عروض أجنبية وعربية تتبارى في التجريب على الصمت والفراغ والأساطير

ستون فرقة مسرحية من 44 دولة في الدورة الخامسة عشرة لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي

TT

شغلت أزمة الانسان المعاصر معظم العروض الأجنبية والعربية في الدورة الخامسة عشرة لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي والذي انطلقت فعالياته في الأول من هذا الشهر واستمرت على مدى عشرة أيام.

تفاوتت العروض (37 عرضا أجنبيا و23 عربيا ـ تمثل 44 دولة) في تجسيد هذه الأزمة دراميا، فبعض العروض اكتفى بطرحها في حزمة من التساؤلات والاسقاطات الهشة المرتجلة، والبعض عبر عنها في صورة هذيانات وفانتازيات وأوكروبات سطحية سريعة، والبعض الآخر عبر عنها في تقنيات تجريبية شديدة التركيب والإبهار فنيا، لكن شابها الغموض، والتشتت الدلالي والبصري، وعدم وضوح المعنى أو الرسالة التي ينشدها العرض.

وعلى ذلك قلت العروض التي اقتربت من مفهوم التجريب المسرحي باعتباره تفكيكا أو معالجة جديدة للبنية الكلاسيكية المسرحية، وعوضا عن هذا لجأ الكثيرمن المخرجين الى الحوارية والمضمون الجاهز، مما حد من امكانيات الممثل في اخراج طاقاته الفنية، والتعبير بجسده، أو الاشارة، والايماءة، كلغة بصرية وحركية شفيفة تثري الفضاء المسرحي، وتكسبه تنوعا أعمق سواء على مستوى الرؤية أو التجربة.

وتحت غواية المضمون الجاهز لعب الكثير من عروض المهرجان على طقوس وأساطير معروفة، ونصوص مسرحية وروائية شهيرة، وكانت الغلبة هنا لشكسبير.

وبرغم نجاح بعض العروض في التعامل مع هذا المضمون واتخاذه غلالة أو جسرا لطرح رؤى وأفكار جديدة، إلا ان معظم العروض التي جرت في هذا السياق خلطت الأوراق بلا معنى، بين الماضي والحاضر، واصبحنا ازاء حكائية انشائية سادها التهريج أحيانا ومط زمن العرض بشكل ممض أحيانا أخرى.

واذا كنا لا نصدق أن عرضا في المسرح التجريبي يمكن أن يتجاوز الساعات الثلاث، فهذا قد حدث بالفعل في هذه الدورة، وفي عرضين لعبا على نصي شكسبير الشهيرين «عطيل» و«هاملت»، الأول هولندي أصاب الجمهور بالضجر والإحباط، والثاني سويدي «هاملت إن كان هناك وقت». والمفارقة اللافتة ان الجمهور في العرض السويدي الذي يعد من أجمل عروض المهرجان، لم يشعر بالساعات الثلاث، للمتعة العالية والمتنوعة التي قدمها العرض باقتدار، وجعل الجمهور مشاركا بشكل عفوي في اللعبة المسرحية نفسها.

