قلب قديم

TT

1

ذباب حديدي عملاق يجوب سماء المدينة بمراوح تهدر مخترقة سحب الدخان. بثور الحرب تغطي الشوارع والعائد الغريب يسير بلا دليل في ثنايا خرائط محته الاعوام من ذاكرتها. هناك الجسور تتقوس بكآبة على نهر حزين يشبه وجه عجوز انتهى امس من زيارتها الاخيرة، هناك البنايات التي أكلت النيران مداخلها وشبابيكها، وهنا، بالقرب من جثة مغطاة بالجرائد، ورقة ملفوفة بخرقة خضراء. كان واقفا بالقرب من جثة أستاذه يفك الخرقة الخضراء عن رسالة تعين الطريق الى قلب قديم.

2

تأتي عربة يجرها حصان هزيل تمرغ طويلا في وحول مزارع بعيدة، سائقها الهرم يمضغ الهواء بفم أدرد ويقول لي:

اقايضك بخاتمك مقابل حمل الميت الى الدفن.

عيناه الصغيرتان الماكرتان تبوحان بأصالة توحلت في الطريق الى هنا. ينظر الى الخاتم، ثم يتابع مروحيات الاباتشي تحوم فوق المتحف. ينهض سمسار أكدي من بقايا الطين في المتحف ليستعيد لسانه، لصوته هدير الطائرات وهو يجادل في اسعار نقل الموتى:

انت يا من يجر العربة في بلاد تختزل المذابح الى دموع. لا خواتم تعطى في هذا الوقت المتأخر من الكارثة. هذا مسكين فأرحم آلامه وادفن في الارض ما يخصب اجنتها.

اسمع سيدة تخرج من الختم الاسطواني لحكيم سومري تخاطب السائق: يا عينان صغيرتان اضاعتا البكاء ويا حصان، يا بنايات، يا طائرات، فلترحمي آهاته. بكيت امام العجوز في زيارتي الاخيرة لها، بكيت امام المتحف، في زاوية من شارع الرشيد وفي الطريق الى الكوخ.

3

افتش ذاكرتي باحثا عن علامات الطريق الى الكوخ والضحى يكشف امامي التباسات ارساها الغياب الطويل. انحدر مع تشعبات جداول جفت محاولا الوصول الى الكوخ. ينتصب النخيل بلا حراك جذوعه مثل جيش خذلته المواسم وتيجانه نال من اخضرارها احتباس المطر. سمع غناء الفواخت يأتي من مكان وانتظر بلا جدوى رؤية اجنحة تخفق في الفضاء. الطريق، حين تغادرها، واضحة، وحين تعود اليها ملتبسة تحبس عنك دلائلها وتكتم رائحة ربما تدلك على المنزل القديم. غناء الفواخت يتصادى في خيالي.

رأيت صبيا بجلباب اخضر. يهبط اليّ من نخلة شاهقة وحين استقر على الارض رفع عذقا ملقى هناك، حمله على ظهره وسار امامي قائلا:

اتبعني.. انهم بانتظارك في الكوخ.

أسير خلفه منصتا الى لهاثي ووقع خطوي على تراب صلب، محدقا في العذق المحمول على ظهره، الاجرد الا من ثمار تيبست قبل نضوجها. اتبع خطاه وارى بغتة فراشة بيضاء تدور حول رأسه، قريبا من وجهه، تطير امامه، تغيب بين النخيل وتظهر بعد ذلك في الطريق لترافق سيره.

4

وجدتهم جالسين يهيمن الصمت عليهم، لم احصهم، ولكن الكوخ يمتلئ بهم ولم اتمكن من التمييز بين الرجال والنساء بعد ان طمرت الشيخوخة الفروق بينهم. يرتدي الجميع ملابس قاتمة. جلست بينهم يغمرني شعور عميق بالعودة الى البيت. ظهر الصبي من دون العذق اليابس وجلس في الركن. بعد قليل بدأوا حوارا لا ينتهي عن الشاي والحطب، سمعت الحوار نفسه مئات المرات في الماضي وادرك خفاياه وشجونه. اشم رائحة اليوم الحقيقي واشهد الحوار يمتد الى موعد انارة الفوانيس. تذمروا في الليل من عزمي على الرحيل الى المدينة لأدفن جثة استاذي. هيمن عليهم السكون مرة اخرى. كانت الفراشة البيضاء قد استقرت على وشاح جدتي بعد ان دارت عليهم جميعا طوال النهار. اقتربت منها فاعطتني الخاتم البسيط الذي يفتقر الى حجر ثمين او معدن قيم. لكنها خلعت عليه بصرها ونامت. لم يأتلق الخاتم ببصر جدتي، ولكني اعرف قيمته. كانت الفراشة ترقد على وشاحها وهي تبدأ بالاستسلام لنوم طويل. تسأل الصبي: هل قدمت لها العلف؟

يقول: نعم، عذق يابس.

5

بغداد نهار السادس عشر من نيسان 2003، تبدو شبيهة بقمامة مستشفى حربي، الجوارح الفولاذية تحوم عليها. بثور الحرب تكسو شوارعها وشواخصها، هياكل عربات منسوفة وفجوات خلفتها المعارك في البنايات تنزف ظلاما قاتما تلتف عليها اسياخ هياكلها، ابواب ونوافذ التهمتها النيران واطرها السخام.

الحرب تثيرها المدافع ولا تموت بسكوتها. هدير المروحيات يدفع الهواء الى هبوب خفيف متقطع يرفع اطراف الجرائد عن الجثة ويئن في مدخل متحف التاريخ القديم.

يرى العربات العتيقة تعبر الجسر وجموع المتقاعدين تدب ببطء الى مراكز تسليم المعاش. يرى خوذا مرقطة وبنادق سود، القباب تكتسي بالزخارف والغبار وكذلك الجرفين كثين بالاعشاب مثل لحية سجين فقد ذاكرته. يرى اياما قليلة تزحف جارة احشاءها في الدروب. يزيح الجرائد عن جثة استاذه ويحملها بمشقة الى الضفة القريبة. يتوقف في منتصف الطريق الى النهر هشا، متعبا تساوره الشكوك وتنهش همته. من يا ترى، في بلد يرتعش من حمى الحرب، يعبأ بجثة استاذه او بالعثور على قلب قديم!

* القلب السومري او القلب القديم، مجموعة الواح تنسب الى الشاعر السومري المعمر ننسارا وفيها اشعار دينية كان يعتقد بأنها تقي من الكوارث الكبرى (المؤلف)

نيسان ـ بغداد

Hassan _ [email protected]