دراسة عراقية عن شعر الحديث

بناء الصور عن طريق التشبيه عند علي الحلي

TT

عن دار «الشؤون الثقافية» ببغداد، صدرت دراسة نقدية عن الشاعر العراقي علي الحلي لسعيد عبد الرضا التميمي، وهي الدراسة الأولى، على الأغلب، عن هذا الشاعر الذي برز في أربعينات وخمسينات القرن الماضي.

قدم المؤلف في الفصل الأول الذي جاء بعنوان «بغية الموضوع»، القصائد الوطنية والقومية، حيث عاش الحلي المرحلة المتفجرة من تاريخ العراق والعرب، وكان ممتلئا بالمشاعر الوطنية والقومية، وفي هذه الفترة اعتمد الشاعر أسلوبا خطابيا لغرض التحفيز على رفض النظام الحاكم والدعوة للثورة ضده، وقدم المؤلف مجموعة من أشعاره الوطنية الرافضة للحكم القائم آنذاك، واستمرت نظرة الشاعر إلى الحكم نظرة رافضة، حتى عند مجيء عبد الكريم قاسم بعد ثورة 1958، وقام الكاتب بدراسة مجموعة قصائده في تلك الفترة، وهي قصائد تنوعت بين العمودي والحر. كما قدم للشاعر مجموعة من القصائد التي كتبها عن الجزائر، أولاها كانت بعنوان «ثورتنا هناك».

وتناول الحلي قضايا أخرى، فكتب عن فلسطين قصائد منها: «الفدائيون»، و«كل عام وأنت بخير»، و«نيسان»، و«الدم والربيع». وتناول صمود مصر بقصيدة «يا مصر الحرة لا تهني»، وقصيدة عن السودان «السودان الجديد»، وعن تونس قصائد «على أطلال قرطاجة» و«بنزرت» و«الحزن الآخر».

بعد القصائد الوطنية والقومية، تناول الكاتب موضوع الحب والمرأة في شعر الحلي، الذي له خصوصية يختلف فيها عن بعض شعراء جيله الذين وضعوا في حياتهم امرأة واحدة في زاوية لا يحيدون عنها. فعاطفة علي لم تنفرد بشكل جارف تجاه الحب والمرأة، وكانت واقعية نحا فيه منحى الصدق، وجسد انفعالاته تجسيداً واقعياً. فالحلي «يقدم تجربته في الحب الروحي، ويقيم الموازنة بين الحب الذاتي وحب الاختيارات الأكبر، اختيارات المصير والتاريخ، في قصائد الحب، سواء أكان حباً روحياً أم جسدياً». كما ان شعر الحب الذي تناوله الحلي، هو ليس ذلك الغناء العاطفي اللهيف الذي يصدر عن العاشق. إن تجربة الحب الحسّي التي تبدو بارزة في شعر الحلي، لم تكن نتيجة اخفاق عاطفي، حسب المؤلف، إنما جاءت معبرة عن معاناة شخصية بعد سنوات من القيود الاجتماعية والتقاليد المحافظة على صعيد العائلة والمحيط الاجتماعي. وقراءة متفحصة لشعره في الحب تبين أن معظم هذا الشعر كتب حين كان خارج الوطن.

ثم ننتقل إلى شعر المناسبات، وقد ضم شعر الحلي قصائد عديدة قالها في المناسبات وتركزت في الرثاء وقصائد الذكرى، وتشمل رثاء الأصدقاء والشعراء والشهداء. وقدم المؤلف هنا بعضا من قصائده في الرثاء لبعض الأصدقاء. أما قصائد الذكرى، فقد تركزت حول ثورات الوطن ومناسبات قومية ووطنية. ومن الواضح ارتباط شعر المناسبات بذاتية الشاعر، كون المناسبة لا تقترح عليه من الخارج، بل هي لديه مسألة إرادية ذاتية. ثم ننتقل إلى الاتجاه الإنساني، فالحلي تناول القضايا الوطنية والقومية في ضوء انتمائه الفكري، وهذا الأمر جعله يطرق الموضوعات الإنسانية التي ترتبط بشكل جذري مع الوطنية والقومية. ان هذه الصلة الوثيقة بين القومية والإنسانية تبدو أقوى كلما تعمقنا في دراسة القومية العربية التي غنى لها الحلي طيلة حياته، إذ نجدها متفتحة، غير متعصبة ولا مستعلية.

