جون برجر من جنوب فرنسا الى رام الله يصور معاناة الفلسطينيين

حسونة المصباحي

TT

خلال شهر يونيو (حزيران) 2003، قام الكاتب البريطاني المعروف جون برجر، الذي يعيش في جنوب فرنسا منذ فترة طويلة، بزيارة إلى رام الله. ومن وحي زيارته تلك، كتب نصاً مؤثراً حمل عنوان «كذلك كان تعبير عينيها»، فيه تحدث عن عذابات الفلسطينيين في ظل الاحتلال الإسرائيلي. وفي مقدمة النص المذكور، كتب جون برجر يقول: «الطريق الصغير الذي ينسلّ بين الصخور الكبيرة، ينزل إلى واد جنوب رام الله. أحياناً يتلوّى بين حقول الزيتون، فيها الأشجار وقورة، بعضها يعود إلى العصر الرّوماني. هذا المسرب الحجريّ (السيارة يمكن أن تجده جدّ عسير وجدّ متعب)، هو المنفذ الوحيد للفلسطينيين إلى قريتهم القريبة. الطريق المعبّد والأصلي، الذي أصبح ممنوعا عنهم، هو الآن مخصص للإسرائيليين الذين يقطنون المستوطنات. لمحت زهرة حمراء بين الشجيرات، وتوقفت لكي أقطفها. بعد ذلك عرفت أنها تدعى Adonis Aestivalis، لونها جدّ غامق وحياتها حسب كتاب النباتات، جدّ قصيرة».

ومتحدثا عما شاهده خلال توجهه إلى رام الله، كتب جون برجر يقول: «يصرخ بهاء محذراً إياي من التوجه إلى الهضبة التي على يساري، فإذا هم شاهدوا أحداً ما يقترب، يطلقون النار، أحاول أن أعرف المسافة التي تفصلني عنهم: أقل من كيلومتر. على بعد مائتي متر تقريباً، في الاتجاه الذي نصحت بتجنبه، لمحت بغلا وحصانا موثوقين، قلت إنهما يضمنان سلامتي، وتقدّمت، عندما وصلت، كان هناك طفلان في الحادية عشرة والثامنة من عمريهما، يعملان وحيدين في حقل، الأصغر يملأ المرشّات غارفا من برميل مخفيّ في الأرض، العناية التي يبديها في عمله ذاك، وحرصه على عدم التفريط في قطرة ماء واحدة، يدلان كم هو الماء ثمين. الأكبر يأخذ المرشّة مملوءة وينزل بحذر إلى قطعة صغيرة في الأرض، حيث يسقي نباتات، الاثنان كانا حافيي القدمين».

وعن قصر المقطم في رام الله، حيث يعيش الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، الذي اجتاحته القوات الاسرائيلية اكثر من مرة، كتب جون برجر يقول: «ركام البلاطات من الاسمنت المسلّح المخلوعة والحيطان المنهارة للحصن الحصين، الذي يسكنه ياسر عرفات، والمخرّب في قلب رام الله، اتخذ هيئة رمزية، لكن ليس بالمعنى الذي يتصوره القادة العسكريون الإسرائيليون. تدمير المقطم مع عرفات وحاشيته في الداخل، بدا لهم البرهان العلني على إذلاله تماماً، مثلما حدث بالنسبة للغرف الخاصة التي داهمها الجيش، وفتشها، و«الكتشوب» الذي يلطخ الثياب والأثاث والحيطان كان الإعلان بصفة خاصة عن أشياء أسوأ سوف تقع في ما بعد. ان عرفات يمثل الفلسطينيين، ربما بشكل أكثر وفاء من أي رئيس دولة أخرى، ليس من وجهة نظر ديمقراطية، إنما من وجهة نظر تراجيدية. من هنا تلك الفخامة الرمزية التي يلاحظها زائر قصر المقطم. بسبب الأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها منظمة التحرير الفلسطينية، التي يتزعمها، وبسبب التعلاّت التي إليها تستند الدول العربية، لم يعد لياسر عرفات هامش للمناورة. هو كفّ عن أن يكون قائداً سياسياً. مع ذلك، هو لا يزال هناك كما لو أنه تحدّ. لا أحد يعتقد فيه، وكثيرون مستعدون للتضحية بحياتهم من أجله. كيف يكون هذا ممكنا؟، ولأنه لم يعد رجلا سياسيا، أصبح عرفات جبلا من الانقاض، لكنه جبل من البلد».

