عربة اسمها الرغبة

تينيس وليامز في «تعشيقة» إلكترونية جديدة

TT

قدم العرض الأول لمسرحية «عربة اسمها الرغبة» للكاتب الأميركي الشهير تينيس وليامز عام 1947 في نيويورك من اخراج عملاق السينما الأميركية ايليا كازان. وشتان ما بين عرض كازان الذي وظف أبرز ممثلي تلك الحقبة في مسرحيته، وبين عرض المخرج الألماني الشاب كلاوس برانجينبيرج الذي اناط ادوار المسرحية الرئيسية الى ممثلين شباب بدأوا حياتهم الفنية في التسعينات وعاصروا مجتمع التلفزيون الالكتروني الذي يطلق عليه الشاعر الألماني البارز هانز ماجنوس اينزنبيرجر اسم «الوسط ـ صفر». وربما ان هذه «التعشيقة» الالكترونية ـ الشبابية الحديثة التي زود بها برانجينبيرج عربة الرغبة هي انجح ما قدمه من جديد الى هذا الانتاج الكلاسيكي وسر النجاح الذي حققه على مسرح ام باو تورم في كولون.

في حديثه عن الشوق والحرية والعزلة، وهي عناصر الصراع الرئيسية في المسرحية، قال وليامز بعد العرض الأول للمسرحية في نيويورك يوم 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947: انا لا اعتقد بالاوغاد أو الأبطال، وما يهمني هو كيفية تعامل البعض مع الافراد الاخرين على نحو حسن او سيئ. والأهم هو كيف يتعامل الانسان مع الآخرين، ليس عن ارادة، وانما عن اضطرار أو بالعلاقة مع وضع ومع ماضي ومحيط هذا الشخص الآخر. والحقيقة ان المسرحية تتحدث بالذات عن هذا الموضوع. فالصراع الرئيسي في عربة اسمها الرغبة يدور حول اهم مشاكل المجتمع الاميركي في الخمسينات، والتي تشددت في عصر الالكترونيات، ألا وهي العزلة (الوحدة مرض المجتمع الاميركي ـ تينيس وليامز) والرغبة والحرية. تعيش الاخت الشابة ستيلا في بحبوحة حب وتفاهم مع زوجها المتوحش ستان كوفالسكي في بيت صغير من غرفتين حينما تباغتهم الاخت الكبرى بلانش دو بوا بزيارة غرضها نفض غبار العزلة والتوحد والبحث عن الاستقرار لفترة لديهما. وتضطر بلانش، المرأة السكيرة والحالمة الهشة التواقة للحب والحنان للدخول في صراع دام منذ الوهلة الاولى مع الزوج غير المتحضر، العنيف، والنزق ستان الذي يشعر بالتهديد الذي تمثله بلانش لعش الزوجية الذي يرعاه. ويبدأ ستان بتصعيد الموقف ضد بلانش وسط اعتراضات واهنة من زوجته الحامل التي تشعر بالمسؤولية تجاه اختها، وينتهي الصراع بالتالي بضرب الزوجة يوما واغتصاب الاخت يوما آخر بعد ان يتم نقل ستيلا الى المستشفى خشية الاجهاض.

ويحتل التلفزيون القائم في وسط المسرح لب الاحداث في «عربة الرغبة ـ 2000» بتفاعله مع وتفعيله للاحداث، فالمجتمع الذي صوره المخرج الشاب برانجينبيرج هو مجتمع التلفزيون المعاصر الذي وصفه اينزنبيرج بالقول «انه العلاج السيكولوجي الجماعي والكوني الوحيد». ويبث التلفزيون اغاني الروك الصاخبة الى جانب مشاهد من المسلسل التلفزيوني الاجتماعي المعروف «الحب المحظور» وهو مسلسل الماني يعالج قضايا اجتماعية مماثلة لقضايا «عربة اسمها الرغبة». واذ ينقطع البث اثناء مشاهد الصراع التناحري على خشبة المسرح فإنه يستمر لاحقا، بعد انتهاء المشهد، عبر مشاهد اشكالية اخرى من المسلسل المذكور. ويعرض المخرج الزوج ستان وصديقه ميتش وهما يلعبان لعبة الكترونية للكاراتيه على التلفزيون مع اشتداد مشاهد القتال، فتتكرر الضربات القاضية، مع احتدام الصراع بين ستان وبلانش. ونجح المخرج هنا فنيا في ربط الاحداث المسرحية بالاحداث التلفزيونية كما نجح في ابراز دور التلفزيون في العنف الاجتماعي السائد وكأداة للمجتمع الالكتروني الحديث تكرس المزيد من العزلة والفردانية، فالتلفزيون وجهاز الاستيريو والهواتف النقالة على مسرح «ام باو تورم» كانت تعبيرا عن مجتمع الاتصالات القائم اليوم وتعزز الفردانية واللامبالاة الاجتماعية تجاه مصائر الآخرين.

عرض المخرج اسماء الممثلين واسم المسرحية على شاشة التلفزيون كما اعلن فترة الاستراحة ونهاية المسرحية على الشاشة المتلامعة. وكان التلفزيون يعمل باستمرار ما لم يتدخل المخرج لوقفه بسبب المشاهد او يتدخل أحد الممثلين لوقفه كي يتفرغ لحواره. وحسنا فعل المخرج حينما قطع البث التلفزيوني فجأة اثناء مشهد الاغتصاب ليقول ابلغ كلماته عن التلفزيون والعنف والجنس ومشاهد الاغتصاب فيه.

نالت الممثلة ايفا شبوت، وهي اكبر الممثلين سنا في المسرحية، استحسان الجمهور من خلال تصفيق طويل، فقد اجادت تمثيل دور بلانش ورغباتها الانسانية البسيطة وهي الشخصية الرئيسية في المسرحية. كما اجاد الممثل «الزاعق» فتيح سيفيكولا (التركي الاصل) دور الزوج المتوحش وعبر عن ذلك بحركاته السريعة وصوته الجهوري وتقاطيعه الشرقية. كما نجح الممثل طوال الوقت في استعراض همجية ستان عبر سلسلة من التصرفات الاستفزازية والممتدة بين الضرب ومسح الحذاء بشرشف مائدة الطعام وقذف الصحون الى زوايا المسرح. ربما اراد المخرج، من خلال اختياره لممثل تركي، ان يمنح الدور اثرا اكبر في الجمهور، لكن توقيت القضية مع النشاط النازي المتصاعد هذه الايام لم يكن موفقا تماما.

واستطاعت الممثلة الشابة، انيتا فريير التي بدأت للتو لعب احد ادوارها الرئيسية في التلفزيون الالماني «خلف القضبان» ان تقدم عرضا مقنعا لدور ستيلا الحنينة والمترددة بين واجباتها الزوجية والاخوية.

يقول تينيس وليامز: هناك ما هو اسوأ من ان يعيش الانسان في عالم فنتازي. اسأل نفسي بالحاح ما اذا كان العالم الفنتازي هو ليس العالم الوحيد الذي يستطيع الفنان ان يعيش فيه. ان عرض مسرحية «عربة اسمها الرغبة» على مسرح ام باو تورم مشوق، مسل وحافل بالصراعات حول الرغبة والبحث عن الحرية وحب الحياة (بلانش) في عالم فنتازي مع الاسف. فهي مسرحية عن الرغبات «التي تتسلل الى سريرك كالحشرة وتقرصك وانت نائم» كما يقول الشاعر رامشتاين.