أشعل النور فعاد الظل في شكل البشر المبهم، لم يتحمل عنفوانه الشمسي وانقض على الظل يخنقه بيده، عجنه بين أصابعه كقميص متسخ، كوره كقطعة صلصال ورماه في صندوق خشبي ثم أحكم الغطاء، تنفس، كذلك الصباح البعيد وعاد للباب يؤصده ويحكم ربط سلاسله فلا تتسرب له الظلال، وجد قصاصة ورقة تنفذ من عقب الباب «حسابك المصرفي قد وصل الرقم الذي حددته، الديك المذبوح لم تهمل دماؤه، اطمئن، لن يدري بما فعلت إلا ظلك الذي لا ينطق».

التفت سريعاً نحو الصندوق الخشبي والسر المحبوس بداخله، كان بول الكلب قد بلل القاعدة والبقعة السوداء تتخلل موضع المسامير والشوك يعمل على فك طلاسم القفل، كان يرقب ولهاثه يعلو كالكلب البوال، استدار نحو المطبخ وخطف الموقد الصغير من مكانه، أسرع به إلى الصندوق قبل أن تفرغ محتوياته من التسلل، أفرغ قلب الموقد في قلب الصندوق ثم قذف بعود ثقاب مشتعل على ذاك القلب الأسود، وجلس يرقب دخاناً يتصاعد.

كاتبة قطرية