أما الفصل الثاني فجاء بعنوان «بنية اللغة»، وانطلق الكاتب من منطلق التعامل مع لغة الحلي مبتدئا بالتعرف على معجمه الشعري، بوصفه مفاتيح يستعملها الشاعر لتشكيل مادته اللغوية، مفردات، وتراكيب، وصورا، ثم نجد طريقنا إلى المستويات اللغوية الأدائية التي تعاملت معها قصائد الحلي، وهي لغة الموروث الأدبي، اللغة البسيطة ولغة الناس اليومية. أما في معجمه الشعري، فنجد ألفاظا تشيع في قصائده، في ضوء حالة نفسية معينة عاشها، ومن هذه الكلمات: السجن، الموت، الظلام، الطاغوت، الغابة، الأصفاد، الجرح، الدم، الجوع، الحزن، العذاب، الفجر، الوطن، الشفاه. وقدم الكاتب أمثلة لشعر الحلي تناولت هذه الكلمات، وبصيغ مختلفة. وهناك كلمات أخرى في معجمه تناولت القضايا الوطنية والقومية، منها: النضال، الوحدة، الطغاة، الحرية، الكفاح، العنكبوت، الثأر، الخلود، الجدار، وهي مفردات جاءت في ظل الجو السياسي، وهدي الأفكار القومية.

انتقل المؤلف إلى المستويات اللغوية التي استعملها الشاعر، فالمستوى الأول هو استخدام لغة الموروث الأدبي، فالتراث بمفهومه العام يعد ركيزة أساسية لأي شاعر. والحلي حقق التواصل بالموروث الأدبي بمفهومه العام، واستعمل المفردات التي ندر وجودها في لغة عصرنا مثل: الدجن، السبسب، النأمة، السجوم، المرازم، مهيع، عندم، السجسج، النسناس، السغب، الواجف، المرنان، الطخياء، الأطم، الفاغمات، السجواء، الحندس، الرمس. وجاء استعمالها بمعنى، ولوجود ضرورة فنية وموضوعية ونفسية لهذا الاستعمال.

وقدم المؤلف مجموعة من الأبيات الشعرية كأمثلة لاستخدام مثل هذه الألفاظ. المستوى الثاني، هو استخدام اللغة البسيطة ولغة الناس اليومية، وهي اللغة الواضحة البعيدة عن التعقيد والغموض في ألفاظها وتراكيبها، منطلقة في ذلك من التمويل المباشر للإحساسات والانفعالات، بمفردات مباشرة وألفاظ متداولة.

والظاهرة الأسلوبية الأخرى للشاعر هي التكرار، الذي ورد بشكل كبير في شعره، وأدى وظيفة دلالية، وأثار حالة معينة من خلال استخدام هذا الأسلوب اللغوي، وتنوع التكرار، من تكرار الحرف، وهو ابسط أنواع التكرار وأقلها أهمية في الدلالة، والتراكيب. ومن هذه الحروف (من، لم).. أما تكرار الكلمة فقد استخدم في قصائد متعددة، مثل كلمة (أنت)، ثم تكرار العبارة أو الجملة مثل تكراره لعبارة (لا تسلنا). وقدم المؤلف مجموعة من الأبيات الشعرية، موضحا أنواع التكرار.

الفصل الثالث هو «بنية الصورة»، وللشاعر أساليب لبناء الصورة في شعره اهمها تبادل المدركات، والرمز، والرمز الاسطوري، والتشبيه، والوصف المباشر.

