«العار» للجنوب أفريقي كويتزي أشعرت الآخرين بقصورهم الروائي

TT

تركت رواية «العار» للكاتب الجنوب أفريقي جي إم كويتزي أثرا بارزا ضمن الأدب القصصي الجديد، فعدا عن فوز كاتبها للمرة الثانية بجائزة «البوكر» البريطانية فإنها كشفت ما تحويه روايات الكثيرين من الكتّاب من قصور، فالكثير منا شعر بقصوره التقني أمام هذه الرواية وفي أسوأ الأحوال شعر بأن «قيمه» الأدبية التي يعتبرها ذات أهمية كبيرة هي في نهاية المطاف ليست سوى نسيج بال تماما. هذا الهاجس الذي يتحكم بالكاتب من عدم السقوط بفخ الرضا عن الذات فكريا، مثلما هي الحال عبر اللغة، لا تعرقل أبدا رضا القارئ بما تتضمنه رواياته. لكن ذلك قد يكون حسب ما يسمح به الأدب القصصي لكويتزي في الوقت نفسه فإن الشعور يبقى في النفس من أن رواياته تمتلك كل شيء إلا الرقة. لكن البحث عن الرقة هو موضوع روايته القصيرة الجديدة «الشباب»، فهذا العمل يبدو أكثر من أي شيء آخر كصورة للفنان في شبابه. الرقة ومسائل القلب والعاطفة، هذه تبدو أحيانا صفات نوعية متناقضة مع ما يأمل فيه سارد القصة «جون». وقد يظن المرء أنها نقيض للبرود الذي يُتَّهم جون كويتزي به أحيانا. بل قد يظن المرء أن هذه المشكلة هي حقيقية.

درس البطل جون الرياضيات في جامعة كيب تاون في فترة الخمسينات وعاش بشكل متقشف جدا للتمكن من مواصلة دراسته. وكان يشتغل في مكتبة للحصول على دخل صغير. كان يأمل أن يكون كاتبا لكنه أدرك بعد فترة قصيرة أن «الفن لا يستطيع أن يعتاش على الفاقة لوحدها. لذلك كان يجب أن يسعى للحصول على الحميمية والعاطفة والحب أيضا».

هذه العبارة هي التي حددت اللحن للرواية، فتحت تدفق النثر الممزوج بقدر متخف من التهكم. وهذا ينطلق من قناعة البطل أن «الفن يجب أن يكون واضحا مثل اللهيب»، هذا اللهيب الذي تُجر إليه النساء دائما بدون قدرة على المقاومة لإنارة الغياب الأسود الناجم عنهن أيضا!

يحلم جون البطل بالعاطفة في أوروبا. وهذا ما يجعله يفكر هكذا: «إذا كانت النساء يلقين بأنفسهن على هنري ميللر فإنه مع أخذ الفروق بنظر الاعتبار فإنهن لا بدّ أن يلقين بأنفسهن على عزرا باوند وفورد مادوكس فورد وأرنست همنغواي والكتاب الكبار الآخرين الذي عاشوا في باريس أثناء تلك السنوات. لذلك ففي حالة أن يكون في باريس أو لندن فهل سيقوم بمقاومة هذا التيار بعدم الاشتراك في اللعبة؟

أجبر الشعور باليأس وتهديد الخدمة العسكرية البطل جون أن يهرب من جنوب أفريقيا ليذهب إلى لندن، مدينة «الأرض الخراب» والمطابخ الغازية ومغاطس الماء البارد. وفي هذه المدينة حصل جون على عمل مع شركة وظل يقضي وقت فراغه في مكتبة المتحف البريطاني يحاول كتابة الشعر ثم لاحقا النثر ويقوم ببحث عن الكاتب فور مادوكس فورد.

والكاتب الشاب جون هو مثل تشوستر يحب «المسافة الباردة المتهكمة» التي يضعها مع أبطاله بعكس شكسبير لكن الحضور الأدبي الحقيقي وراء هذا الكتاب هو جوزيف كونراد. فرواية «الشباب» لكونراد التي صدرت سنة 1898 لها نفس الثيمة التي تحكم برواية كويتزي الجديدة. فهي تصف اللقاء الأول بين شاب مع ثقافة غريبة عنه. وكلا الكاتبين يشتركان في المزاج المشترك الذي يجمع المثقفين ببعضهم بعضا وبحس عميق بالانفصال عن الآخرين وصراع وجودي مع فكرة الالتزام بل يشتركان حتى بالفعل الفني نفسه.

وما أخذ كويتزي من كونراد هو طريقة التعبير. فالتكنيك الذي يستخدمه كلا الكاتبين يعتمد على إبقاء «مسافة تهكمية جيدة»، وتمييز بين محتوى الكلمات المكشوفة والمتضمَّنة على صفحات الكتاب، وهي طريقة تسعى إلى التعبير بدون تأكيد. (الإيحاء أكثر من الفرض).

لذلك فإنه في عمق تركيب هذا الكتاب تعمل هذه الفجوة كأنها حس ديني مطروح كأنه الصورة السالبة. فليس هناك شيء مثل المغفرة التي تظل تتراوح في فضاء الرواية مع وجود مسافة تهكمية فاصلة بين صوت الراوي وما ينقله على الورق. إنه يبدو كأنه ضوء مرشد لأمل قادم أكثر مما يمكن توقعه من كاتب مثل كويتزي. بل أن هذا الضوء المرشد هو ظلال بسمة تتركها الدعابة المخفية بشكل جيد وراء السرد الروائي لكن هذا الكتاب يحمل بين طياته قدرا من السوداوية أيضا. نحن جميعا نتذكر ما يحمله الشباب من حصار ذهني وما فيه من ظلمة. إن هذه الراوية تشجع المرء على أن يضع رأسه بين يديه ويظل يكرر ذلك أكثر من مرة.