* حلم نحات

* استهل المهرجان فاعلياته بالعرض المصري «محمود مختار ـ حلم نحات ورياح خماسين» لفرقة الرقص المسرحي الحديث، اخراج وليد عوني، يربط العرض بين فن محمود مختار وبين الحضارة الفرعونية، من خلال مجموعة من الحوارات الاستعراضية مع تماثيله الشهيرة، حيث وظف المخرج أحد أعضاء الفرقة من ذوي البشرة السمراء مرتديا شيئا من الزي الفرعوني ليمثل شيطان الفن ووحي الإلهام الذي يستثير في مختار روح الإبداع بازميله الذي لا يفارق يده وحركته الدائبة، بتصميم حركي راقص يخلط بين الواقعية واستدعاءات الحضارة الفرعونية وحرية الخيال التي تمنح حركته روح الانطلاق وعدم التقيد بالمنطقية قدر ارتباطه بحاجة لحظة الإبداع ذاتها وميلادها وانتهائها وهكذا. كما وظف المخرج مجموعة الراقصين كعلامات دالة متحركة متنوعة، بين جموع الشعب والمتفرجين والتماثيل ذاتها وتمثيل مجموعة من البيئات الشعبية المصرية المختلفة. وكانت المقطوعات الموسيقية المؤلفة أو المستعارة تمثل علامات دالة سمعية متعددة التوظيف.. فأحيانا كنا نسمع مقتطفات من أغنية لأم كلثوم بالتوازي مع ظهور تمثالها الذي نحته لها مختار وهي في سن السادسة عشرة. لكن المشكلة في هذا العرض أنه ظل يلف ويدور في بنائه الفكري حول فكرة واحدة فقط لا تتغير وهي متابعة مختار من تمثال لآخر من نفس المنظور دون تغيير أو تطوير، فأصبحنا كمن يقلب كتالوجا على مستوى أفقي لأعمال مختار من فوق السطح دون الوصول لعمق لحظة الإبداع متعددة الصراعات بما يكفي، أو الوصول لمنطقة أو رؤية جديدة يحددها المخرج من تقديمه هذا العمل. وهو ما نتج عنه بالتبعية دخول العلامات البصرية مثل المراوح والملاءات البيضاء ومصابيح الإضاءة الخافتة في منطقة التكرار التوظيفي هي الأخرى، فافتقدت دهشة الاستقبال البصري بالتدريج رغم اجتهادات المخرج في التحايل على الخروج من قالب الرؤية المحاصر الذي قيد نفسه فيه من البداية للنهاية، والنتيجة النهائية والمنطقية هي معاناة العرض بعض التطويل وأحادية منظور البناء الفني الفكري.

وتحت عنوان «ذاكرة التراب» أدار المخرج السعودي شادي عاشور عرضه بالمسرح الصغير بدار الأوبرا. يعتمد العرض على نص غير مكتوب، ومنذ البداية نواجه بأربعة شخوص مسجونين داخل قبو، يتقاطعهم بين الحين والآخر شخص آخر يمثل السلطة القامعة، وطيلة العرض يدفع هؤلاء الشخوص عن أنفسهم تهما يبدو وكأنهم لم يرتكبوها، وبرغم أن العرض يلعب على علاقة الذاكرة بالحلم والتاريخ والمكان، الا ان الحوار السردي الذي تسيد فضاء العرض غيب أي لغة خاصة يمكن ان تتفجر من رحم هذه العلاقة، فتحولت الذاكرة الى شيء نمطي والى ما يشبه المتاهة حتى في لحظات استعادتها ومحاولة هؤلاء الشخوص الخروج الى الحياة، ولم يستطع النص أن يفجر المفارقات والتعارضات التي تشكل جوهر هذه العلاقة، وعلى مستوى التقنية نجح المخرج الى حد ما في توظيف عناصر الإضاءة بزوايا ونسب معينة لابراز حركة الممثلين، وكسر حياد الخلفية وعناصر الديكور المجللة بالسواد.

واتخذ العرض التونسي «أنا والكونترباص» المأخوذ عن قصة باتريك سوزكيد واخراج محمد منير العراقي من الفراغ والصمت مقوما تجرييبا، فعلى خشبة مسرح العرائس يواجهنا عازف ألة الكونترباص في غرفة ضيقة، ويبالغ في الافتتان بآلته باعتبارها عشقه الأوحد، وأهم آلة يمكن ان تمنحنا الموسيقى، لكن سرعان ما نكتشف ان هذا العشق مجرد غطاء وقشرة لمعاناته يخفي تحتها معاناته العاطفية وفشله في حب السبرانو الجميلة «سارة»، وأمام هذه العقدة يتحول الكونترباص الى امرأة قبيحة وعجوز مترهلة، تقف حجر عثرة بينه وبين هذا الحب، وبرغم اعتماد المخرج على جسد الممثل في تنويع السرد التعبيري وتقاطعه مع الرقص والتمثيل والموسيقى، الا ان العرض فشل في منحنا حضورا خاصا ولم تنجح هذه المقومات في أن تكون لغة بديلة عن الكلمة المنطوقة.