اولا: تبادل المدركات، ويقصد به تبادل صفات الماديات للمعنويات او المعنويات للماديات، وباستخدام طرق متعددة، منها التجسيد الذي يعني تقديم الشيء المعين في جسد شيء او نقل المعنى من نطاق المفاهيم الى الحالة المادية الحسية، وهو لون خيالي، حيث يجعل الحياة اكثر انسانية تشمل المواد والظواهر والانفعالات. ويقدم المؤلف امثلة من شعر الحلي، موضحا موضوع تبادل المدركات مع شرح لكل قصيدة وتوضيح.

ثانيا: الرمز والرمز الاسطوري، وهو من المكونات للقصيدة الحديثة وكذلك التوظيف الفني لها بعد نقل التجربة من مستواها الشخصي الى مستوى انساني جوهري. ويقدم المؤلف مجموعة من الرموز التي يتعامل معها الحلي في صوره الشعرية، وذلك بقصائد متنوعة. أما الرموز التراثية، فالحلي كان قريبا من التراث وقرأ الشعر الجاهلي بانبهار، فاستخدم الرموز التراثية التي ترتبط بالحاضر وفق رؤيته الخاصة.

ثالثا: بناء الصور عن طريق التشبيه، والصورة التشبيهية تمثل ابسط الاساليب الفنية في التصوير كما يقول المؤلف، لا سيما اذا اعتمد الشاعر على البحث عن الصفات الحسية المتشابهة بين الاشياء من دون ان يجهد نفسه في الغوص عميقا، واستخراج علاقات تشابه عميقة غير ظاهرة للعيان.. فالتشبيه في هذه الحالة يعتمد طرفي المقارنة وعلاقاتها الحسية المباشرة من دون ان تصاحب هذه المقارنة تفاعلات او انصهارات.

في الفصل الرابع المعنون «بنية الايقاع»، يوضح المؤلف ان الايقاع يمثل الفارق الاساس بين الشعر والنثر، فإذا كانت موسيقى النثر تتبع خطا مستقيما فان الايقاع الشعري يمثل دورية زمانية تتكرر فيها الوحدات الوزنية على مسافات متساوية ومتجاوبة فلا شعر من دون ايقاع.. ولدراسة البنية الايقاعية لا بد من دراسة نوعين من الموسيقى، الموسيقى الداخلية، وموسيقى الاطار. والموسيقى الداخلية هي النغم الذي يجمع بين الالفاظ والصورة بين وقع الكلام والحالة النفسية للشاعر. لقد استعمل الحلي وسائل عدة لتحقيق الموسيقى الداخلية، منها تكرار التماثل الصوتي، وقدم المؤلف عددا من قصائد الشاعر موضحا استعماله للتكرار الصوتي.. وانتقل الى الحركات المتجانسة التي يلجأ لها الشاعر في قصائده لبناء الموسيقى الداخلية.. اسلوب تكرار الحركات المتجانسة.. والاسلوب الاخر هو التضاد وتناوله الشاعر في تصعيد الايقاع والتدويم الذي استخدمه الشاعر في بعض قصائده وجعل منه نسقا ايقاعيا يعمق التأثير الانفعالي لدى المتلقي. والتدوين يعني تكرار النماذج الجزئية والمركبة بشكل متتابع او متراوح بغية الوصول الى درجة عالية من الوجد الموسيقي.

الموسيقى الاخرى هي موسيقى الاطار، وتعد من مستلزمات التوافق الموسيقي الناجح مع الموسيقى الداخلية، لما يحققه الوزن من دلالات وجدانية وعاطفية.

أما بنية الاداء الدرامي والقصصي فهي لدى الحلي احد ألوان بناء القصيدة من خلال توظيف عنصر الحوار والحوار الداخلي وتعدد الاصوات، وتقديم صورة عامة للمشهد حيث يمكن ان يحقق الوحدة العضوية بشكل دقيق لما يحققه هذا اللون من ترابط وتلاحم بين ابيات القصيدة.

الكتاب: عرس الشناشيل المؤلف: سعيد التميمي الصفحات: 180 ـ قطع متوسط الناشر: دار الشؤون الثقافية ـ بغداد =