ومصورا معاناة الفلسطينيين في مراكز التفتيش، كتب جون برجر يقول: «مراكز التفتيش تعمل كما لو أنها على حدود داخلية، مع ذلك هي لا تشبه مراكز تفتيش. هي بنيت على شكل حاميات عسكرية، بحيث يتحول كل الذين يمثلون أمامها إلى لاجئين غير مرغوب فيهم. الفلسطينيون لا بد أن يتذوّقوا الإذلال أحياناً لمرات عديدة في اليوم الواحد، وأن يلعبوا دور اللاجئين في بلدهم الأصلي!. جميعهم لا بدّ أن يجتازوا مركز التفتيش راجلين. هناك، جنود ببنادق في حالة تأهب لإطلاق الرصاص، يختارون الذين يريدون تفتيشهم. لا سيارة لها الحق في المرور، الطرق التقليدية دمّرت جميعها، وعلى «الطريق» الإجباري، تمّ نشر صخور وأحجار وعراقيل أخرى من هذا النوع، والنتيجة أن الجميع، بما في ذلك الذين هم في صحة جيدة، لا يمكنهم أن يفعلوا شيئاً آخر غير التقدم وهم يحجلون. المرضى والشيوخ يدفعون داخل علب خشبية موضوعة فوق أربع عجلات (علب صنعت في البداية لنقل الخضر والغلال إلى السوق)، بأيدي شبّان يحصلون من عملهم هذا على قوتهم، وهم يعطون لكل مسافر وسادة تقيه ألم الهزات العنيفة. وهم يستمعون إلى الحكايات التي يرويها زبائنهم. ودائما هم على علم بالأخبار الأخيرة (الحواجز تتغير أماكنها كل يوم). وهم يقدمون نصائح ويتأوّهون ويشتكون ويفخرون بالمساعدات القليلة التي يقدمونها. ويمكن القول إنهم يشبهون الجوقة القديمة لهذه المأساة، بعض الذين يمثلون أمام مراكز التفتيش يمشون بمساعدة عصا، آخرون بمساعدة عكاز».

في آخر نصه، يروي جون برجر لقاء مع مروان البرغوثي، المعتقل الآن في السجون الإسرائيلية، ويكتب قائلا: «التقيت امرأة عجوزا في إحدى القرى، كان البيت من الاسمنت المسلّح، لكنه فقير وغير مكتمل. على جدار الصالون العاري تماما، علقت صورا لحفيدها مروان البرغوثي: مروان فتى صغير، ثم مراهق، ثم أربعيني أخيراً. وهو الآن في أحد السجون الإسرائيلية، وإذا ما هو بقي على قيد الحياة، فإنه سيكون من بين قادة «فتح» القلائل الذين لا بد من التفاوض معهم للوصول إلى اتفاق سلمي صلب. وبينما كنا نشرب عصير ليمون وكانت العمة تعدّ القهوة، ذهب احفادها إلى الحديقة، الأولان في سن السابعة والتاسعة تقريباً، الاصغر اسمه «بلد»، والأكبر اسمه «معركة». هما يركضان في جميع الاتجاهات، ثم يتوقفان فجأة، وينظر كل واحد منهما إلى الآخر، كما لو انهما يخفيان شيئاً ما، ثم يمدّ كل واحد منهما رأسه لكي يتأكد من أن الآخر رآه، ثم ينتقلان مرة أخرى إلى مخبأ غير مرئي. هي لعبة ابتكراها، وهما يمارسانها بين وقت وآخر. الطفل الثالث في سن الرابعة، على وجهه، كانت هناك بقع حمراء وبيضاء وكان يقف على انفراد مثل مهرّج، حزيناً وسعيداً في الوقت نفسه، ولا علم له متى ينتهي ما كان يحدث أمامه. كان مصاباً بالحماقة، وكان يعلم انه ليس عليه أن يقترب من الآخرين. عندما حانت ساعة الوداع، أمسكت العمة بيدي، وكان لعينيها ذلك التعبير المتعذّر تحديده والدّال على لطف خاص حظيت به في اللحظة المناسبة. عندما يضع شخصان سماطاً على الطاولة، يتبادلان النظرات لكي يضعاها في المكان المناسب، تصوروا أن الطاولة هي الكون، والسماط هو حياة أولئك الذين يتحتم علينا انقاذهم. كذلك كان تعبير عينيها».