وعلى نفس تيمة «الفراغ الصامت» عزف العرض السوري «آه الأيام الحلوة» على مسرح الهناجر، والمأخوذ عن نص لصموئيل بيكيت، اعداد خالدة سعيد واخراج مها الصالح. لقد اجتهد العرض في تقديم تقنية مسرحية بديلة تتجاوز المفاهيم التقليدية للمسرح وتقنيات الديكور والاضاءة والموسيقى والحركة، لكن العرض مع ذلك بالغ في تجسيد مفهوم العبث، فجعله قرينا للعدم، لا ينطوي على موقف، أو قيمة حقيقية.

ووقع العرض الأردني «كاليجولا» لفرقة جدل المسرحية، والمأخوذ عن مسرحية البير كامي الشهير، اخراج واعداد رائد عودة في فانتازيا سطحية طمست المستويات الثلاثة التاريخية التي سعى المخرج لتقديم شخصياته من خلالها، وابراز النزعة الانسانية في شهوة التسلط، كما بدت باهتة محاولة ربط النص بايقاع اللحظة الراهنة حيث اعتمد العرض على ملابس مواكبة لهذه اللحظة، لم تتواءم مع عناصر الديكور، ولا مع الموسيقى التي بدت هي الأخرى ـ في أحيان كثيرة ـ نشازا على الايقاع النفسي والفني للنص.

* شكسبير تجريبيا

* لاقى العرض السويدي «هاملت.. إذا كان هناك وقت» لفرقة مسرح هالاند تجاوبا شديدا لدى المتفرجين، حتى أن الكثيرين ذهبوا لمشاهدة هذا العرض الراقي مرة ثانية، وهو أمر لا يحدث كثيرا في ظل جدول عروض المهرجان المزدحم أكثر من اللازم والمكدس كله بين أربع ساعات فقط لا غير يتحرك بينها الجميع والنتيجة فقدان الكثير من العروض الهامة. يعتمد المخرج السويدي ستيفان ريدل في بنائه الدرامي لهذا العرض الذي قدم على مسرح الطليعة على أسس فن المهرج بطبيعة ملابسه وأصباغه التي يصعب جمعها في ممثل واحد، فما بالك لو اجتمعت في أربعة ممثلين (ثلاثة رجال وفتاة) يشتركون جميعا في القدرات الهائلة على ممارسة فن الارتجال التي يستلزم مهارة اللماحية والذهن المتوقد وسرعة رد الفعل والثقة الشديدة بالنفس في إقامة حوارات مفتوحة مع الجمهور أثناء عرضهم مسرحية هاملت من خلال المعالجة التي تعتمد على السخرية الشديدة والضرب بكل لحظات التراجيديا عرض الحائط، مع تثبيت فتاة سويدية بملابس عادية تجلس خلف منضدة في الصالة بجانب مقاعد المتفرجين تراجع النص مع المهرجين وتسعفهم إذا نسوا أو ادعوا النسيان، ودخل الأربعة مهرجين في مداخلات شديدة المرح والذكاء مع الجمهور المصري مستخدمين اللغة الإنجليزية وبعضا من العربية الفصحى والعامية المصرية على مدى ما يقترب من ثلاث ساعات كاملة، فاستحقوا التصفيق المدوي في نهاية العرض من الجمهور ومن أعضاء لجنة التحكيم الحاضرين بأكملهم وكانوا علامتنا الوحيدة ـ مع الأسف ـ للتأكيد على أن هذا العرض داخل المسابقة الرسمية للمهرجان.

ومن العروض الطويلة زمنيا في هذا المهرجان كان العرض الهولندي «عطيل» لفرقة مسرح أمستردام (تونيل جروب) عن نص وليم شكسبير بالطبع، لكن شتان بين العرض السويدي الممتع الذي مر في لمح البصر وكنا في الحقيقة لا نتمنى أن ينتهي وبين العرض الهولندي الذي يحمل معالجة جديدة وقدرا كبيرا من الأداء التمثيلي المجتهد. لكن تبقى هذه المعالجة الدرامية الحديثة في النهاية مجرد فكرة تدور أحداثها في الزمن الحاضر ليظهر لنا عطيل وشركاه بالملابس العسكرية الحالية، مع تغيير طرف الحرب لتكون ضد الأتراك في مزيج بين التركيز على خبث ياجو ومفهوم العنف السائد بين الجميع.

ومن العروض التي استلهمت نصوص شكسبير أيضا كان العرض الروماني «ترويض النمرة» لفرقة رينبو (مسرح توني بولاندرا) الذي قدم على مسرح العرائس، لكنه هذه المرة تحول إلى عرض كلامي بحت باللغة الرومانية الخالصة لم نستشعر فيه أي ملمح من ملامح التجديد على المستوى الدرامي والبصري والتمثيلي أيضا. وفي إطار العروض الكلامية البحتة يكسب العرض الروماني الآخر «العرض» لفرقة دايا المسرحية المقارنة، وحيث استطاع بلغته الإنجليزية الغالبة وبعض الرومانية وخفة ظل ممثليه اجتذاب الجمهور الكبير الذي ملأ المسرح الصغير بدار الأوبرا.

هناك بعض العروض انتهجت الأداء الحركي البحث مثل العرض النمساوي «مربع * مربع» لفرقة تانسز هوتيل إخراج برت جستتنر الذي قدم على خشبة المسرح القومي، ويدور هذا العرض في ثلاثة محاور وهي الإنهاك والتنوع والتوافقية منتهجا لغة الرقص للوصول إلى درجة عالية من إثارة المشاعر التي تتولد من بعضها البعض. فقد اعتمد العرض في بداياته على تقاطع حركة الممثلين الذي يقطعون الفراغ المسرحي في خطوط قطرية وما ان يكونوا على وشك الاصطدام ببعضهم البعض حتى يغيروا مسارهم، رغم أنهم يضعون الأغطية الثقيلة فوق رؤوسهم ووجوههم مثل رهبان العصور الوسطى، واستمر هذا المشهد العبثي المتكرر لمدة أكثر من خمس دقائق حتى أصابوا الجمهور ـ عن قصد ـ بدرجة كبيرة من التوتر أعقبها تجسيد خلل الحياة وحالة توهان البشر داخليا وخارجيا حتى أن كلماتهم التي ينطقونها فرديا أو جمعيا لا تعني في الواقع أي شيء على الإطلاق. ومن نفس منظور عبثية رحلة الإنسان من المنظور الحركي الراقص البحت قدم العرض الهولندي «بنين» لفرقة مهرجان مدرسة المسرح الدولي، الذين عرضوا على خشبة مسرح الطليعة ونحن نجلس بجوارهم على الخشبة نشاهد عرض مونودراما تقوم به إحدى الفتيات في مساحة مظلمة كثيفة يظلها غطاء أبيض ثقيل منخفض فوق رأسها تماما منحدر من أعلى فوق رؤوسنا لأسفل في نهاية المنظور التشكيلي المغلق أمامنا. بدأت الممثلة رحلتها من الوضع راقدا متأزما تبحث عن شيء وتطمئن بلسانها على حاسة التذوق في هذا العالم الجديد، ثم تمر بالعديد من مراحل الصراع العصيبة وتحاول السيطرة على جسدها وتكشف حواراته ليتزامن رحلة المكاشفة الداخلية والخارجية معا حتى تصل في النهاية لمرحلة الجري المتواصل المتزايد تدريجيا، وينتهي العرض بالعثور على بقعة ضوئية مستطيلة في الخلفية وكأنها باب من المل أو على الأقل الانتقال لمرحلة أخرى لا أحد يعرف إذا كانت للأفضل أم للأسوأ ليبدأ تأزم الصراع من جديد.